إليك هذا المقال الذي يتناول صفات الشركات العائلية القوية تحديداً. تُعدّ الشركات العائلية حجر الأساس لمعظم الاقتصادات الوطنية، وفقاً لتقرير صدر مؤخراً عن مؤسسة البحوث "كريدت سويس ريسيرش" (Credit Suisse Research). إذ بمقدورها خلق فرص عمل، وتحفيز الابتكار، وتحقيق عوائد ممتازة.
ومع ذلك، وكما ذكرنا سابقاً في المقال المنشور بمجلة "هارفارد بزنس ريفيو" (HBR) لعام 2015، لا يمكن تحقيق هذا النجاح إلا من خلال القواعد الأربع التالية: الحفاظ على الحوكمة الرشيدة، وتحديد المواهب العائلية وغير العائلية وتطويرها، واتباع نهج منضبط في التعاقب الوظيفي، والحفاظ على الثقل النوعي للعائلة المؤسِّسة. وبخصوص القاعدة الأخيرة، كنا قد ربطناها بوجود ما بين فرد واحد على الأقل إلى 3 أفراد على أقصى تقدير من العائلة في المناصب المؤثرة في الشركة. ولكن العملاء لم يتوقفوا عن مطالبتنا بالمزيد من التفاصيل. وهكذا شرعنا في إجراء دراسة عالمية استغرقت 3 أعوام، بالتعاون مع "الشبكة الدولية للشركات العائلية" (FBNI) (Family Business Network International)، لاكتشاف عناصر "الثقل النوعي للعائلة".
صفات الشركات العائلية القوية
تضمن بحثنا إجراء مقابلات شخصية مع أكثر من 50 مسؤولاً تنفيذياً في 28 شركة عائلية رائدة في كل من الأميركتين وأوروبا وآسيا، بالإضافة إلى إجراء استبانة لـ 4 آلاف عضو في "الشبكة الدولية للشركات العائلية"، التي أسفرت عن 308 دراسات حالة وتحليل مفصّل لـ 15 شركة عائلية من مجموعة واسعة من القطاعات في مختلف أنحاء العالم.
وقد استنتجنا أن "الثقل النوعي للعائلة" يتألف من 6 عناصر.
أولاً، يجب أن تمتلك العائلة منظومة قيم يلتف حولها أفرادها وتوفر إطاراً مشتركاً لبناء العلاقة بين الشركة والعائلة. فهذا يعطي المؤسسة بعداً أخلاقياً يساعد على الاستمرار في مواجهة التحديات واتخاذ القرارات الصعبة، ويوفر وسيلة قوية لتمييز نفسها في السوق.
ويجب أن تكون رؤية المستقبل واضحة المعالم ومعلنة للجميع بحيث تمثل بوصلة يهتدي بها سلوك العائلة. تعد هذه الرؤية المشتركة ذات أهمية خاصة في بيئة الأعمال الحالية، التي قد تتصف بنسب عالية من الغموض والتعقيد، ونادراً ما تصلح فيها التحسينات التدريجية المعتادة. كما أنها تتيح للشركات المملوكة للعائلات تحديد الأهداف والأولويات.
يجب أن تراعي العائلة أقصى درجات الوضوح على مستوى مشاركتها، وإلى أي مدى سيكون تبادل المعلومات ضرورياً لضمان تمكين كل فرد من الاضطلاع بمسؤولياته، وأن يمثل قوة إيجابية للشركة.
كما يجب عليها أيضاً إظهار التماسك والتفاعل: التفاهم والاحترام والدعم المتبادل، وتبادل الأفكار ومناقشة القضايا الرئيسة والحساسة في مناخ صحي. وهذا يحدد مدى مرونة العائلة وقدرتها على الاستجابة للتغيير في المستقبل.
أما الحوكمة الرشيدة للعائلة فتعني ضمان اتخاذ القرارات وممارسة السلطة، وفقاً لأفضل المنهجيات المطبقة والمقبولة لتفادي النزاع والالتزام بالمهنية واستقطاب المواهب المميَّزة والحفاظ عليها.
وأخيراً، يجب تحديد مبادئ المناصب القيادية والأدوار المنوطة بها بوضوح لجميع المسؤولين التنفيذيين بمستوى معين، سواء كانوا يعملون داخل الشركة أو خارجها.
وجدنا أن ثمة علاقة قوية تربط بين هذه العناصر والنجاح المالي. غير أننا وجدنا أيضاً أن 40% من الشركات العائلية المتوسطة والكبيرة التي تحقق إيرادات سنوية تتجاوز 500 مليون دولار، جاء أداؤها دون المستوى في 3 من أصل 6 مجالات على الأقل.
