لا يوجد إجماعٌ حول العوامل التي تميّز فكرة مبتكرة عن غيرها من الأفكار، ولا العوامل التي تجعل الفكرة المبتكرة ذات قيمة حقيقية.
على سبيل المثال، تكشف المناقشات حول إذا ما كانت الإنترنت اختراعاً أفضل من العجلة عن انحياز كل فرد إلى تفضيلاته الشخصية في أغلب الأحيان، بدلاً من الاستناد إلى أدوات النقاش الموضوعي. وبالمثل، يختلف الخبراء حول أنواع الابتكار ومستوياتها التي تحقق أكبر فائدة ممكنة للمؤسسات؛ فقد أثبت بعض الدراسات أن الابتكار الثوري (الذي يبدو مثيراً للاهتمام) يمنح مزايا تنافسية مستدامة، لكن البعض الآخر يشير إلى أن الابتكار "التطويري"، مثل نسخة آيفون المُطوَّرة عن النسخة الأصلية للآيفون، أكثر فعالية عموماً، لا سيما أنه يحد من عدم اليقين في السوق. هناك أيضاً دليل غير حاسم حول إذا ما كان علينا الاهتمام بآراء المستهلكين؛ فقد أثبت بعض الدراسات أن التركيز على العميل ضار بالابتكار لأنه يحصر اهتمامك دائماً في مواكبة أذواق العملاء، لكن البعض الآخر يدافع عن هذا النهج. حتى المقولة الشهيرة المنسوبة إلى هنري فورد حول هذا الموضوع: "لو أنني سألتُ الناس عما يريدون، لقالوا لي إنهم يريدون خيولاً أسرع"، لا تزال محل خلاف.
أضف إلى ذلك أن الإنسان معروف بأنه يسيء تقييم مزايا أفكاره؛ إذ يقع معظم الناس في مزلق وهم التفوق الذي يجعلهم يبالغون في تقدير مواهبهم الإبداعية، مثلما يحدث في مجالات الكفاءة الأخرى (على سبيل المثال، يدّعي 90% من السائقين أن كفاءتهم في قيادة السيارات أعلى من المتوسط، وهو احتمال مستبعَد رياضياً)؛ لذا من الواضح أننا لا نستطيع الاعتماد على تقييم الفرد لنفسه كي نحدّد إذا ما كانت أفكاره إبداعية أم لا.
على الرغم من ذلك، فثمة معايير محددة بأعلى درجات الدقة الممكنة للتنبؤ بالشخص القادر على توليد أفكار إبداعية
في الواقع، أثبتت الأبحاث أن احتمالات توصُّل البعض إلى أفكار جديدة ومفيدة تفوق غيرهم بمراحل، وأن هؤلاء الأفراد المبدعين، بغض النظر عن مجالات خبرتهم ومسمياتهم الوظيفية وخلفياتهم المهنية، يميلون إلى إظهار مجموعة متكررة من السمات والسلوكيات النفسية. وقد خلُصت المراجعة التفصيلية لأكثر من 100 دراسة علمية إلى أن المبدعين يجيدون تحديد المشكلات (أكثر من إجادتهم لحلها)، فهم يتصفون بالشغف والمشاعر المرهفة، والأهم من كل ذلك أنهم يمتلكون عقولاً متعطشة لمعرفة كل جديد؛ فهم منفتحون على الخبرات الجديدة ومتمردون على الواقع ويحبون الاستطلاع. تحدد السمات الشخصية القدرات الإبداعية بدقة أكبر مقارنة بمعدل الذكاء أو مستوى التحصيل الدراسي أو الحافز.
ومع ذلك، فالإبداع وحده لا يكفي للابتكار؛ إذ يتطلب الابتكار أيضاً تطوير الفكرة وإنتاجها وتنفيذها. لعل هذا هو السبب في أن عدد المبتكرين "الكامنين" أكبر بكثير من عدد الابتكارات الفعلية، ولعله يفسر أيضاً سبب إقدامنا جميعاً في مرحلة ما على توليد أفكار رائعة لم نكلف أنفسنا عناء تنفيذها مطلقاً. وإليكم اثنين من ابتكاراتي التي ينطبق عليها هذا الوصف: استئجار صديق، وهي خدمة تتيح للسائحين الاستعانة بخدمات السكان المحليين للحصول على المشورة أو ببساطة الاستعانة بخدمات شركة ما، وعلاقة الصداقة القائمة على تحديد الموقع الجغرافي عبر تطبيق يستطيع اكتشاف المرشحين المناسبين قريباً منك بناءً على تحديد السمات الشخصية. وعلى غرار ما حدث مع معظم أفكاري، فقد سبقني الآخرون إلى تنفيذ هذه الأفكار بنجاح منقطع النظير، بعد أن راودتهم في الوقت نفسه أيضاً.
