إنّ الذكورة أمر هش. أظهرت العديد من الأبحاث في علم الاجتماع والعلوم السياسية خلال السنوات العشرين الماضية: أنّ الرجال يظهرون ردات فعل قوية حدّ العجب عند التعرض لأي أمر يهدد هويتهم الذكورية. ولعل أوضح ما تكون هذه المواقف في الساحة السياسية، لكنها تظهر كذلك في البيت والشركة، كما يمكن أن تسبب بخلق أجواء مشحونة في بيئة العمل.
أجريت مع زملائي في جامعة فيرلي ديكنسون الأميركية تجربة إحصائية تكشف الطريقة التي يتعامل بها بعض الرجال مع أي تهديد لذكورتهم. وكانت هذه التجربة جزءاً من استبيان سياسي اعتيادي يشمل سؤالاً واحداً غير نمطي يستعلم من الأشخاص المتزوجين إن كانوا يكسبون أكثر من أزواجهم أو أقل، أو إن كان الأجران متساويين تقريباً. واخترنا أن نسأل هذا السؤال لبعض المشاركين بشكل عشوائي في بداية التجربة وبعضهم طرح عليه السؤال في نهاية التجربة.
نحن لم نضع هذا السؤال في الاستبيان لأننا معنيون بالإجابات التي سنحصل عليها، فنحن نعرف أصلاً أنّ حوالي 15 في المئة من الرجال في الولايات المتحدة يكسبون أقل من زوجاتهم، وهذه النسبة تتأثر كثيراً بعامل العمر، حيث إنّ الرجال الذين يكسبون مثل ما تكسب زوجاتهم أو أقل هم عادة من الرجال في مقتبل العمر وليسوا من الكبار في السن. لكن سبب طرحنا لهذا السؤال على الرجال المشاركين هو حضهم على التفكير بالتهديدات المحتملة على دورهم المرتبط بالـ"جندر" أو النوع الاجتماعي. إنّ الإنفاق على البيت هو عماد الذكورية بمخيلة الرجال في الولايات المتحدة منذ عقود طويلة، ولذا فإنّ مجرد التفكير في أنّ الزوجة قد تكسب أكثر من الرجل كفيل بأن يشعره بتهديد على الأدوار الاجتماعية النمطية والمقبولة في المجتمع.
أدى النقاش الدائر حول مستوى دخل الأزواج في الولايات المتحدة إلى إحداث تغييرات هائلة في توجهات الرجال حول الشخصية التي سيؤيدونها في الانتخابات الرئاسية السابقة. فالرجال الذين لم يُسألوا عن دخل الزوجة إلّا في نهاية الاستبيان، قالوا أنهم يفضلون هيلاري كلينتون على دونالد ترامب، أما الذين سُئلوا عن دخل الزوجة في بداية الاستبيان، فضلوا ترامب وتوقعوا فوزه بفارق ثماني نقاط على منافسته كلينتون. والدليل على أنّ هذه الإجابات جاءت كردة فعل على تهديد دور الرجل التقليدي هو أنّ السؤال لم يكن له أثر إطلاقاً على إجابة السؤال المتعلق بالمنافسة بين ترامب وبيرني ساندرز، إذ توقع الرجال الذين دُفعوا للتفكير بهذا التهديد أن يفوز ساندرز بفارق أربع نقاط على ترامب، أما الآخرون توقعوا فوزه بثلاثة نقاط.
يظهر إذن أنّ الرجال كانوا يجيبون بناء على ردّة فعل تتعلق بذكوريتهم، ففضلوا اختيار المرشح الرجل على المرأة في سباق الانتخابات الرئاسية، خاصة على سيدة معروفة بأنها تعارض التفريق بين الناس على أساس الجندر، وذلك منذ أن قالت مرة قبل 25 عاماً أنها ترفض "البقاء في البيت لإعداد البسكويت".
