انخفضت نسبة المنتسبين من القوى العاملة إلى النقابات في الولايات المتحدة إلى أدنى مستوى لها منذ 80 عاماً، إلا أنّ العاملين في القطاع الإعلامي هناك كانوا يسيرون عكس التيار مع انضمام موظفي أكثر من 30 موقعاً إخبارياً رقمياً تقريباً إلى نقابة الإعلام منذ عام 2015 ناهيك عن وسائل الإعلام التقليدية الأخرى. وقد زاد إجمالي عدد الموظفين في مجال النشر على الإنترنت والمنتسبين إلى النقابة بمقدار 20 ضعفاً منذ عام 2010. وقد حققت النقابات التي تمثل العاملين في مجال الإعلام هذا الإنجاز عبر إنشاء تنظيم نقابي عريق وشديد الجدية عملت فيه على اعتناق مبدأ التفاوض الفعال مع تغليف هذا المبدأ بأسلوب تقني جديد وجذاب. وتتمثل العبرة فيما سبق، خصوصاً فيما يخص القادة العماليين في الصناعات الأخرى ذات أعداد المنتسبين الأقل، في إنشاء تنظيم نقابي يدافع عن حقوق منتسبيه بشراسة.
بوصفنا باحثين في مجال الأعمال والإدارة درسوا الحركات العمالية في الصناعات المختلفة، تعلمنا أنه لكي ينجح أي تنظيم نقابي، عليه التغلب على عقبات ثلاث؛ أولها: زرع رغبة شديدة للعمال في الانضمام لدرجة استعدادهم لحشد أنفسهم لتحقيق ذلك. أما العقبة الثانية فهي أنّ على النقابات إقناع العمال بأنّ تمثيلهم يمكن أن يُحسّن من ظروف عملهم. أما العقبة الثالثة فهي أنّ على العمال غالباً المخاطرة لنيل التمثيل النقابي.
ورأينا على مدى العقد الماضي قيام نقابات الإعلام بمخاطبة هذه التحديات بشكل منهجي، ما أدى إلى وضعها لبصمة قوية في صناعة سريعة التطور. ويمكن أن تكون دراسة الطريقة التي نفذت فيها ذلك منارة لمن يريدون تمثيلاً نقابياً ضمن صناعات أخرى، وربما حتى علامة مبكرة على أنّ الظروف تنضج من أجل عودة التنظيم النقابي.
كيف تمكنوا من القيام بذلك؟
تكشف حملات التنظيم الناجحة في غوكر ميديا (Gawker Media) عام 2015، وفوكس ميديا (Vox Media) عام 2017، وسليت (Slate) عام 2017، وذا روت (The Root) عام 2017، وغيرها من المواقع مدى جاذبية الأفكار التي قدمتها النقابات: فهي تستمع إلى العمال وتطور مواضيع تنظيمية تعلق في الأذهان وتتواصل بانتظام وتعطي العمال شعوراً بالأمل. ولا يعتبر ما سبق أمراً استثنائياً، فهي مبادئ تنظيمية مجربة وبرهنت على صحتها وأفادت النقابات بشكل جيد في الماضي، إلا أنّ سبب نجاحها الساحق هنا تمثل في قيام تلك التكتيكات بمخاطبة عدم يقين الموظفين بشأن الصناعة بشكل مباشر إلى جانب مخاوفهم من انخفاض رواتبهم وقلة ميزاتهم وارتفاع قابلية تسريحهم في صناعة خضعت لعملية إعادة هيكلة واسعة النطاق على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية مع إغلاق واحدة من كل خمس صحف وتسريح واحدة من كل ثلاث صحف لأغلب موظفيها.
لكن لا يكفي الاستياء لوحدة لتفسير تقدّم التنظيم النقابي المرئي في قطاع الإعلام. فكيف قام المنظمون هناك بهذا الإنجاز؟ في البداية، أقنعوا العمال بأنّ وجود نقابة كجهة تفاوض بالنيابة عنهم سيساعدهم بالفعل على تحسين أدائهم. ولقد ركزت نقابات قطاع الإعلام بمهارة على البقاء على اتصال دائم مع الأعضاء العاديين واستخدام منصات التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك وتويتر وفليكر (Flickr)، بشكل قوي. وحاولت أيضاً التواصل مع أرباب العمل لتسهيل عملية التنظيم كلما كان ذلك ممكناً. وفي مجال الإعلام والذي تتخذ كل وسيلة إعلامية فيه موقفاً فكرياً خاصاً بها، سيستفيد العمال من هذه المواقف لتشجيع أرباب عملهم على تسهيل إجراء مناقشة مفتوحة حيال مزايا التمثيل النقابي.
فعلى سبيل المثال، قامت هيئة تحرير غوكر ميديا ودبليو جاي (WGAE) بدعوة الموظفين لنشر وجهات نظرهم حيال التصويت على الانضمام إلى النقابة قبيل إجراء التصويت في عام 2015، حيث قالوا إنّ "جميع موظفي تحرير غوكر ميديا مدعوون لمشاركة أفكارهم حيال التصويت في قسم التعليقات أدناه. نحن نحب القيام بأمور كهذه بشكل علني".
وبعد ذلك، ركزت النقابات بشكل مكثف على تعديل عقود الانضمام لدرجة التواصل مع العمال ضمن المؤسسة لتعزيز موقفهم التفاوضي كما حصل في حالة فاست كومباني (Fast Company). وفي العديد من الحالات، تقدم العقود التي تم التفاوض عليها أكثر من مجرد أحكام أساسية؛ إذ يتضمن العقد في ثريليست (Thrillist) زيادة الرواتب على أساس الجدارة وإجازة والدية مدفوعة الأجر مدتها ثمانية أسابيع وتقديم سبب وجيه للعقوبات الانضباطية والتسريح وتقديم تعويضات نهاية خدمة وإنهاء "اتفاقيات عدم المنافسة" الحالية. أما العقد الموقع مع ذي إنترسبت (The Intercept) فيتضمن أيضاً تبرير سبب وجيه للتسريح وأربعة أشهر إجازة والدية مدفوعة وفقرة حول التنوع تضمن أنه "سيتم مقابلة مرشحين اثنين على الأقل من مجموعات لم تُمثّل في الماضي في الصحافة (أي النساء والأقليات) ضمن المقابلات الخاصة بأي منصب شاغر في الشركة".
وقامت أخيراً بإقناع العاملين في مجال الإعلام بأنّ للتنظيم والتحريض مخاطر إنما مبررة. ولننظر على سبيل المثال إلى العاملين في "ذا روت" والذين نشروا علناً نضالهم في بيان بعنوان "لماذا نُنظّم أنفسنا نقابياً". أو في "ثريليست"، حيث نظم الموظفون إضراباً لمدة يوم واحد لدفع الإدارة للتوصل إلى اتفاق بشأن العقد. وهناك أيضاً "سليت" مؤخراً والتي صوت الموظفون فيها بنسبة 52 إلى 1 للسماح بإضراب حتى تتحقق مطالبهم. وفقط لكي تعلم مدى خطورة تلك التحركات، فقد عارض المالكون والمدراء في هذه الصناعة بشدة الانضمام إلى النقابة لدرجة اختيار شركات مثل غوثاميست (Gothamist) ودي إن آيه إنفو (DNAinfo) إنهاء أعمالها بالمرة بعد أن صوت موظفوها للانضمام إلى النقابة.
نقطة التحول
لا تشير أي من الاستراتيجيات التي أشرنا إليها أعلاه إلى استخدام النقابة لأساليب تنظيمية جديدة. لكن إذا نظرنا إليها كلها معاً، وفي سياق المكاسب التي حققتها الحركة العمالية للعاملين في قطاع الإعلام، فإنها تمثل عودة الحراك التنظيمي من جديد. وهناك علامات أخرى أيضاً، إذ كشف استطلاع حديث أنّ حوالي 50% من العمال غير النقابيين سيدعمون التمثيل النقابي، في حين تزيد نسبة الموافقين بشكل عام على التمثيل النقابي عن 60% مع ازديادها بشكل أكبر لدى الفئات الأصغر عمراً مقارنة بالبقية.
والأمر الآخر هو أنه على الرغم من قيادة صناعة الإعلام لهذه الموجة، فإننا نرى موجات أخرى في قطاعات ثانية تشهد احتجاجات متنامية بدورها. ففي هذا العام، لفت المعلمون في العديد من الولايات والموظفين على مستوى العالم في جوجل الانتباه إلى ذلك بعد مغادرتهم لوظائفهم.
وأخيراً، تجدر الإشارة إلى أنّ العاملين في نقابات وسائل الإعلام يمتلكون مهارات الاتصال والتابعين الضروريين لتشكيل مجموعة من سفراء العمل المتنقلين. وعلى هذا النحو، فإنّ تنظيمهم النقابي قد يقود الطريق نحو تنظيم نقابي أوسع يضم المختصين المبدعين وجيل الألفية والعمال ذوي الأجور القليلة وعمال الصناعة المهددين بخسارة عملهم بسبب التقنية وتقادم المهارة وتغيير العملاء لتفضيلاتهم.