سؤال بسيط يقيك من الاحتراق الوظيفي

5 دقائق
الوقاية من الانقياد إلى الاحتراق الوظيفي

إن الانقياد إلى الاحتراق الوظيفي هو ما يقلق العاملين في شتى المجالات، وخصوصاً تلك المجالات التي تتسم بالإبداع والمعرفة.

في أواخر تسعينيات القرن الماضي، بدأت برنامجاً جامعياً للحصول على شهادة في إدارة الأعمال من "جامعة كوينز" (Queen’s University) في كينغستون، أونتاريو في كندا. فبعد الاقتراب من الرسوب في مبادئ الاقتصاد الجزئي، والخسارة في الغالبية العظمى من الرياضات والفرق، وجدت موطني المناسب أخيراً بين مجموعة من المنبوذين في الجامعة يشاركون في صحيفة "جولدن ووردز" (Golden Words) الكوميدية.

الانقياد إلى الاحتراق الوظيفي

كانت "جولدن ووردز" أكبر صحيفة فكاهية أسبوعية في البلد، وهي شبيهة بصحيفة "أونيون" (Onion)،وكان يصدر منها 25 عدداً سنوياً، فيما يصدر العدد الأسبوعي كل يوم أربعاء خلال العام الجامعي. وعلى مدار السنوات الأربع التالية، قضيت يوم الأحد من كل أسبوع أتسكع مع مجموعة من الأشخاص الذين يكتبون مقالات تجعلنا جميعاً نضحك. إذ كنا نتجمع عند الظهيرة، ونبدأ في كتابة مقالاتنا حتى الساعات المبكرة من صباح يوم الاثنين. لم أحصل على أي أموال مقابل ذلك، لكن اللذة الكامنة في كتابة المقالات، والضحك الناتج عن قراءتها، ورؤيتها منشورة في الصحيفة، كل ذلك ألهمني شعوراً رائعاً.

لقد أحببت ذلك للغاية لدرجة أنني شغلت وظيفة في شركة كتابة كوميدية ناشئة في مدينة نيويورك خلال آخر صيف لي في الجامعة. استأجرت شقة في الجانب الشرقي الأدنى من المدينة، وبدأت أعمل بمبنى في بروكلين مع مجموعة كتّاب من مسلسل "ذا سيمسونز" (The Simpsons)، وبرنامج "ساترداي نايت لايف" (Saturday Night Live). أتذكر أنني فكرت في نفسي قائلاً: "يا للروعة! لا أصدق أنني أجني الأموال مقابل أن أقوم بما أحبه".

لكنها كانت أسوأ وظيفة حظيت بها في حياتي.

فبدلاً من أن أحظى بحرية إبداعية لأكتب ما أشاء، اضطررتُ إلى كتابة نصوص مثل "800 كلمة عن الهجر العاطفي" لعميل مثل مجلة "كوزموبوليتان" (Cosmopolitan). وبدلاً من أن أمرح مع أصدقائي بكل تلقائية، وأجد آُلفة في الكتابة مع أناس بعينهم، كنت مجبراً، وفق جدول مُحدد، أن أكتب مع أناس آخرين. وفي نهاية المطاف تلاشى اهتمامي بالكتابة الكوميدية، وقررت عدم الكتابة في هذا المجال مرة أخرى من أجل المال.

عندما بدأت الكتابة في مدونتي، "ألف شيء رائع" (1000Awesome Things)، عام 2008، قلت إنني لن أعرض إعلانات على الموقع مطلقاً. ولقد علمت في قرارة نفسي أن الإعلانات ستكون بمثابة عمل بالنسبة لي، وخشيت أنني قد أراقب ذاتي ومدونتي أو أحاول استمالة ود الجهات المعلنة. وتوقعت أنه في ظل انعدام الدخل العائد من المدونة، سأقضي وقتاً قليلاً في إدارة الإعلانات، وأكرس المزيد من الوقت للكتابة.