ما الذي يجب فعله، إذاً، حتى تظل الشركة العائلية على المسار الصحيح وتحقق الاستمرارية؟ الخطوة الأولى هي تشخيص موضعك الحالي على كل محور. ثم اتخاذ الخطوات اللازمة لتعزيز موقفك في الجوانب التي تمثل نقاط ضعفك.
على سبيل المثال، عند إنشاء منظومة قيمية، يمكنك البدء بتحديدها، ثم ربطها بالشركة، ثم صياغتها ودمجها. ويتمثل الهدف النهائي للرؤية من خلال دمجها باستمرار في حياة الشركة والأفراد. انظر، على سبيل المثال، شركة "هنكل" (Henkel)، التي تأسست عام 1876، وتُعد حتى تاريخ كتابة هذه السطور واحدة من أكبر الشركات العائلية في ألمانيا بإيرادات تصل إلى ما يقرب من 20 مليار يورو. ولا تزال معظم أسهم شركة الصناعات الكيماوية الاستهلاكية التي يعمل فيها 53 ألف موظف مملوكة لمساهمين من أكثر من 100 عائلة. لكنهم منظمون بدقة عالية، ولديهم تصور مشترك وموحد حول مستقبل شركة "هنكل" والدور المنوط بهم للوصول إلى ذلك المستقبل المنشود.
وفيما يخص التماسك، يجب أن تلتزم الشركات العائلية بالتدفق الرسمي للمعلومات، وعقد المنتديات بصفة منتظمة، وإدارة النزاعات بطريقة مهنية. وهناك "ليغو غروب" (LEGO Group)، إحدى الشركات الرائدة في صناعة الألعاب في العالم، المملوكة الآن للجيل الثالث من مؤسسيها، حيث بلغت إيراداتها 4.8 مليارات يورو، ويعمل بها 15 ألف موظف، ويحرص أفراد العائلة على تقسيم أنشطتهم بدقة متناهية بين مختلف أقسام الشركة. ويعتمد كل ذلك في الأساس، على وجود رابطة قوية من التفاهم والاحترام والدعم وتعزيز تطور الجميع لتمكينهم من تحمل مسؤوليات جديدة.
يجب توضيح المستويات الصحيحة للمشاركة المعتمدة على الخبرة والمنفعة. ويجب إعداد الحوكمة بما يتناسب مع معايير القطاع الذي تعمل به الشركة، بما في ذلك القواعد المتعلقة بتشكيل مجلس إدارة احترافي وتعيين الكوادر الوظيفية من داخل العائلة وخارجها. كما يجب المبادرة بتحديد مبادئ القيادة والمناصب الوظيفية مسبقاً. ومن أبرز الأمثلة على ذلك شركة "دابُر" (Dabur) العائلية، التي تأسست في عام 1884، وهي واحدة من شركات السلع الاستهلاكية سريعة التداول الرائدة في الهند (وأكبر شركات الطب القديم والبديل (الأيورفيدي) والرعاية الصحية والطبيعية في العالم) بإيرادات تزيد على مليار دولار وقيمة سوقية تتجاوز 10 مليارات دولار. وقد شكلت العائلة المؤسسة (وهي الآن في الجيل الخامس من أبنائها) مجلس إدارة متوازن من بين أفرادها، بالإضافة إلى مدراء وإدارة مستقلة، وكانت من أولى الشركات في البلاد التي تفصل الملكية عن الإدارة في عام 1998. كما أن لديها ما يسمى بدستور العائلة الذي يوضح الأدوار المنوطة بكل فرد منها، وفي حين أن الكثيرين منهم لا يزالون يمتلكون أسهماً فيها، فإن قلة مختارة منهم فقط تتدخل في أعمال الإدارة.
ورغم أن معظم الشركات العائلية تفشل في الاستمرار حتى الجيل الثالث، فإن بعضها قادر على مواصلة النجاح. لكن لماذا؟ لأنهم يتقنون المحاور الستة كلها لتحديد صفات الشركات العائلية القوية والثقل النوعي للعائلة. فلديهم القيم والرؤية، ويطبّقون الأسلوب الصحيح في المشاركة، ويتمتعون بالتماسك والتفاعل، ويحافظون على الحوكمة العائلية الرشيدة، ويتصفون بالوضوح فيما يخص مبادئ القيادة والأدوار المنوطة بأفرادها.