تغيّر سوق العمل العالمي في الأعوام الأخيرة، فما كان حافزاً لاستقطاب المواهب قديماً لم يعد كافياً اليوم، حيث إن المعارف والمهارات التي شهدت إقبالاً منذ سنوات قليلة من قبل أصحاب العمل لم تعد مطلوبة من الأساس، كما اختفت بعض المهن وظهرت أخرى، وتغيرت ممارسات العمل وأدواته وطبيعته بشكل جذري.
وعموماً، ظهرت ثلاثة توجهات جديدة في سوق العمل، تناولتها دراسة حديثة لشركة غارتنر (Gartner)، وهي قصر عمر المهارات المطلوبة، وإمكانية العثور على مرشحين موهوبين خارج نطاق مجموعات المواهب التقليدية؛ إذ بات بإمكان الأشخاص اكتساب مهارات بشكل غير رسمي في أثناء أداء العمل، أو حتى في أوقات فراغهم، وأخيراً، الانتقائية التي بات الموظفون يتمتعون بها بشأن الشركات التي يرغبون في العمل لديها.
هذه التطورات دفعت الدول التي تسعى إلى تمكين العمالة لديها إلى تبني استراتيجيات تتوائم مع المتغيرات الجديدة في سوق العمل؛ مثل استراتيجية المملكة العربية السعودية، والتي استطاعت خلال السنوات الأخيرة تحقيق معدلات مرتفعة في التوظيف والتوطين؛ إذ احتلت المملكة المرتبة الأولى في معدل نمو القوى العاملة في الفترة من 2012 لـ 2021، متفوقة بذلك على دول مجموعة العشرين، وفقاً لتقرير المقارنة المعيارية لسوق العمل الصادر عن المرصد الوطني للعمل بالسعودية.
وتتولى وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بالمملكة العربية السعودية بالتعاون مع صندوق تنمية الموارد البشرية (هدف) أحد الصناديق التنموية المرتبطة بصندوق التنمية الوطني مهمة تمهيد الطريق أمام الباحثين عن فرص عمل للدخول في مسارات مهنية ملائمة، حيث تبنى الصندوق استراتيجية فعالة؛ بدءاً من خلق الوعي بالمسارات الوظيفية المطلوبة، مروراً بتوفير الحلول والمنتجات التدريبية المناسبة سواء للخريجين أو الباحثين عن عمل أو حتى الموظفين الساعين إلى تطوير مهاراتهم، وصولاً إلى تحفيز توظيف القطاع الخاص للمواهب، وذلك من خلال حزمة ضمت (8) برامج مركزة ومنتجات متطورة تغطي كامل رحلة المستفيدين وأدناه أبرز المبادرات التي اتخذتها لتمكين الباحثين عن فرص وزيادة نسبة التوطين في المملكة العربية السعودية:
مبادرات لخلق الوعي بالمسارات المتاحة
يواجه الخريجون الجدد تحديات معرفية ومهنية تعيق تقدمهم المهني أحياناً، إذ وصف 54 خريجاً جامعياً مرحلة الانتقال من الجامعة إلى التجربة المهنية بالضياع والقلق والإرهاق، كما أشار استطلاع رأي حديث أجرته منصة إلوشيان (Ellucian)، وهي شركة أميركية متخصصة في تقديم البرامج والخدمات لدعم التعليم العالي، إلى أن 51% من الطلاب ليسوا واثقين من مسار حياتهم المهنية عندما يلتحقون بالكلية، وأن أكثر من نصف الطلاب قد قاموا بتغيير تخصصهم مرة واحدة على الأقل، إضافة إلى قلة الوعي بالخيارات الوظيفية المتاحة لدى الخريجين وحتى طلاب الدراسات العليا والدكتوراة، وفقاً لاستطلاع لمجلة ناتشر (Nature).
