عندما داهمتنا أزمة كورونا بدأ الجميع يتحدثون عن تنبؤات بأن الأيام القادمة ستشهد انكفاء الدول نحو الاكتفاء الذاتي، والمحلية في التصنيع والزراعة وسلاسل الإمداد، فقد كان معيباً أن ترى الولايات المتحدة الأميركية بضخامة اقتصادها تستجدي أقنعة الوجه أو الكمامات من الصين، كما كان مخزياً أن ترى بعض الدول تمارس القرصنة -حرفياً- للاستيلاء على سفن تحمل شحنات من المواد الطبية متجهة إلى دول أخرى. لقد أخرجت هذه الأزمة الوحش الداخلي من الإنسان المنضبط ذي القوانين، ليتحول إلى إنسان الغابة الذي يبحث عن النجاة مهما كلف الأمر. إنه لأمر يشبه تحول الدول إلى مبدأ الزومبي الذي نشاهده في مسلسل "Resident Evil".
ثم جاء الغزو الروسي لأوكرانيا ليضيق الخناق على أهم مصدرين يتشاركهما العالم؛ وهما الوقود والغذاء. عندها حدث الاتجاه المعاكس، فقد بدأت الحدود تزول بين الدول، وتنكفئ الخلافات السياسية لصالح المصالح الاقتصادية، ثم شهدنا تصالح دول لم نكن نتصور أنها ستلتقي قريباً، أو على الأقل في ظل قيادات معينة لبعض الدول؛ فقد نسي أردوغان تصريحاته، ونسي بايدن خطاباته الانتخابية، وجلس على طاولة مصلحة بلاده. كما بدأ التفاوض مع فنزويلا وإيران لإيجاد صيغة لإعادتهما إلى نادي مصدري النفط.
ولست أصف هذه التغييرات في المواقف السياسية على أنها أمر سلبي، بل باعتبارها أمراً لابد منه، وهو الأمر الذي كان كبار الاقتصاديين يتحدثون عنه باستمرار، حينما يكررون بأن الاقتصاد صانع السياسة وصانع العلاقات الدولية. وقد بدأ ذلك بنظرية أسماها مؤسس علم الاقتصاد الكلاسيكي، آدم سميث، "الميزة المطلقة" حينما تحدث عن أن كل دولة في العالم يمكن أن تصنع أو تنتج ما تتميز به وتقدمه للسوق العالمية بكلفة أرخص من غيرها بسبب كلفة العمال أو المناخ أو التضاريس أو غيرها. وتتكامل دول العالم في تبادل السلع وتبني علاقاتها على هذا الأساس.
وما كنا نراه بين فترة وأخرى من تحزّب دول العالم لأسباب أيديولوجية -قديماً بين الشيوعية والرأسمالية، وحديثاً بين دول ديموقراطية وأنظمة سياسية مختلفة، وكذلك الخلاف بين دول علمانية ودول ذات توجهات دينية- كله يذوب بين ليلة وضحاها لأسباب اقتصادية. وقد كتب الأستاذ في جامعة هارفارد داني رودريك كتاباً بعنوان (The Globalization Paradox) يتحدث عما أسماها "إشكالية العولمة"، فقد ذكر بوضوح أن الدول إذا اقتربت بشدة من العولمة، فلابد لذلك من ثمن، وهو سيادة وطنية أقل على السياسات الداخلية، كما يعتقد أن العولمة ضرورية، لكنها يجب أن تكون وسيلة تسعى الدول من خلالها لتحقيق "الرخاء والحرية" لشعوبها.
وما حصل في قمة جدة "للأمن والتنمية" التي عقدت مؤخراً في المملكة العربية السعودية كان نموذجاً لما ذكره أستاذ جامعة هارفارد داني رودريك في هذا الكتاب، حيث توقع أن يصل قادة الدول إلى خيارات عليهم أن يتنازلوا فيها عن بعض مبادئهم السياسية في سبيل مصلحة شعوبهم. وهذا ما يتوقع أن يكون عليه تفكير القادة السياسيين في السنوات العشر القادمة على الأقل؛ الأمن والتنمية.