لكن هذه الآثار لا تقتصر على سياق التنافس السياسي. ففي بحث آخر نشر في مجلة حول الجندر (About Gender). أظهرت أنا وزوجتي أنّ الزيادة التي تحصل عليها الزوجة في الراتب تجعل الرجل أقل رغبة بالمساعدة في الأعمال المنزلية. من المتوقع عادة أنّ الزوجين اللذين يكسبان قدراً متساوياً تقريباً من الدخل يتقاسمان أعمال المنزل بالقدر ذاته تقريباً، ولو كان أحدهما يكسب أكثر من الآخر، فإنّ الآخر سيكون عليه أن يقوم بمقدار أكبر من العمل في البيت. لكنّ الأمر ليس كذلك على الإطلاق إن كان الزوج هو الذي يكسب أقل من المرأة. فكلما ازداد الفرق في مستوى الدخل بين الزوجين قلّ عبء الرجل في أعمال البيت. كما أظهرت أبحاث أخرى أنّ الرجال الذين يشعرون بتهديد لرجولتهم أكثر ميلاً إلى التأكيد على دورهم المفترض في اتخاذ القرار في البيت، حتى لو كان الأمر متعلقاً بشراء السيارة.
وليس من المفاجئ إذن بعد أن عرفنا أثر التهديد المتعلق بالنوع الاجتماعي في السياسة وفي البيت أن نلاحظ آثار هذا الأمر في بيئة العمل. نشرت مجلة أميركان سوسيولاجيكل ريفيو (American Sociological Review) بحثاً ينظر في العوامل التي أدت إلى الإبلاغ عن مضايقات جنسية في بيئة العمل، واكتشفت أنّ النساء العاملات في مناصب إدارية أكثر عرضة للمضايقات الجنسية من الأخريات بمقدار 130 في المئة، وعادة ما تكون هذه المضايقات على شكل نظرات غير لائقة وتعليقات ذات إيحاء جنسي. فكما أنّ الرجل في البيت يعزز من رجولته عن طريق القيام بقدر أقل من أعمال البيت، فإنّهم كذلك يواجهون أي تحدّ تمثّله المديرة في بيئة العمل عن طريق المضايقات الجنسية أو الإساءة للموظفات في مكان العمل.
تبدو هذه الحالة ميؤوساً منها، لكنّ الأبحاث حول النوع الاجتماعي والتهديدات المتخيلة له تمنح بعض الأمل في حلّ ما. ففي الدراسة التي أجريناها عن الانتخابات على سبيل المثال، رأينا كيف أنّ الرجال الذين يشعرون بتهديد لدورهم يدفعهم لأن يميلوا عن دعم كلينتون. لكن هناك مجموعات أخرى من المشاركين، خاصة من الرجال اليافعين ذوي التوجهات الليبرالية، دفعهم التفكير في تهديد الأدوار المفترضة على النوع الاجتماعي إلى أن يظهروا توجهاً بدعم أكبر لكلينتون. وفي الدراسة الأخرى المتعلقة بأعمال المنزل، رأينا كيف أنّ الرجال عادة يقضون وقتاً أقل في المساعدة بأدائها، لكن تبين في المقابل أنّ بعض المشاركين في الدراسة كانوا يقضون وقتاً أطول في طهي الطعام، حيث صار هذا الأمر يزداد قبولاً بين الرجال خلال السنوات الخمس عشرة الماضية.
بالرغم من استمرار وجود مجموعة شبه ثابتة من الممارسات والأنشطة التي يعدّها المجتمع مناسبة أكثر للرجل، وهذا ما يدعوه الباحثون في علم الاجتماع "ذكورية الهيمنة"، فإنّ ثمة طرقاً أخرى للرجال ليثبتوا من خلالها رجولتهم. وقد يتم هذا الأمر من خلال إعادة تعريف الرجولة لتشتمل على أمور من قبيل أن يكون الرجل أباً جيداً أو طباخاً ماهراً. أما في السياسة، فقد يعني ذلك السعي لتعزيز حقوق الآخرين باختلاف هوياتهم الجندرية. وليس من الواضح حتى الآن ماذا سيعني تغيير الصورة المفترضة عن الرجولة في بيئة العمل، لكن قد يكون ذلك من خلال توجيه قدر أكبر من الجهد على التدريب والمهارات الفنية، ما سيساعد الرجال على التعبير عن رجولتهم من دون الميل إلى إقصاء المرأة أو إيذائها، ما سيخلق في نهاية المطاف بيئة عمل أفضل للجميع.