لذلك قام صندوق تنمية الموارد البشرية (هدف) بإطلاق برنامج (الإرشاد المهني): والذي يعمل على الحد من عدم تطابق العرض والطلب في سوق العمل من خلال التدخل الوقائي على صعيد الطلاب وتعزيز مخرجات التوظيف من خلال خدمات الإرشاد العام التدخلي مع التركيز على الباحثين عن عمل ذوي الأولوية. حيث يتضمن البرنامج بوابة (سبل) للتطوير والتثقيف المهني، التي تساعد السعوديين على اتخاذ خيارات وظيفية مناسبة؛ عن طريق منظومة متكاملة من خدمات التثقيف والإرشاد المهني لطلاب المرحلة الثانوية، وطلاب الجامعات، والمعاهد، والباحثين عن عمل، والموظفين. وتضم البوابة عدة أقسام بداية من تحديد الميول المهنية والأكاديمية، ونشر الوعي بأهم المهارات المطلوبة في سوق العمل، والاحتياجات المتطورة لأصحاب الأعمال، وتوفير أدوات لبدء الحياة المهنية مثل تعلم كيفية بناء السير الذاتية وإجراء المقابلات الشخصية وغيرها.
ومؤخراً أطلقت بوابة (سبل) برنامج (الإرشاد المهني عن بعد)، والذي يوفر للطالب أو الخريج أو الباحث عن عمل؛ مستشاراً مهنياً يساعده في معرفة ميوله المهنية، ووضع خطة تطوير مهنية تشمل دورات، وورش عمل، وغيرها، ويُسهّل عليه التعرف إلى متطلبات الوظائف، واحتياجات أصحاب الأعمال.
مبادرات تدريبية لاندماج مرن بسوق العمل
تتغيّر المعارف والمهارات المطلوبة –حالياً- في سوق العمل بتسارع غير مسبوق؛ تبعاً للتطور التكنولوجي؛ ما أدى إلى نقص حاد وملحوظ في المهارات بين القوى العاملة، ففي عام 2018، عبّر 70% من الرؤساء التنفيذيين في منطقة الشرق الأوسط في استطلاع شركة بي دبليو سي عن قلقهم بشأن نقص المهارات الرئيسية، وارتفعت هذه النسبة إلى 81% في نهاية عام 2019. وفي المقابل هناك ملايين الفرص الشاغرة التي تنتظر المواهب المناسبة، ففي عام 2019، تمت الإشارة من مكتب إحصاءات العمل الأميركي إلى أن عدد الوظائف الشاغرة وصل إلى 7.5 مليون وظيفة، ليبلغ اليوم ما يقارب 10.7 مليون وظيفة.
وفي هذا الإطار عمل الصندوق على إطلاق برنامج المواءمة الوظيفية: والذي يهدف إلى تسهيل عملية المواءمة الوظيفية/التجربة للسعوديين وأصحاب العمل من خلال التركيز على زيادة قابلية التوظيف والاستدامة الوظيفية. وكذلك توفير التدريبات المناسبة الملائمة لاحتياجات السوق، وهذا ما فعله صندوق تنمية الموارد البشرية (هدف)؛ من خلال تقديم حزمة من البرامج التدريبية لطلاب الجامعة، والخريجين الجدد، والباحثين عن فرص، وحاملي المؤهلات المختلفة، والموظفين، وإليكم أبرز هذه البرامج :
1. برنامج التدريب على رأس العمل (تمهير): يهدف البرنامج إلى تزويد المواطنين السعوديين بخبرة عملية ومهنية لتحسين قابلية توظيفهم من خلال تمويل وتسهيل مطابقة المرشحين مع برامج التدريب على رأس العمل. واستهدف البرنامج تطوير مهارات خريجي الجامعات، والمعاهد، والكليات السعودية، والأجنبية سواءً كانوا حديثي تخرج أو من المنقطعين عن العمل مدة 6 أشهر أو أكثر؛ لاكتساب الخبرات والمهارات اللازمة لإعدادهم، وتهيئتهم للمشاركة في سوق العمل، من خلال التدريب العملي في مواقع العمل. وقد بلغ عدد المتدربين ضمن برنامج "تمهير" أكثر من 78 ألف متدرب ومتدربة منذ بداية إطلاق البرنامج في عام 2017 وحتى الربع الثالث من العام 2022.
وعلى الجانب الآخر، يحفز البرنامج منشآت القطاع الخاص إلى استقطاب الكوادر الوطنية المؤهلة والمدربة حين انتهاء التدريب، إذ يخفض تكاليف البحث والوقت المطلوب لتعيين كوادر سعودية مؤهلة، ويوفر للمنشأة هذه الكوادر دون أي التزام مالي على المنشأة، بالإضافة إلى إطلاق برنامج متخصص بدعم الدخل والذي يهدف تعزيز القدرة التنافسية للقوى العاملة السعودية من خلال تحفيز أصحاب العمل على توظيف وتطوير واستبقاء السعوديين، وكذلك دعم العاملين بالأعمال الحرة في الأنشطة الاقتصادية المختلفة.
2. برنامج التدريب الالكتروني (دروب): الذي يهدف إلى توفير منصة سهلة الاستخدام ومصمّمة خصيصاً لتعزيز المهارات الأساسية التي تسمح بتوظيف كافة المواطنين السعوديين وتقديم دورات تدريبية مفصلة حول مواضيع ومهن ذات الأهمية، حيث تسعى منصة (دروب) إلى تطوير قدرات القوى الوطنية من الذكور والإناث، ورفع مهاراتهم؛ للحصول على الوظيفة المناسبة والاستقرار فيها وفقاً لمتطلبات سوق العمل السعودي. وتوفر برامج المنصة نحو أكثر من 16 ألف دورة تدريبية إلكترونية في مجالات مختلفة تناسب احتياجات سوق العمل، مثل: البرمجة، والمحاسبة، والتصميم، وتحليل البيانات، وإدارة الأعمال، وغيرها.
3. برنامج دعم التدريب: حيث يعمل البرنامج على تمويل برامج التدريب لتطوير مهارات السعوديين وتمكينهم من الحصول على وظيفة والتقدم في مسيرتهم المهنية بما ينسجم مع احتياجات سوق العمل، من خلال العديد من المنتجات والتي منها برنامج (ممكن) والذي يهدف إلى تقديم دعم التدريب لمنشآت القطاع الخاص، والقطاع غير الربحي؛ من خلال برامج تدريبية متخصصة ترفع مهارات موظفيها؛ لتواكب متطلبات سوق العمل؛ بواسطة التدريب الإلكتروني الذي يُقدم بالتعاون مع الهيئات والأكاديميات الحكومية، وكذلك برامج (كوادر السلامة والصحة المهنية) والذي يدعم توطين مجال السلامة والصحة المهنية؛ بهدف تعزيز تطبيق ممارسات السلامة والصحة المهنية في منشآت القطاع الخاص، بما يتماشى مع مستهدفات رؤية المملكة 2030 في تأهيل الكوادر الوطنية، وتدريبها، وتمكينها من فرص العمل في مهن السلامة والصحة المهنية. ويتيح البرنامج للراغبين التدريب في مجال السلامة والصحة المهنية للمستوى الممارس، والمستوى المحترف؛ التسجيل في أحد المراكز المؤهلة، والحصول في نهاية البرنامج على شهادة في مجال السلامة والصحة المهنية، بالإضافة إلى برنامج (صيفي) والذي يقدم تدريبات للطلاب والطالبات خلال فترة الصيف، كما يمنح المنشآت الفرصة للاستفادة من الكفاءات الوطنية الشابة في تسيير أعمالها، وإكسابها المهارات الأساسية اللازمة لدخول سوق العمل، والتعرف إلى مهاراتهم وإمكانياتهم لتوظيفهم مستقبلاً. وينقسم التدريب إلى نوعين، الأول، هو التدريب الذي يتم داخل منشآت القطاع الخاص، حيث يعمل الطلاب إلى جانب موظف المنشأة لاكتساب الخبرة والتعرف إلى بيئة العمل، والثاني، هو التدريب لدى إحدى جهات التدريب المعتمدة.
مبادرات تمكين العمل
سلطت جائحة كوفيد-19 الضوء على أهمية توفير بيئة عمل مناسبة، ومريحة للموظفين، والاهتمام بصحتهم النفسية، والاستماع إلى رغبتهم في العمل بمرونة وحرية. وفي هذا الإطار، ركزت وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية جهودها في اتجاهين، الأول؛ هو توفير نماذج عمل أكثر مرونة، وتسهيل أنماط العمل الجديدة؛ بواسطة مبادرات مثل "مبادرة العمل المرن"، و"مبادرة العمل الحر"، و"مبادرة العمل عن بعد"، بما يحقق التوازن بين العمل ومتطلبات الحياة، ويتماشى مع التغيرات الجديدة في سوق العمل منذ الجائحة. كذلك من خلال منصة (تسعة أعشار) وهي عبارة عن محرك لتغيير ثقافة العمل لدى الفرد، والمجتمع؛ تقوم بتشجيع ودعم ريادة الأعمال، والمنشآت الصغيرة، والمتوسطة، وتمكين الأفراد من خلق وظائف جديدة بطرق مبتكرة.
أما الثاني؛ فيتعلق بتسهيل ظروف عمل المرأة، وهو ما يتماشى مع رؤية 2030 ومستهدفاتها فيما يتعلق بتمكين المرأة السعودية، وزيادة حضورها وانخراطها في سوق العمل، إذ أطلق الصندوق برنامج التمكين والذي يسهم في سد الفجوة المتمثّلة في إمكانية وصول الشرائح المحتاجة للدعم من خلال التدخلات المالية وغير المالية الهادفة إلى زيادة فرص العمل المتاحة لها واستدامتها، والذي يتضمن "برنامج قرة" لتحمّل جزء من تكاليف ضيافة أطفال المرأة العاملة، والذي استفادت منه 15 ألف امرأة عاملة حتى الآن، و"برنامج وصول" لدعم تكاليف المواصلات من وإلى مكان العمل، والذي استفادت منه 174 ألف امرأة عاملة منذ إطلاق المبادرة عام 2017.
عقد شراكات لتوظيف الشباب
يحرص صندوق تنمية الموارد البشرية (هدف) على عقد شراكات بشكل دوري مع كبرى الشركات لتدريب الشباب السعودي، وتوطينهم في القطاعات المختلفة، فعلى سبيل المثال؛ وقعت مذكرة تعاون مع شركة لوسد المتخصصة في الهندسة، والتصنيع، وبيع السيارات الكهربائية؛ لتدريب 1,000 شاب وشابة في صناعة السيارات الكهربائية، وتوظيفهم، على أن يتم تأهيل هؤلاء الشباب في الوظائف التخصصية، والمهنية في الشركة، وتدريبهم في الولايات المتحدة الأميركية؛ تمهيداً لالتحاقهم بالعمل فور انطلاق المصنع بمدينة الملك عبدالله الاقتصادية، وذلك بما يتوافق –أيضاً- مع رؤية المملكة 2030 لدعم وتمكين أبناء وبنات الوطن للعمل في الوظائف النوعية، والتخصصية.
برامج لتشجيع وتحفيز القوى العاملة:
يقدم صندوق تنمية الموارد البشرية (هدف) عدة برامج لتشجيع القوى العاملة على تعزيز فرص نموهم الوظيفي؛ من بينها برنامج "دعم الشهادات المهنية الاحترافية" الذي يحفز القوى العاملة الوطنية، ومؤسسات الأعمال، والباحثين عن عمل؛ على اكتساب شهادات مهنية احترافية معتمدة لتطوير مهاراتهم، وخبراتهم في المجالات المتخصصة، والمطلوبة في سوق العمل؛ إذ يدعم البرنامج أكثر من 120 شهادة مهنية، مثل: شهادة محترف إدارة المشاريع (PMP)، وشهادة زمالة الهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين. كذلك تبني أنماط العمل الجديدة.
وفي النهاية فإن المؤسسات والشركات تحتاج إلى إعادة النظر في عملية توظيف القوى العاملة؛ وبالشكل الذي يتناسب مع تغيّرات السوق ومتطلباته المتجددة، وهو ما استطاعت وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية في المملكة العربية السعودية ومنظومة العمل والتنمية الاجتماعية عموماً فعله عبر مساراتها الشاملة والمتكاملة، والتي تقدم نموذجاً عملياً لجذب المواهب وتوطينها في الوظائف الجديدة.