أفكّر كثيراً في كيفية تحقيق التوازن بين تنظيم الوقت بين العمل والبيت والأطفال مثل الكثير منا. فأنا زوج وأب لأربعة أطفال، وبالتالي لا ينبغي لنجاحي المهني أن يكون على حساب عائلتي، ولا ينبغي لحضوري في المنزل أن يعرقل قدرتي على إدارة الأعمال.
كيفية تنظيم الوقت بين العمل والبيت والأطفال
تواجه معضلة تحقيق التوازن بين العمل والحياة هذه الكثير من الآباء (آباء وأمهات) اليوم، ولقد مررت بهذه التجربة لدرجة أنّني ألّفت كتاباً عن تجربتي. ولكنّني بقيت أسمع السؤال المزمن نفسه:
"هل يهتمّ الآباء فعلاً بقضية تحقيق التوازن بين العمل والحياة؟".
الجواب هو نعم بحسب "مركز كلية بوسطن للعمل والأسرة" (The Boston College Center for Work and Family) الذي يُعتبر أحد المنظمات القليلة التي تركّز على الدور المتغير الذي يلعبه الآباء في المنزل أو في مكان العمل. وجد المركز في الآونة الأخيرة أنّ الآباء قد يواجهون صراع تحقيق التوازن بين العمل والأسرة بقدر ما تفعل الأمهات أو أكثر. وكشفت الدراسة أنّه في حين يرغب 80 إلى 90% من الآباء من جيل الألفية في إحراز تقدّم وظيفي، فإنّ 4% فقط منهم يوافقون أنّ عليهم أن يكونوا مستعدّين للتضحية بالوقت الشخصي والمخصص للعائلة من أجل تحقيق ذلك. كما صنّف الرجال الذين شملهم الاستطلاع التوازن بين العمل والحياة على أنّه العامل الأساسي الأول الذي يجب أخذه بعين الاعتبار عند قياس النجاح، والمعيار الثالث من حيث الأهمية عند اختيار الوظيفة. (وضعت الأمّهات هذا المعيار في المرتبة الأولى).
في التركيز على الحياتين المهنية والعائلية - ومن أي جيل كانوا - أن يفعلوه لتحقيق التوازن الصحيح؟ تحدّثت مع 5 رجال يشغلون مناصب قيادية كبرى ولديهم عائلات حول النصيحة التي يقدّمونها للآباء الذين يعملون لديهم. كانت المناصب التي يشغلونها مختلفة: رئيس تنفيذي ورئيس ورئيس تنفيذي للموارد البشرية ونائب رئيس تنفيذي/مدير عام ومدير تنفيذي. وكان كل منهم في مرحلة مختلفة من الأبوة - أحدهم لديه ثلاثة أطفال صغار، واثنان منهم لديهما أطفال في سن المدرسة الابتدائية، وأحدهم لديه أطفال في سن المراهقة، والآخر لديه ثلاثة أبناء راشدين. لاحظت وجود أربعة مواضيع مشتركة من خلال جميع محادثاتي معهم:
خصّص وقتاً للأمور الصغيرة
أعياد الميلاد، والأعياد، وحفلات التخرّج، والرحلات إلى أماكن الترفيه - كلّها أمور يرى الكثير من القادة أنّ الحضور فيها يكفي لتحقيق التوازن بين العمل والحياة. ولكن الرجال الذين تحدثت معهم وصفوا هذه الأمور الكبيرة على أنها مجرد خانة في الجدول، فهم يرون أنّ ما يهم حقاً هو العدد الكبير من العلاقات الصغيرة اليومية، مثل الرحلات في السيارة لزيارة الطبيب وممارسة رياضة المشي في الجوار وتوصيل الأطفال إلى المدرسة في الصباح - وهي لحظات غالباً ما تشكّل أكثر الذكريات الهامة.
قال لي أحد الآباء، وهو خصص وقتاً لبناته بهذه الطريقة عندما كنّ صغاراً، إنّه يشعر الآن وكأنّ لديه "آلاف مقاطع الفيديو [لهذه الأوقات] في رأسه". لا يزال حتى الآن يعطي أولوية لتوصيل بناته إلى المدرسة كل صباح، ولم يضرّ ذلك بحياته المهنية بل سمح له أن يكون قائداً من دون أن يشعر بالأسف عندما يكون في العمل.
كن على علم بالأمور الملحة فعلاً
يمكن أن يكون العمل ملحّاً ولسبب وجيه في أغلب الأحيان. في هذا الإطار، أخبرني أحد القادة قصة عن الوقت في بداية مسيرته عندما كان أطفاله صغاراً، فقال إنّه في الأيام التي لم يكن يسافر فيها كان روتينه اليومي لدى عودته إلى المنزل يتمثل في مساعدة أطفاله على الاغتسال ثم الخلود للنوم، قبل أن يتناول وجبة العشاء بنفسه ويعود إلى بريده الإلكتروني. ولكنّ زوجته نبّهته حول هذه العادة ما دفعه للتفكير في سبب عدم انتظاره حتى صباح اليوم التالي كي يعود إلى العمل.
أدرك أنّ الكثير من المهام يمكن أن تنتظر من دون أن تترك عواقب وخيمة على الأعمال، وأكّد لي أنّ هذا الأمر ليس من قبيل المماطلة. وفي حين أكّد وسائر القادة الذين تحدثت معهم على أهمية الاستعجال والطابع الملح في حياتهم المهنية، أشاروا إلى أنّ هذا "الاستعجال المصطنع" يشكل عائقاً كبيراً لتحقيق التوازن بين الحياة والعمل.
ضع حدوداً
يمكن أن تكون الأدوار القيادية مضنية، فإذا كنت في منصب قيادي فهذا يعني أنك حصلت على امتياز أن تكون مسؤولاً في نهاية المطاف، وهو لا يمكنك الاستراحة منه. ولكن الآباء الذين قابلتهم تحدثوا عن وضع حدود للأمر، إذ أكّد أحدهم على أهمية تدريب فرق أبنائه الرياضية الثلاثة، وشدد آخر على أهمية العشاء العائلي خلال الأسبوع على الرغم من أنّ الشركة لديها ثقافة "العمل لوقت متأخر" و"العمل وجهاً الوجه".
في حين اختلفت تفاصيل القواعد التي وضعها هؤلاء الرجال لأنفسهم، ولكنّ القاسم المشترك بيتهم كان التعمّد. لقد كانوا واضحين مع زملائهم لضمان أنه سيكون هناك أوقات محددة لا يمكن أن يتقاطع فيها العمل مع أوقات الأسرة، وعلى الرغم من أنّ العمل قد يتسلل بسهولة إلى الحياة الشخصية إلّا أنّ هؤلاء الرجال كانوا يتعمدون حماية تلك الفترات الخاصة بهم. أشرت إلى ذلك في كتابي مطلقاً عليه تسمية "التقسيم الذي لا يرحم" (ruthless compartmentalization)، وهو ما يعني بالنسبة لي تخصيص أوقات للعائلة من نصف يوم خلال الأسبوع وفصلها عن العمل بحيث لا أستقبل فيها المكالمات الهاتفية الخاصة بالعمل ولا أطّلع على البريد الإلكتروني.
حدّد الأهداف
تحدّث كلّ الآباء الذين قابلتهم عن الاتساق كعامل أساسي لتحقيق النجاح سواء في المنزل أو في العمل. يعني هذا في العمل قيادة الفرق وإدارتها باتساق، وتحقيق الأهداف والالتزامات المعلنة، وتحقيق أداء جيد على مؤشرات الأداء الرئيسية (KPIs). ولكن في المنزل لا تمتلك معظم الأسر مقاييس للأداء، ومع ذلك يمكنك وضع مقاييس لنفسك كي تضمن أن تكون أباً أفضل لأطفالك وزوجاً وشريكاً أفضل لزوجتك. يمكن أن تكون هذه المقاييس بسيطة مثل توضيح عدد المرات التي تريد فيها المشاركة في العشاء العائلي كلّ أسبوع، أو عدد المرات التي تنوي فيها توصيل أطفالك إلى المدارس. لقد أحببت وجود مثل هذه التفاصيل في حياتي الخاصة لأنها ساعدتني على معرفة كيف وأين أريد قضاء الوقت كلّ يوم.
أعرب أحد القادة الذين تحدثت معهم - وهو يعيش فترة زواجه الثاني بعد طلاقه من زوجته الأولى - عن أسفه لأن وجوده في المنزل لم يكن متّسقاً خلال زواجه الأول، عازياً طلاقه في الزواج الأول لهذا السبب. ولكنّه هذه المرة أجرى بعض التغييرات، ومنها على وجه التحديد إعطاء الأولوية لتلقي المكالمات الهاتفية من أطفاله وتفضيلها على مكالمات الأعمال، وتنسيق جداول اجتماعات العمل الرئيسية بحسب التقويم المدرسي لأبنائه. بدوره، قال لي قائد آخر إنّ "أفضل وظيفة حصل عليها" كانت تجبره على السفر كل أسبوع، ولكنه قرر التخلّي عنها لأنها جعلت حياته في المنزل متقلّبة لصالح وظيفة أخرى سمحت أن يكون وجوده في المنزل متسقاً أكثر. بالإضافة إلى ذلك، شرح أحدهم أنّ وجوده في المنزل في كثير من الأحيان سمح له أن يكون حازماً أكثر مع أطفاله: فعندما كان وجوده في المنزل متقطّعاً شعر بأنّه أراد أن يكون الأب المرِح، ولكن مع زيادة حضوره في المنزل شعر بالارتياح على اعتبار أنه أصبح أباً بكل ما للكلمة من معنى وأصبح يفرض القواعد.
ثمّة عبرة مشتركة في كلّ هذه القصص المتعلقة بكيفية تنظيم الوقت بين العمل والبيت والأطفال: ينبغي للآباء تعمد اتخاذ قرارات بشأن تحقيق التوازن بين العمل والحياة ومتابعتها، لأنّ النتيجة ستكون حياةً أكثر توازناً بين الأبوّة والمهنة.