من الصعب العثور على بعض العملاء المستعدين لشراء منتجك الجديد، الذين يمكن أن ندعوهم السوق الأولى. ولكن هناك مهمة قد تكون أصعب في الواقع، وهي العثور على سوق ثانية؛ أي جذب مجموعة جديدة من العملاء بخلاف الأولى، خاصة أن الشركات تميل غالباً إلى التركيز بشدة على حماية قاعدة عملائها الحالية (السوق الأولى).

عندما عاد ستيف جوبز إلى شركة آبل في عام 1996، كنت مسؤولاً عن أحد برامج قنوات المبيعات المعروفة في القطاع التي تعمل لصالح الشركة، الذي أدى دوراً مهماً في نمو أعمال الشركة من مليوني دولار إلى 180 مليون دولار خلال 18 شهراً. لقد تمكنت آبل من زيادة مبيعاتها إلى حد كبير من خلال العمل مع عدد قليل من الشركاء المتفانين، كان بعضهم يُدعى “بائعو القيمة المضافة” والبعض الآخر تجار التجزئة على المستوى الوطني مثل بيست باي (Best Buy).

وفي حين كنت أستعد لمراجعة شاملة للأعمال، لم أتوقع قط أن جوبز لن يقدّر برنامج قناتنا. في ذلك الوقت، كان هذا البرنامج الجزء الأكثر ربحية في عمليات شركة آبل ومصدراً حيوياً للإيرادات. لكن كان لدى جوبز وجهة نظر مختلفة، وقال: “تباً لهذه القناة، لسنا بحاجة إليها”.

وكان محقاً في ذلك. يتطلب الوصول إلى سوق النمو التالية أكثر من مجرد عدم الرضا عن نتائجك الحالية (في هذه الحالة، ضعف هوامش المبيعات وأداء الأسهم الضعيف)، وأكثر من مجرد الرغبة في التغيير؛ بعبارة أخرى، يجب أن تكون على استعداد لاتخاذ إجراءات غير تقليدية.

عندما تحقق النجاح في مجال معين، فإنك بطبيعة الحال تكتسب إحساساً بديهياً بكيفية التعامل معه بفعالية. تعلّم متى يكون القرار أو الإجراء صحيحاً. تزيد الضغوط والتحديات التي تواجهها في أثناء تحقيق النجاح في السوق الأولى من قوتك وقدرتك على التحمل، تماماً مثلما تتكون المسامير اللحمية في اليد بسبب الاحتكاك المتكرر. مع ذلك، عندما تحاول تكرار هذا النجاح في سياق مختلف -التوسع إلى سوق ثانية في هذه الحالة- قد تبدو الاستراتيجيات المألوفة غير مناسبة أو غير ملائمة.

في أواخر التسعينيات وأوائل القرن العشرين، كان وجود استراتيجية قناة فعالة عاملاً حاسماً يمكن أن يرفع قيمة شركة التكنولوجيا من 100 مليون دولار إلى ملياري دولار. مع توافر الموارد المالية الكافية، يمكن للشركة الاستثمار في توسيع قنوات التوزيع، وبالتالي زيادة مبيعاتها، لذلك كان لاستراتيجية القناة تأثير كبير على نجاح العلامة التجارية.

لكن ستيف لم يكن مهتماً باتباع هذا النهج التقليدي الذي يعتمد على استراتيجية القنوات لنمو الأعمال، إذ لم يكن يؤمن باستخدام النجاحات السابقة لتشكيل المستقبل. في ذلك الوقت، خلال المراحل الأولى لشبكة الويب العالمية، كان من الواضح أن التجارة عبر الإنترنت ستمكّن العلامات التجارية من التفاعل مباشرة مع عملائها، متجاوزة قنوات التوزيع التقليدية. كانت شركات التكنولوجيا جميعها تعلم أن هذا التغيير قادم، لكن قلة منها امتلكت الجرأة الكافية للتكيف مع هذا التغيير. حتى الآن، لم يتبنَّ بعض الشركات التحول إلى التجارة عبر الإنترنت.

هناك العديد من الأمثلة على الشركات التي بنت استراتيجياتها وقراراتها المستقبلية على تجاربها وممارساتها السابقة. استمرت شركتا بلوك باستر وبوردرز في الاعتماد على المتاجر التقليدية إلى حد كبير حتى بعد معرفتهما بالتهديد الذي يشكله المنافسون عبر الإنترنت عليهما. وبالمثل، فشلت شركتا نوكيا وبلاك بيري في الاستفادة من سوق تطبيقات الهواتف الذكية. تجاهلت شركة جي إم الاتجاه نحو الانتقال إلى سيارات أكثر كفاءة في استهلاك الوقود نحو عقد من الزمن تقريباً. لا تزال غالبية الشركات التي تعمل في قطاع النشر تنظر إلى منتجاتها على أنها مواد مطبوعة تقليدية، متجاهلين التفضيل الواضح للمحتوى الصغير القابل للمشاركة لنشر الأفكار. تبدو هذه الشركات عالقة في طرقها واستراتيجياتها القديمة بالفعل، وعلى الرغم من نصيحة خبراء مثل روجر مارتن بأن النمو لا يمكن تحقيقه من خلال التحليل فقط، فإنها تصر على استخدام الاستراتيجيات السابقة لتحفيز النمو المستقبلي.

عندما قال جوبز “تباً لقناة المبيعات”، علمني أن وظيفتنا بصفتنا قادة شركات مبتكرين هي إدارة الحاضر مع ابتكار المستقبل. يجب أن ندرك أن وضعنا الحالي هو دائماً نتاج أفعال الماضي وتطلعاتنا لما نطمح أن نكون عليه في المستقبل. لا يكفي قيادة أعمالنا الحالية؛ بل يجب علينا أيضاً أن نقود أعمالنا المستقبلية. على مدى السنوات العشر الماضية تقريباً، تعلمت أن تحقيق ذلك يتطلب من القادة الناجحين التفوق في تحقيق 5 جوانب رئيسية:

1. إتقان فن التخلي عما تعلمناه

إحدى أصعب المهام التي يواجهها المبتكرون في الشركات هي تعلم كيفية التخلص من نماذج الأعمال القديمة التي أتقنوها. تستخدم الشركات في كثير من الأحيان، إن لم يكن دائماً، معايير أعمالها الحالية مقياساً لنماذج الأعمال الجديدة. ابدأ بتجاهل ما تعلمته من خلال الاعتراف بوضوح أن هذه المقاييس أو الافتراضات من الماضي وليست مفيدة للمستقبل أو قابلة للتطبيق عليه.

2. عزز خبرتك

قد لا توجد المعرفة المطلوبة لتحقيق النمو المستقبلي داخل شركتك نفسها. من الممكن تعزيز عملية التعلم الداخلية بالمعرفة الخارجية، ولكن من المهم عدم إغفال عملية التعلم الداخلية تماماً. لنفترض أنه أتيح للشركة الاستثمار في مشروع جديد وكان هناك 3 خيارات: أ) تنفيذ المشروع خلال 10 أشهر بمفردك دون الاستعانة بخبرة خارجية، أو ب) تنفيذ المشروع خلال 6 أشهر وإنفاق 200 ألف دولار لقاء الاستعانة بخبرة خارجية، أو ج) الاستعانة بمصادر خارجية بالكامل لتنفيذ المشروع، فإن الاختيار الأمثل في هذه الحالة هو (ب) طبعاً. في حين يمكن نقل المعرفة، فإن الحكمة الحقيقية لا تُكتسب إلا من خلال الخبرة العملية.

3. جرّب أفكاراً جديدة واستثمر الموارد وجرب طرقاً مختلفة

من الواضح أنك لن تحقق النجاح عند تجربة شيء جديد من المحاولة الأولى. يصف بيتر سيمز هذا النهج بالرهانات الصغيرة. لا بأس من استثمار الموارد في فكرة ما حتى لو كان الفشل متوقعاً، فذلك مثل السماح للأطفال بالاستكشاف لاكتساب معارف جديدة. عملية التجربة والخطأ هذه هي جزء من التخلص من الأساليب القديمة واعتماد أساليب جديدة. على سبيل المثال، تعيّن هدف “أ”، وتجرب نهج “ب” لتحقيقه، فتكتسب من التجربة رؤية “ج”، ثم تستخدم تلك المعرفة لتعديل نهجك للمحاولة التالية “د”. تستغرق هذه العملية التكرارية وقتاً، ولكنها تؤدي في النهاية إلى تقدم أسرع على المدى الطويل.

4. كافئ التعلم والتعاون

اربط مكافآت الموظفين بالمشاريع الجديدة التي يشاركون فيها. إليك أحد نماذج التعويضات التي عملت عليها: “يغطي الراتب الأساسي الأعمال الأساسية التي نحتاج إلى إدارتها بفعالية للحفاظ على سير الأعمال بسلاسة، لكن المكافآت مصممة لتحفيز الأفكار الجديدة والتخلص من الممارسات التي عفاها الزمن، الأمر الذي يتطلب منا توسيع تفكيرنا وتبنّي مفاهيم جديدة وتعزيز قدراتنا”. وبغض النظر عن مجال تركيز أي موظف، يحصل جميع أعضاء الفريق على مكافآت مرتبطة بمجال النمو الجديد المشترك. قد لا يقضي هذا النهج تماماً على ميل البعض لمقاومة التغيير داخل الشركة، لكنه يقلل من هذا السلوك إلى حد كبير.

5. اعرف طموحك

لا يمكنك العثور على سوق ثانية دون أن تكون لديك رؤية واضحة حول جمهورك المستهدف والغرض من خدمتك له. لكن ذلك لا يعني أنه يمكنك التنبؤ بالمستقبل، بل الالتزام بعملية تحديد مهاراتك الفريدة الحالية وتلك التي ستحتاج إليها للنجاح في المستقبل. على سبيل المثال، لم تميز شركة آبل نفسها من خلال خبرتها في الأجهزة والبرامج، بل من خلال منظورها الفريد في التصميم.

غالباً ما يُنصح الأشخاص بالاستفادة من مواطن قوتهم والاستفادة من مواهبهم الفريدة، ولكن هل يعني ذلك أنه يجب علينا الاستمرار في فعل ما كنا نفعله سابقاً؟ صحيح، ولكن بصورة انتقائية. إذا رسمت مخطط “فين” المتداخل لما حققته وما تتخيل أن تكون عليه في المستقبل، فستجد أنك تترك لنفسك مجالاً للاستكشاف والنمو. في حين أن هذه العملية قد لا تكون سهلة، لكنها تسمح لك بالنمو.

غالباً ما ينطوي التوسع في أسواق جديدة على الخروج من منطقة الراحة؛ أي أن الاستراتيجيات أو الممارسات التي أدت إلى نجاحك الحالي قد لا تكون فعالة في هذا الصدد. تحتاج أيضاً إلى تصور إمكاناتك المستقبلية وتخيل ما يمكن أن تصبح عليه. مثلما يوازن الأفراد دائماً بين تجاربهم السابقة وتطلعاتهم المستقبلية، يجب على الشركات أن تفعل الشيء نفسه. ما لم نقرر خوض غمار المخاطر ونتقبّل التحديات المرتبطة بالإبداع، فسوف نستمر في الحكم على الأفكار الناشئة بناءً على المعايير التي وضعتها الشركات الناجحة القائمة. ذلك مثال عن إدارة أعمال التي تعتمد على استراتيجيات العمل السابقة بدلاً من ابتكار استراتيجيات جديدة للمستقبل. لا يؤدي هذا النهج إلا إلى النتائج نفسها، وهذا لم يعد كافياً في مشهد الأعمال التنافسي اليوم.