لقد تحليت بالذكاء في هذا الخصوص... لكن ليس بالقدر الكافي لأتجنب عوامل التحفيز الخارجية الأخرى التي ظلت تظهر أمامي: مثل عدادات إحصائيات المواقع وجوائز المواقع الإلكترونية وقوائم الكتب الأكثر مبيعاً. وقد كان الأمر جلياً للغاية، وقابلاً جداً للقياس، ومغرياً جداً. ومع مرور الوقت، وجدت نفسي مهووساً في عدادات الإحصائيات التي تكسر حاجز المليون والعشرة ملايين والخمسين مليوناً، ومهووساً بأن يظل الكتاب المنشور على مدونتي مدرجاً في قائمة أفضل الكتب مبيعاً لمدة 10 أسابيع أو 100 أسبوع أو حتى 200، وأيضاً في أن تتخطى مبيعات الكتاب حاجز عشرات الآلاف أو مئات الآلاف أو حتى الملايين. يبدو أن عوامل التحفيز الخارجية لا نهاية لها، ولقد تأخرت حتى أدركت أنني كنت أقود نفسي إلى الاحتراق الوظيفي. إذ ساءت عاداتي الغذائية وفارق النوم جفوني وصرت مهووساً بالرقم الإحصائي التالي في صف الأرقام التي أنتظرها.

وبدأت أقلق من أن الدورة المؤلفة من تحديد الهدف وتحقيقه، ثم تحديده مرة أخرى وتحقيقه، وما إلى ذلك، لن تنتهي قط. وبدأت أنسى لماذا بدأت نشاط الكتابة في مدونتي في المقام الأول. وصُعقت من السرعة التي وقعت بها أسيراً في فخ الإنجاز.

تشير الدراسات إلى أنه عندما نبدأ في تقدير المكافآت التي نحصل عليها عندما ننجز مهمة ما، نخسر اهتمامنا الداخلي الكامن في إنجاز المهمة. إذ تصبح رغبتنا تائهة في أذهاننا، بمنأى عن أدمغتنا، بينما تصبح المكافأة الخارجية اللامعة شغلنا الشاغل وتتربع على عرش أفكارنا، وتصبح الشيء الجديد الذي نرجوه.

عوامل التحفيز الداخلية والخارجية

ضع في اعتبارك أنه يوجد نوعان من التحفيز: داخلي وخارجي. التحفيز الداخلي ينبع من داخلنا، فأنت تفعل مهمة ما لأنك تريد ذلك. أما التحفيز الخارجي فيأتي من الخارج، فأنت تفعل مهمة ما لأنك تحصل على شيء في المقابل. ومن هذا المنطلق، أجرت تيريزا آمابيل، أستاذة جامعية في كلية "هارفارد للأعمال"، بعض التجارب حول عوامل التحفيز الداخلية والخارجية بمساعدة طلاب جامعيين.

إذ طلبت منهم صنع "ملصقات سخيفة"، واختراع قصص لها. وقيل للبعض إنهم سيحصلون على مكافآت مقابل عملهم، بينما لم يعلم البعض الآخر بذلك. ثم ماذا حدث؟ استناداً إلى نتائج أصدرها حكام مستقلون، كانت المشاريع الأقل إبداعاً بفارق كبير من نصيب الطلاب الذين قُدمت لهم وعود بالحصول على مكافآت مقابل عملهم. قالت آمابيل: "قد يكون السبب في ذلك أن العمل المقترن بمكافأة سيكون أقل ابتكاراً في العموم مقارنة مع العمل المنجز بدافع الاهتمام البحت".

وليست المكافآت وحدها هي التي تُنقص من جودة العمل. ففي دراسة أخرى أجرتها آمابيل، قسِّم 72 كاتباً من الكتاب المبدعين من "جامعة برانديز" (Brandeis University) و"جامعة بوسطن" إلى 3 مجموعات، قوام كل منها 24 كاتباً، وطلب منهم أن يكتبوا شعراً. قُدِمت إلى المجموعة الأولى عوامل تحفيز خارجية للإنجاز، مثل إثارة إعجاب المعلمين وجني الأموال والالتحاق بجامعات مرموقة للدراسات العليا. أما المجموعة الثانية فقد حصلت على قائمة عوامل تحفيز داخلية، مثل الاستمتاع بشعور التعبير عن الذات والمتعة الناتجة عن التلاعب بالكلمات والقوافي.

بينما لم تُقدم أي أسباب أو دوافع إلى المجموعة الثالثة. ومن مقاعد الحكام، كوّنت آمابيل مجموعة من 12 حكماً متخصصاً في الشعر، وخلطت جميع قصائد الشعر التي قدمتها المجموعات الثلاث، وطلبت من الحكام تقييمها. وكانت القصائد الشعرية التي قدمتها المجموعة المحفزة بالعوامل الخارجية هي الأقل جودة بفارق كبير عن غيرها.