يكمن الفرق الرئيس بين الإبداع والابتكار في التنفيذ
القدرة على تحويل الفكرة إلى خدمة أو مُنتَج أو مشروع ناجح. وإذا كانت "الحقيقة ما هي إلا فكرة شهدت اتخاذ إجراء ملموس"، على حد وصف ويليام جيمس، فإن ريادة الأعمال هي العملية التي تتحوّل من خلالها الأفكار الإبداعية إلى ابتكارات مفيدة. ونظراً لأن ريادة الأعمال تنطوي على تدخل العنصر البشري لأنها تعتمد على قرارات أشخاص معينين وسلوكياتهم، فالنهج المنطقي لفهم جوهر الابتكار يستلزم دراسة السمات الأساسية لروّاد الأعمال، أي الأفراد الذين يمثلون القوة الدافعة للابتكار، سواءً كانوا يعملون لحسابهم الخاص أو مؤسسي شركات أو موظفين. وتسلط الأبحاث الضوء على عدة سمات رئيسية (بالإضافة إلى القدرة على الإبداع):
- عقلية انتهازية تساعدهم على تحديد الثغرات في السوق. تمثّل الفرص حجر الأساس في مجال ريادة الأعمال والابتكار، ويتميّز بعض الناس بأنهم أكثر انتباهاً لها من غيرهم. بالإضافة إلى ذلك، فإن الانتهازيين مُهيَّؤون بطبيعتهم للحداثة؛ فهم يتوقون إلى خوض تجارب جديدة ومعقدة ويسعون إلى التنوع في شتى جوانب الحياة. وهذا يتوافق مع ارتفاع معدلات اضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط بين مؤسسي الشركات.
- التعليم أو التدريب الرسمي، وهو أمر ضروري لملاحظة الفرص الجديدة أو ترجمة الأحداث إلى فرص واعدة. خلافاً للاعتقاد الشائع، فإن معظم المبتكرين الناجحين ليسوا عباقرة لم يكملوا تعليمهم الجامعي، بل خبراء مدرَّبون على أعلى المستويات في مجالاتهم؛ لأن الافتقار إلى الخبرة يُصعِّب على المرء التمييز بين المعلومات ذات الصلة وغير ذات الصلة، بين الضجيج العديم النفع والإشارات الموحية بأن ثمة شيئاً يحدث. يتفق هذا الطرح مع الأبحاث التي أثبتت أن التدريب على ريادة الأعمال يؤتي ثماره.
- الاستباقية ودرجة عالية من المثابرة تمكّنهم من استغلال الفرص التي يحددونها، والأهم من كل ذلك، يمتلك المبتكرون الفعالون حافزاً وقدرة على التحمل وحيوية تفوق نظراءهم.
- جرعة صحية من الاحتراز. على عكس ما يعتقده الكثيرون، فإن المبتكرين الناجحين أكثر تنظيماً وحذراً وتحاشياً للمخاطر من عامة الناس (على الرغم من أن الإقبال على تجشُّم المخاطر يرتبط بإنشاء الشركات، فإنه لا يرتبط في واقع الأمر بنجاحها).
- رأس المال الاجتماعي الذي يعتمدون عليه في عملية ريادة الأعمال بشتى مراحلها. يجنح المبتكرون الذين يقدّمون سلسلة من الابتكارات الناجحة إلى استغلال اتصالاتهم وشبكات علاقاتهم لحشد الموارد اللازمة وبناء تحالفات قوية، داخل مؤسساتهم وخارجها. وتميل الروايات الشعبية حول ريادة الأعمال إلى تمجيد المبتكرين واعتبارهم عباقرة أفذاذاً يعيشون بمعزل عن الآخرين، لكن الابتكار أثبت دائماً أنه المحصِّلة الكلية لأداء فِرق العمل. بالتوازي مع ذلك، فإن رواد الأعمال يميلون إلى امتلاك قدر أعلى من الذكاء العاطفي، ما يمكّنهم من تسويق أفكارهم واستراتيجياتهم للآخرين، وإقناع أعضاء الفريق برسالة الشركة الأساسية.
حتى إذا امتلك المرء هذه السمات الخمس، فلن يتحقق الابتكار الحقيقي على الأرجح في ظل غياب رسالة هادفة أو رؤية واضحة بعيدة المدى؛ تمثّل الرؤية في واقع الأمر نقطة تلاقي ريادة الأعمال والقدرات القيادية، وبغض النظر عن روعة قدراتك الإبداعية أو عقليتك الانتهازية أو امتلاكك الفكر الاستباقي، فالقدرة على تحفيز الآخرين على الابتكار هي سمة مهمة للابتكار الناجح، ولا يمكنك في غيابها جذب المواهب المناسبة أو تكوين الفِرق وتمكين أفرادها أو ضمان أن تظل قادراً على الابتكار حتى بعد تحقيق النجاح. أشارت فرانسيس بوين وزملاؤها مؤخراً إلى "حلقة مفرغة يؤدي فيها الابتكار إلى رفع مستوى الأداء في المستقبل، ولكن هذا الاستثمار قد يؤدي أيضاً إلى الإصابة بما يشبه الجمود أو القصور الذاتي وبالتالي تقليل القدرة على الابتكار في المستقبل". بعبارة أخرى، يؤدي الابتكار إلى النمو، لكن النمو يعوق الابتكار، ما لم يكن الابتكار متأصلاً بحق في الثقافة المؤسسية، وهو ما يتطلب وجود رؤية فعَّالة.
خلاصة القول، من العبث أن يكتفي المرء بتمني التوصُّل إلى فكرة غير مسبوقة؛ إذ لا بد من توليد العديد من الأفكار والقدرة على اكتشاف الفرص المناسبة لتطويرها والعمل بكل حماس وتفانٍ لتحقيق غاية هادفة.
الأفكار لا تجعل المرء ناجحاً، بل العكس هو الصحيح.