يتميز مشهد الأعمال اليوم بارتفاع مستوى التنافسية، لا سيما في ظل انتشار التكنولوجيا الرقمية، وزيادة وعي المستخدمين، وهو ما يزيد الحاجة إلى البقاء على دراية مستمرة بمستجدات السوق. وفي الواقع، أصبح تقديم الخدمات المبتكرة والتجارب المتميزة للعملاء أمراً حتمياً، بعدما كان من معايير قياس جودة أعمال الشركات من أجل التعرف على أسرار الثقافة المؤسسية الناجحة.
وفي ظل هذه المعطيات، سيكون من البديهي أن يعتمد نجاح الشركات والمؤسسات على رأس المال البشري أكثر من أي وقت مضى، باعتباره يلعب دوراً محورياً في تحقيق الريادة وروح المبادرة التي بدورها تُعزز مستويات الإبداع والابتكار. ومع ذلك، فإنّ الاختيار الدقيق للكفاءات وأعضاء فرق العمل وحده ليس كافياً، حيث تلعب البيئة التي تُعزز الإبداع وتُثمن جهود المواهب وتربط فرق العمل من خلال تحديد هدف مشترك، دوراً بالغ الأهمية في إحداث نقلة نوعية لمستوى تجارب العملاء.
خمسة عناصر لتحقيق الاستفادة الكاملة من إمكانات فرق العمل
وأثبت الواقع أنه ليس من السهل خلق مثل هذه البيئة ضمن بيئة العمل. ومع ذلك، ومن خلال تجربتي الشخصية، كثيراً ما يزيد أعضاء فريق الإدارة العليا من صعوبة التحدي عبر تطبيق سياسات تقليدية غير فعالة عاف عليها الزمن. في الوقت نفسه، يميل البعض منهم إلى التقليل من شأن تأثير مناصبهم على ثقافة الشركات. بينما لا توجد صيغة نهائية أو صورة مثلى لما يمكن اعتباره ثقافة ناجحة للشركات، إلى جانب ذلك، يمكننا الجزم بأن أية ثقافة ناجحة يجب أن ترتكز على خمسة عناصر أساسية، مجتمعة مع بعضها البعض، ويمكن لهذه العناصر أن تساهم في وضع الأسس لبيئة تُحقق الاستفادة الكاملة من إمكانات فرق العمل والمواهب الموجودة.
1- تحديد هدف موحد وإشراك الجميع في مسيرة تنفيذه
تُعتبر رحلة تطوير ثقافة الشركة رحلة تصاعدية تدريجية، ومتعددة الأوجه، تبدأ أولى مراحلها عند أعلى مستويات القيادة، وتتشكل مراحل تقدمها اللاحقة على أساس الشعور بأهمية الهدف المنشود. وبصورة أساسية، يكون الهدف مشتركاً ومدفوعاً بمجموعة من الأهداف التي تتجاوز المكاسب المادية أو الأهداف التجارية. ما يمثل حلقة وصل لهدف أسمى يشكل حافزاً ومصدراً للإلهام ودافعاً للتعبير عن الذات والاستمرار في الإبداع والابتكار. وسواء كان الهدف هو حل مشكلة عامة يواجهها الناس، أو تقديم منتج أو خدمة تسهل حياتهم، أرى أنّ الهدف الأسمى المشترك بين الموظفين هو السبب الحقيقي الذي يدفعهم إلى الذهاب للعمل كل يوم. ويتبين لنا من خلال الدراسات المختلفة كدراسة استطلاع رأي جيل الألفية التي أجرتها شركة "ديلويت" أنّ الأجيال الشابة تولي قيمة كبيرة للهدف الأسمى، عند تقييم اختياراتهم للانضمام إلى إحدى الشركات. بعبارة أُخرى، يمثل الهدف المشترك عماد نجاح ثقافة الشركات، لأنه يجعل الجميع يعملون سوياً بكامل طاقاتهم من أجل الوصول إليه.
2- تحديد وإبراز معايير السلوك التي تعكس الثقافة
تُعد الفجوة بين ثقافة الشركات وكيفية تفسيرها من أهم الأسباب الشائعة التي تؤثر على نمو الشركات. وكثيراً ما يُعزى ذلك إلى عدم وجود ملامح واضحة لثقافة الشركة يتم تطبيقها في بيئة العمل. وفي رأيي، يمكن للإدارات معالجة تلك الفجوة من خلال تحديد وإظهار معايير السلوك التي تعكس الثقافة العامة للشركة. خصوصاً أنّ أعضاء مجالس الإدارة يلعبون دوراً حيوياً في تقديم أدلة لموظفيهم حول كل ما هو مهم وقيّم في صميم ثقافة الشركة. ويساعد اكتساب وملاحظة، وتقويم، ومكافأة السلوكيات العامة، الموظفين على فهم ثقافة الشركة، والهدف الأسمى المشترك بطرق ذات صلة تتناسب مع أدوارهم الخاصة. بالإضافة إلى ذلك، سيساعد هذا النهج على الكشف عن المجالات المحتملة التي يكون من شأنها مساعدة وتوجيه السلوكيات لتتوافق مع قيم الشركة.