تأثير عوامل التحفيز الخارجية

كان جيمس غاربارينو، الرئيس السابق لـ "معهد إيركسون للدراسات الحديثة في نمو الأطفال" (Erikson Institute for Advanced Study in Child Development)، مهتماً بتفسير هذه الظاهرة. فقد أجرى دراسة على فتيات الصفين الخامس والسادس المعينات بتدريس الأطفال الصغار. إذ عُرِض على بعض المعلمات تذاكر سينما مجانية مقابل إنجاز الأعمال بشكل جيد. ثم ماذا حدث؟ استغرقت الفتيات اللاتي حصلن على تذاكر سينما مجانية وقتاً أطول لشرح أفكارهن، وتسلل الإحباط إليهن بسهولة أكبر، وكان مستوى جودة عملهن أقل من أولئك الفتيات اللاتي لم تقدم إليهن مكافأة سوى شعورهن الطيب بمساعدة الآخرين.

وتثير دراسة غاربارينو تساؤلاً، وهو: هل يختلف تأثير عوامل التحفيز الخارجية علينا باختلاف مرحلتنا العمرية؟ هل نكبر لنتماشى مع هذا النمط، وهل يمكننا أن ننضج ونتحرر منه؟ تشيردراسة حديثة، أجراها فليكيس غارنيكين، ومايكل تومازيلو، إلى أننا مبرمجون لنتصرف على هذه الشاكلة. فقد أظهرت دراستهما أن الرضع في عمر 20 شهراً الذين يتلقون مكافآت خارجية مقابل مساعدتهم لرضع آخرين، أقل احتمالاً أن يساعدوا غيرهم مرة أخرى مقارنة بالرضّع الذين لم يتلقوا أي مكافأة أو تلقوا إشادة اجتماعية بسيطة.

لقد اندهشت من نتائج الدراستين، لكنها كانت منطقية لي. كنت مفتوناً بالكتابة لصحيفة "غولدن ووردس" (Golden Words). فقد مثلت الكتابة متعة، وتشويقاً بل حتى حباً حقيقياً. ومع بداية الكتابة المدفوعة الأجر في مدينة نيويورك، فقدت كامل طاقتي وشغفي.

فعندما تفعل شيئاً ما بدوافعك الخاصة، تجد نفسك تنجز أكثر من المطلوب، وتقطع أشواطاً إضافية، وتحسن أداءك. وعندما تشعر بأنك لا تتنافس مع الآخرين، تبدأ في منافسة ذاتك فقط وتحديها. على سبيل المثال، أجرى إدوارد ديتش، الأستاذ الجامعي في "جامعة روتشستر" (University of Rochester)، دراسة طلب فيها من الطلاب حل لغز.

وقيل للبعض إنهم يتنافسون مع طلاب آخرين، بينما البعض الآخر لا ينافس أحداً. لا بد أنك تستطيع توقع النتائج. فالطلاب الذين قيل لهم إنهم يتنافسون مع طلاب آخرين، توقفوا عن المحاولة فور أن تمكن الأطفال الآخرون من حل اللغز، معتقدين أنهم خرجوا من حيز المنافسة. فقد نفذت دوافعهم التي تحركهم إلى حل اللغز. لكن أولئك الأطفال الذين لم يعلموا أنهم يتنافسون مع غيرهم، فقد استمروا في سعيهم لحل اللغز حتى بعد انتهاء أقرانهم من ذلك.

هل تعني هذه النتائج كلها أن تتنازل عن أتعاب عملك، وتعمل فقط من أجل الأشياء التي تحفزك داخلياً؟ الإجابة هي لا. لكن عليك أن تسأل نفسك سؤالاً: "هل كنت سأنفذ هذا العمل مجاناً؟" إذا كانت إجابتك هي نعم، فقد وجدت شيئاً قيّماً يستحق العمل على تحقيقه. أما إذا كانت الإجابة لا، فلا تترك العمل المدفوع الأجر، وفكر في قرارة نفسك مراراً وتكراراً عما يمكنك فعله لكي تستمد المتعة من أدائه. فالاحتمالات هي أنك إذا كنت تعمل فقط من أجل الأسباب التحفيزية الخارجية مثل المال، فأنت في طريقك إلى الاحتراق الوظيفي حتماً عاجلاً أم آجلاً.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي