ملخص: يعاني الجميع أزمة عالمية في عمالة الشباب تنعكس تداعياتها على الاستقرار الاجتماعي والمساواة بصورة غير مسبوقة في تاريخ البشرية، ويكفي أن نشير هنا إلى أن 1.3 مليار شاب في سبيلهم إلى الانضمام إلى قوة العمل، وهو ما يعد أضخم جيل شاب في تاريخ الكوكب. لكن هل هم مستعدون لهذه الخطوة؟ إذ تتعرَّض الوظائف التي لطالما شغلها الشباب على مدار التاريخ لخطر الأتمتة بوتيرة متسارعة، فقد قال 36% من الرؤساء التنفيذيين في استقصاء أُجري مؤخراً إنهم يركزون على تحسين الإنتاجية من خلال تطبيق أدوات التكنولوجيا الحديثة والأتمتة، وهو رقم يزيد على ضعف عدد الرؤساء التنفيذيين الذين قالوا الشيء نفسه في عام 2016. ويعتبر سد فجوة المهارات العالمية أمراً بالغ الأهمية للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي حول العالم. ويتطلب تحقيق هذه الغاية تكاتف الشركات والحكومات معاً من أجل اتخاذ إجراءات محدَّدة في هذا السياق.
يواجه الشباب في مختلف أنحاء العالم شبح ارتفاع معدلات البطالة التي وصلت إلى مستويات تاريخية، والأدهى من ذلك أنهم يواصلون فقدان المزيد من فرصهم المحفوفة أصلاً بالمخاطر على مدى السنوات الثلاث الماضية. وقد تسببت جائحة "كوفيد-19"، إلى جانب موجة الأتمتة العالمية في تعقيد الأمور أمام الملايين من شباب العالم البالغ عددهم 1.3 مليار شاب وازدياد صعوبة عثورهم على فرصة عمل.
ولكي نفهم حقيقة الأزمة، علينا أن نفكّر في الحقائق الآتية:
- على الرغم من نمو عدد الشباب (الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عاماً) بنسبة 30% بين عامي 1999 و2019، فقد تراجعت معدلات مشاركتهم في القوى العاملة على مستوى العالم بنحو 12%.
- تتعرَّض الوظائف التي لطالما شغلها الشباب لخطر الأتمتة بوتيرة متسارعة، فقد قال 36% من الرؤساء التنفيذيين في استقصاء أُجري مؤخراً إنهم يركزون على تحسين الإنتاجية من خلال تطبيق أدوات التكنولوجيا الحديثة والأتمتة، وهو رقم يزيد على ضعف عدد الرؤساء التنفيذيين الذين قالوا الشيء نفسه عام 2016.
- طال شبح البطالة ما يقرب من ربع الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً في أثناء الجائحة إثر توقفهم عن العمل، وتقلصت ساعات عمل الكثير من الشباب وتراجع دخلهم، على الأرجح لأنهم كانوا يعملون في قطاعات تأثرت بتداعيات الجائحة بشدة.
وفي حين أن تحدي صقل مهارات شباب العالم يختلف من دولة لأخرى ومن منطقة لأخرى، فهناك 4 إجراءات عالية التأثير يمكن أن تتخذها الحكومات والشركات لمعالجة هذه المشكلة التي قد تهدد الاستقرار الاجتماعي والانتعاش الاقتصادي على المدى البعيد في الكثير من بقاع العالم. وإليك ما يمكن للمؤسسات والحكومات والأطراف المتعددة فعله للإسهام في معالجة هذه الأزمة:
التعرُّف على المهارات التي تحتاج إليها مؤسستك أو دولتك
سل نفسك (أو فريقك): ما المهارات التي تحتاج دولتك أو شركتك إلى امتلاكها تحديداً؟ يمكن أن تساعدك الإجابة عن هذا السؤال على إنشاء خط إمداد للعمالة المدربة تدريباً يناسب سوق العمل المستقبلية التي تتطلب توافر عدد من المهارات الرقمية والشخصية، سواء من خلال التوظيف المنتظم أو مشاريع الأعمال الحرة أو اقتصاد الأعمال المستقلة.
وتتمثّل أفضل الطرق للإجابة عن هذا السؤال في استخدام خرائط المهارات الوطنية أو إلقاء نظرة عامة على كافة المهارات التي سيحتاج إليها الموظفون في المستقبل، دون الاكتفاء بالمهارات الفنية والمرتبطة بالوظيفة، لكن مع مراعاة المهارات العاطفية والشخصية والتواصلية أيضاً. ويجب أن تتضمن الخرائط تعريفات وطرقاً موحدة لوضع معايير تقيس القدرة على اكتساب مهارة معينة من عدمه.
على سبيل المثال: يوفر برنامج "سكيلز فيوتشر" (SkillsFuture) في سنغافورة فرصاً لكافة المتعلمين، بدايةً من الطلاب وحتى المهنيين المتمرسين، لتحديد المهارات المناسبة لمجال العمل الذي اختاروه، ويتيح فرصة الوصول إلى الموارد اللازمة لإتقان هذه المهارات. يستهدف البرنامج جميع مواطني سنغافورة، ويشجّع على التعلم وتنمية المهارات مدى الحياة. ويستخدم برنامج توقع المهارات في ألمانيا "ذكاء المهارات" لإبراز الشكل الذي قد تبدو عليه سوق العمل في المستقبل، بل ويقدّم إرشادات مهنية تطلعية للباحثين عن عمل ورؤية ثاقبة للمعلمين حول المهارات التي يحتاج إليها الشباب في أثناء استعدادهم لدخول سوق العمل. ويمثّل برنامج "سكيلز غراف" (Skills Graph) الصادر مؤخراً عن شركة "لينكد إن" خطوة مهمة لتحديد المهارات المطلوبة في المستقبل المنظور ورسم خرائطها على مستوى العالم.
وتنبع أهمية هذه المنصات من ارتكازها على تصنيف المهارات الذي يحدّد المهارات المفيدة ويحدّد طرق قياسها، وعلى خريطة المهارات التي تحدّد فئات الوظائف في القطاعات ذات الأهمية الوطنية، بما في ذلك الشركات الصغيرة والمتوسطة والمهارات اللازمة لها، وعلى مرصد المهارات الذي يساعد على تحديد المتطلبات التعليمية والتدريبية ويحدّد كيفية اكتساب هذه المهارات، سواء داخل نظام التعليم الرسمي أو من خلال التعلم التجريبي. ويعد التصنيف العالمي للمهارات ورسم خرائطها وتتبّع أساسيات المهارات المطلوبة وتوقعها خطوة حاسمة للحكومات وأصحاب العمل، بل ولتنمية مهارات الشباب وتعزيز قدرتهم على الحركة والتنقل على مستوى العالم.
الاستفادة من التدريب المؤسسي خارج الشركات
يمتلك الكثير من الشركات منصات داخلية لتطوير المهارات تساعد الموظفين الحاليين على اكتساب مهارات جديدة. لكن ماذا عن موظفيهم المستقبليين؟
يمكن لأصحاب المصلحة الاستعانة بعناصر مستمدَّة من أفضل برامج الشركات وأكثرها نجاحاً في فئتها، ومن ثم دمجها ضمن إطار عمل السياسة الوطنية تحت إشراف المؤسسات الحكومية، وبذلك يمكنهم المساعدة بشكل مشترك على إنشاء برنامج لتنمية المهارات الوطنية بأعلى مستويات الجودة، بحيث يكون وثيق الصلة بالسكان الوطنيين والمحليين ويصل إلى الفئات المستهدفة على أوسع نطاق ممكن، دون الحاجة إلى بنائه من الألف إلى الياء.
وفي حين أنه قد يبدو من الصعب إقناع شركة ما باستخدام مواردها لتدريب "الجمهور العام"، فهناك أمثلة عملية تشهد على حدوث ذلك. ومن أبرز الأمثلة على ذلك منصة "أمازون ويب سيرفيسز" (أيه دبليو إس) ومنصة "مايكروسوفت ليرن" (Microsoft Learn). حيث توفر منصة "أمازون ويب سيرفيسز" للطلاب والمحاربين القدامى إمكانية الوصول إلى دورات تدريبية على المهارات المطلوبة في الوظائف السحابية وتحدّد المسارات المهنية في مجال التكنولوجيا من خلال مبادرة "أيه دبليو إس إديوكيت" (AWS Educate) التابعة لها، وتعمل لوحة متابعة الوظائف التابعة لها على تعريف المشاركين بفرص العمل المتاحة في مجال التكنولوجيا بشركة "أمازون" وغيرها من الشركات. أمّا منصة "مايكروسوفت ليرن" فعبارة عن منصة للتدريب عبر الإنترنت تساعد أي فرد على تحقيق الكفاءة في سلسلة تقنيات "مايكروسوفت" التكنولوجية. ودخلت مؤسسة "جيل بلا حدود في الهند" (Yuwaah) وشركة "بي دبليو سي" (PwC) في شراكة لتطوير "منصة المنصات" التي ستجمع شتات المنصات الحالية القادرة على توفير فرص لتحسين المهارات الرقمية من أجل المساعدة على ربط الشباب بخيارات التدريب والتوجيه المهني وفرص العمل في نهاية المطاف. وتهدف هذه الشراكة إلى توفير التعليم والمهارات والتوظيف لنحو 300 مليون شاب في الهند بحلول عام 2030.
قد تتضمن هذه المنصات خرائط المهارات الوطنية وقد تصبح مكوناً مهماً في التدريب على المهارات الذي يجري تقديمه في الجهات التعليمية المتخصصة. ويمكن للمؤسسات الحكومية أن تضرب المثل لغيرها من المؤسسات في هذا السياق وتقود هذا المسار في قطاع وطني محدَّد، ما يخلق دراسة جدوى لمجموعة أوسع من مسارات تحسين المهارات الوطنية في قطاعات متعددة. ويمكن للمؤسسات الحكومية الوطنية، وتحديداً وزارات التعليم والعمل والمهارات والشباب، أن تؤدي دور أصحاب المصلحة الرئيسيين المهتمين بإنشاء هذه الخرائط، مع تقديم مدخلات مباشرة وذات مغزى من الشركات الوطنية والمحلية، خاصة المشاريع الصغيرة والمتوسطة، والجمعيات التعليمية والصناعية، والمتعلمين، والمتخصصين في التوجيه المهني.
قد تكون المؤسسات الحكومية الوطنية، لا سيما وزارات العمل والشباب والتكنولوجيا والمهارات، هي الأنسب لتنظيم هذه الجهود جنباً إلى جنب مع كبرى الشركات الوطنية والمتعددة الجنسيات العاملة داخل حدود أراضيها.
إنشاء نظام وطني موثوق للتحقق من المهارات الرقمية
بخلاف المقابلات الشخصية واختبارات الاستعداد والملفات التعريفية عبر الإنترنت، فإن أصحاب العمل يفتقرون إلى طريقة موحدة ومنخفضة التكلفة للتحقق من المهارات التي يدعي الموظفون الجدد امتلاكها، بغض النظر عن مستوى تعليمهم الرسمي.
وعند إنشاء نظام عالمي أو وطني للتحقق من المهارات، فإن هذا سيتيح لأصحاب العمل تحديد المهارات الأكثر فائدة لموظفيهم الحاليين وتأهيل موظفيهم الجدد للنجاح من خلال الإشارة إلى التدريب الإضافي الذي يجدر بهم الحصول عليه. وعلى الرغم من أن شهادات الاعتماد المصغرة والشارات الرقمية مجرد بداية، فإن الأنظمة الوطنية القائمة على المنصات التكنولوجية، مثل دفتر الأستاذ الموزَّع أو تقنية "البلوك تشين"، ستساعد الموظفين على تتبّع قاعدة مهاراتهم وحفظها وتزويد أصحاب العمل بطريقة موثوقة لتقييمها والتحقق منها بسهولة.
ولدينا بالفعل بعض الأمثلة الناشئة. إذ يهدف "اتحاد شهادات الاعتماد الرقمية" (DCC)، الذي أسسته وتشرف عليه جامعات ذات خبرة في تصميم شهادات الاعتماد الرقمية التي يمكن التحقق منها، إلى "إنشاء بنية تحتية موثوقة وموزَّعة ومشتركة يمكن أن تصبح معياراً لإصدار شهادات الاعتماد الأكاديمية الرقمية وحفظها وعرضها والتحقق منها". وعلى الرغم من أن هذا البرنامج المحدَّد عبارة عن منصة للتحقق من مؤهلات الاعتماد الأكاديمية الجامعية، فإن مؤسسي "اتحاد شهادات الاعتماد الرقمية" يقرون بأنه من الأفضل أن يُنظَر إليه باعتباره جزءاً من نظام أكبر يربط بين التعلم ما بعد الثانوي والتعلم مدى الحياة ويسجل جميع شهادات الاعتماد ذات الصلة بمهارات الفرد على مدار حياته.