3- ترسيخ الثقافة من خلال نموذج الموظف المثالي
لكي تكون ثقافة الشركات انعكاساً حقيقياً لثقافة فرق العمل، ينبغي أن تحمل الثقافة العامة للشركة بصمتهم. وهذا يعني أنه يتعين على الإدارة القيام على مسؤولية إشراك الموظفين في تشكيل الثقافة وبلورتها. شخصياً، أعتقد أنّ واحدة من أقوى الوسائل لتحقيق ذلك، هي الاعتماد على موظفين من مختلف المستويات، والإدارات، والوظائف داخل الشركة، يضربون المثل في الالتزام بالسلوكيات العامة، والامتثال لما تقتضيه الثقافة العامة للشركة. ويُعد تسليط الضوء على هؤلاء الذين أبدوا التزامهم تجاه ثقافة الشركة، بمثابة حافز ونموذج يحتذى به من قبل الآخرين. ولن يساعد تطبيق مثل هذه التوجهات على زيادة مساهمة الموظفين في تحديد ثقافة الشركة فحسب، بل سيساهم أيضاً في ترسيخ، وتعزيز القيم والسلوكيات التي تعكسها.
4- إبراز ومكافأة الالتزام بالسلوكيات
تميل الإدارة غالباً إلى إبراز الأخطاء التي يقوم بها الموظفون بشكل أكبر مقارنة مع الاعتراف بإنجازاتهم ومساهماتهم الإيجابية. ويؤدي ذلك بصورة غير مباشرة إلى تعود الموظفين على توقع الانتقاد واللوم، لذا يكون الثناء في الغالب أمراً غير معتاد، وتهتز مصداقيته بالنسبة للموظفين. من ناحية أُخرى، عندما يتم الاعتراف بإنجازات الموظفين وإبرازها باستمرار ومكافأتهم عليها، من الطبيعي أن يُصبحوا أكثر تقبلاً للنقد البناء، والتوجيه السليم. ونتيجة طبيعية لذلك، تُصبح فرق العمل أكثر ميلاً للابتكار والتفوق في أدوارها. بالإضافة إلى ذلك، تُتيح مكافأة السلوك الصحيح فرصة كبيرة لتعزيز المعايير المرغوبة للسلوكيات العامة، لأنّ الاعتراف بإنجاز الموظفين علناً، يحفّز أقرانهم لتقديم أداء أفضل من أجل الظهور بمثل هذه الصورة أيضاً، والاعتراف بإنجازاتهم. وكقاعدة عامة، يتعين على الإدارات تقديم ما لا يقل عن ثلاثة ردود أفعال إيجابية لكل نقطة تحمل في مضمونها نقداً بناء.
5- التواصل بشفافية
تحقيق الثقافة المؤسسية المؤثرة مرهون بفتح قنوات جذابة للتواصل بين الإدارة التنفيذية والعاملين بالشركة عبر نماذج الموظفين الذين يحتذى بهم. والسبب في ذلك هو أنه من خلال مشاركة الموظفين في المناقشات حول الثقافة وتكرار هدفهم المشترك يتسنى للإدارة التنفيذية إلهام الموظفين لتبني هذه الرسائل على امتداد المؤسسة. واليوم تتوفر العديد من الأدوات التي من شأنها تمكين المؤسسات والإدارة التنفيذية بها من التواصل مع موظفيهم. على سبيل المثال، تُعد منصة "Facebook Workplace" نسخة مخصصة للشركات والمؤسسات تتيح لها التواصل مع موظفيها بطريقة غير رسمية، مع تشجيعهم على مشاركة الإنجازات التي حققوها والتحديات.
اقرأ أيضاً: ما هي الثقافة التنظيمية التي أهلت شركة واربي باركر للتميز في الابتكار؟
أُجريت دراسات عديدة بما في ذلك الدراسة الاستقصائية الأخيرة التي أجرتها شركة الاستشارات وإدارة الأداء "غالوب" حول مشاركة الموظفين، حيث سلّطت هذه الدراسات الضوء على العلاقة الوثيقة بين مشاركة الموظفين وتحسن أداء الشركات في مختلف الصناعات باختلاف أحجامها وظروفها الاقتصادية. كذلك لا شك بأنّ تبني ثقافة التمكين له تأثير مباشر على سبل توجيه تجارب العملاء. وفي الوقت الذي تُعد الثقافة المؤسسية أمراً معقداً من حيث التعامل معه، فإنّ المؤسسات يتعين عليها اتخاذ خطوات جادة نحو إشراك موظفيهم. وفي نهاية المطاف، يمكننا القول أنّ حث الموظفين على تبني هدف أكبر ومعايير أخلاقية راسخة وتقدير حسن الأداء، من شأنه أن يؤكد للإدارة التنفيذية أنّ الشركة تمضي في المسار الصحيح نحو تحقيق التميز على المدى الطويل من أجل التعرف على أسرار الثقافة المؤسسية الناجحة.
اقرأ أيضاً: