متى تعلّق الأمر بالصناعات الخدمية التي تتعامل مع المستهلك مباشرة مثل التجارة الإلكترونية ووسائل الإعلام وتقاسُم المركبات أو الشقق، فليس جديداً الإيحاء بأن "برامج الحاسب تلتهم العالم"، كما جاء في تصريح الرأسمالي المغامر (الجريء) "مارك أندرسون".
ولكن، خلال السنوات الأخيرة، حدث انتشار مواز للأدوات والخدمات الرقمية في عالم التصنيع أيضاً، مستفيداً من التصميم بمساعدة الحاسوب ومعدات الطباعة ثلاثية الأبعاد، وصولاً إلى نظم التشغيل مفتوحة المصدر والسحابة الإلكترونية وإنترنت الأشياء.
ولقد أُنجز الكثير من خلال "نهضة العتاد" المدفوعة بقوة البرامج، خصوصاً بعد أن أنتجت "حركة مُصنعين" محلية نابضة بالحياة، ومجتمعاً من عشاق العتاد. إلا أن مكان هذا النشاط وحجمه يتغيران الآن؛ فكما حدث للبرامج منذ 15 عاماً، بدأ التصنيع الناشئ حالياً الانتقال إلى مرحلة من النضج أكبر بكثير. وهناك أدوات وموارد ووسطاء جدد يسمحون لجيل جديد من رواد الأعمال الجادين بالبدء في إقامة جسور بين عالمي قراصنة الحاسوب والصناعة. ونتيجة لذلك، فإن شركات التصنيع الناشئة التي مكنتها البرامج، في موقف يسمح لها بترك أثر اقتصادي أكبر.
ومن بين الأمثلة الساطعة على هذه النماذج مشروع "بيبل" (Pebble)، وهو مشروع بتمويل من شركة "كيك ستارتر" (Kickstarter) باع إلى الآن ما يربو على مليون ساعة ذكية (وسبق الساعتين الذكيتين "أندرويد وير لشركة جوجل وساعة أبل). وبالمثل، حصدت شركة "نيبيا" (Nebia) - وهي شركة ناشئة متخصصة في صناعة رؤوس مرشات الاستحمام الموفرة للمياه في سان فرانسيسكو - مؤخراً استثمارات من تيم كوك الرئيس التنفيذي لشركة "آبل" والمؤسسة العائلية لرئيس مجلس إدارة شركة "جوجل" "إيريك شميت". ولدينا أيضاً شركة "دروب" (Drop)، وهي شركة ناشئة متخصصة في صناعة موازين المطابخ المتصلة بجهاز "آي باد" (iPad) بسعر 100 دولار، وتطبيق إلكتروني مُتاح على نطاق واسع الآن على متجر "آبل"، وعلى الموقع الرسمي لشركة "آبل"، وتطبيق "فيتبيت" (Fitbit) ذائع الصيت.
والشركات الناشئة كهذه لم يكن من السهل جداً تاريخياً أن تقوم لها قائمة.
"إن كثيراً من الشركات التي أسسها أصحابها للحفاظ على نمط حياة معين لم تكن قادرة على البدء في التصنيع الذي يدار على نطاق أوسع، الأمر الذي شكل خطراً كامناً يتربص بأي نهضة محدودة النطاق"، بحسب ما جاء على لسان "مارك هاتش" (Mark Hatch)، مؤسس شركة "تِكشوب" (TechShop)، وهي سلسلة من المساحات المخصصة للمصنعين في المناطق الحضرية في محطات المترو الأميركية مثل محطات أوستن وبيتسبرغ ومنطقة خليج سان فرانسيسكو. "والآن، بفضل سهولة الوصول إلى الأدوات ورأس المال وغير ذلك من العناصر الداعمة [أصبحت] المنتجات القابلة للتصنيع مثل قوارب "أورو" (Oru) القابلة للطي والفك ممكنة".
وما زال صعود نجم شركات العتاد الناشئة يتسم بطابع أشبه بالتمرد والعصيان. ولكن في أبحاثي، وفي الحوارات التي دارت بيني وبين رواد الأعمال المتخصصين في صناعة العتاد في شتى أنحاء البلد، لاحظتْ العديد من التطورات التي وضعت نشاط شركات التصنيع الناشئة على مسار أسرع وأكثر اصطباغاً بالطابع التجاري.