وبالمثل، فإن "وكالة سوق الشباب" (Yoma) عبارة عن منصة رقمية لبيئة عمل تم تطويرها بواسطة مؤسسة "جيل بلا حدود" وشركائها ("اليونيسيف" و"المؤسسة الألمانية للتعاون الدولي" (GIZ) و"بوتنار" (Botnar))، حيث يمكن للشباب المشاركة في مبادرات التأثير الاجتماعي المرتبطة بالمهارات والفرص الاقتصادية. وتتواءم المبادرات مع أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، ما يؤدي إلى إنشاء سوق للشباب تلائم مهاراتهم وقدراتهم الرقمية ومجالات التوظيف وريادة الأعمال. وتستخدم المؤسسات الشريكة المملوكة للقطاعين العام والخاص الموقع للتفاعل مع الشباب ودعمهم وإتاحة الفرص لهم. حيث يتم تسجيل السيرة الذاتية الرقمية التي يمكن التحقق من صحتها، مع حفظ الشهادات المعتمدة في دفتر الأستاذ الموزَّع، ويتم تشجيع المستخدمين بالمكافآت والحوافز.
ويمكن، بل وينبغي، ربط هذه المنصات بإطار عمل خريطة المهارات الوطنية، ما يمكّن الشباب من استخدام "سحابة التعلم الشخصي" بالشكل الأمثل، وعلى وجه التحديد موارد تدريب الشركة المتاحة لهم.
تطوير منتدى إقليمي أو وطني للمهارات من أجل تحسين مشاركة المعلومات بين جميع أصحاب المصلحة الرئيسيين
تعد مشاركة المعلومات حول تنمية المهارات بين مختلف المناطق وحتى البلدان جزءاً مهماً من حل أزمة بطالة الشباب. لماذا؟ لأن عمر المهارات قصير ويزداد قِصَراً يوماً بعد يوم. ونحن بحاجة إلى محرك للتوقع يقوم على المهارات التي يكثُر عليها الطلب ويغطي مختلف المناطق والقطاعات. ويتطلب الأمر أن يتكاتف أصحاب العمل والمعلمون والمسؤولون الحكوميون والجمعيات المهنية معاً لمعالجة أحدث الاتجاهات في سوق العمل وتحديد فجوات المهارات ودعم البرامج التي يحتاج إليها الشباب للنمو.
على سبيل المثال: تحرص "هيئة الاستعلامات الوطنية للمهارات والتعليم والتوظيف وريادة الأعمال" (NISE3) في بنغلاديش على جمع أصحاب المصلحة من المؤسسات الحكومية ومقدمي خدمات المهارات والاتحادات الصناعية وقادة القطاعات وغيرهم لتسهيل مشاركة المعلومات والبيانات حول تنمية المهارات. ويمكن لأصحاب المصلحة الرئيسيين هنا مشاركة المعلومات وأفضل الممارسات والحصول على البيانات المتعلقة بتحسين المهارات وصقلها، ويمكن لمقدمي المهارات التواؤم مع القطاعات. وتسهل المنصة عملية البحث عن الوظائف من خلال إتاحة فرص الوصول إلى الإرشاد والتوجيه المهني والمعلومات حول ريادة الأعمال والتدريب وفرص التدريب المهني، وغيرها من الفرص.
جدول أعمال عالمي
يعاني الجميع أزمة عالمية في عمالة الشباب تنعكس تداعياتها على الاستقرار الاجتماعي والمساواة بصورة غير مسبوقة على مدار التاريخ، ويكفي أن نشير هنا إلى أن 1.3 مليار شاب في سبيلهم إلى دخول سوق العمل، وهو ما يعد أضخم جيل شاب في تاريخ الكوكب.
وتهدف الاستثمارات والمخططات الخيرية إلى تعزيز مساعدة التعليم المؤسسي، ولكنها لا تعالج المشكلة الأساسية، وهي مشكلة البصيرة والوصول والثقة، أي تحديد المهارات واكتسابها والتحقق منها. وتعتبر هذه المشكلات مشكلات معلوماتية يمكن معالجتها من خلال استثمارات منسقة وواسعة النطاق في أدوات رسم خرائط المهارات وقياسها والتحقق من صحتها وتوقعها وتطويرها. ومن حسن الحظ أن جميع وسائل بناء هذه المنصات في متناول اليد، وقد شرع البعض فعلياً في إنجاز الكثير من العمل الواعد. ولكن يجري متابعته في نطاقات ومجالات ومناطق جغرافية وقطاعات منفصلة. ولا غنى عن الجمع بينها وإنشاء نظام عالمي موثوق للمهارات.