أولاً، فتحت شركة "كيك ستارتر"، وغيرها من مصادر التمويل الجماعي، الباب على مصراعيه أمام خيارات جديدة للتمويل المبدئي. ثانياً، انخفضت تكلفة عدد من المعطيات المهمة. فنظم التشغيل مفتوحة المصدر، وأدوات التصميم الميسور الوصول إليها، والطباعة ثلاثية الأبعاد، كلها جعلت التطوير وعمل النماذج الأولية أسهل، وجعلت الأسعار الهابطة بسرعة الصاروخ للشرائح الدقيقة وأجهزة الاستشعار وغيرها من المكونات الآن من الممكن لشركة صغيرة أن تصمم أجهزة معقدة ووثيقة الصلة تجارياً بتكلفة معقولة.
وثالثاً، يستطيع رواد الأعمال المتخصصين في صناعة العتاد في بعض المدن الآن الوصول إلى بنية تحتية داعمة ومتطورة، بما في ذلك نظام إيكولوجي ضخم من "استوديوهات" العتاد والحاضنات والمسرعات ومزودي الخدمات، والذي نما وكبر فشجّع الشركات الناشئة في عشرات المدن من أوستن حتى بروفيدانس ومنها إلى ميامي.
في العام الماضي، أعلن "أندي روبي"، مبتكر نظام تشغيل الهواتف المحمولة "أندرويد" (Android) أن شركته الجديدة "بلاي غراوند غلوبال" (Playground Global LLC) ستعمل كنوع من "استوديو" حاضن للأعمال، الذي يستطيع فيه رواد الأعمال والشركات الصغيرة التركيز على بناء الأدوات، بينما تتولى الشركة مهمة التعاطي مع تحديات عالم الواقع: مثل الهندسة والتصنيع والتمويل التصاعدي وإدارة سلسلة التوريد والتوزيع.
وعلى المنوال ذاته، نجد أن شركتيْن مثل "بي سي آتش إنترناشيونال" (PCH International) و"دراغون إينوفيشن" (Dragon Innovation) أصبحتا الآن متاحتين لإدارة التصنيع التعاقدي، ولكي "يبدو التصنيع أيسر" لرواد الأعمال أو الشركات الصغيرة، كما ذكر "كريس ميمز"، الكاتب بصحيفة "وول ستريت جورنال".
وتستطيع الآن شركات العتاد الناشئة التي تنضم إلى شركة "واي كومبينيتور" (Y Combinator) أو غيرها من المُسرعات الاستفادة من معامل مليئة بالمعدات لأغراض صناعة نماذج أولية، تقدمها شركة "بولت" (Bolt)، وهي شركة رأس مال مغامر مرتبطة بشركة "دراغون".
وأخيراً، يهتم المصنعون الكبار ومتوسطو الحجم بهذا الحراك، ويعقدون الآمال على التعاون مع الشركات الناشئة بطريقة لم يتوقعوها منذ خمس سنوات. عام 2013، بدأتْ شركة التصنيع التعاقدي متعددة الجنسيات "فليكستونيكس" (Flextonics) - المتخصصة في صناعة منتجات لشركتي "آبل" و"مايكروسوفت" - في عرض "المختبر آي إكس" (Lab IX)، وهي خدمة تكفل حلقة وصل بين الشركات الناشئة وشركاء التصنيع. وبدأ متعاقدون آخرون أيضاً يشاركون وينخرطون، بعد أن لمسوا قيمة سوقية حقيقية. يقول نات ماني، الرئيس التنفيذي لشركة "بيسترونيكس" (Bestronics)، وهي إحدى شركات التصنيع التعاقدي في وادي السيليكون "إننا نسعى دوماً إلى التعاون مع الشركات الناشئة كأحد أشكال تطوير الأعمال، لكننا نتابع أيضاً عن كثب التقنيات الجديدة. وكثيراً ما يُجرب الوافدون الجدد أشياء نحن في حاجة إلى الإحاطة بها علماً".
النتيجة: إن أنواع الأدوات، ونظم الدعم ذاتها التي عززت ازدهار البرامج، أصبحت الآن متاحة في عالم العتاد، وصارت تفتح مسارات وقنوات جديدة.
ويفتح ذلك الباب على مصراعيه أمام إمكانات جديدة، من ناحيته، يتخيّل ميمز عصراً "تنتقل فيه المنتجات الجديدة - وتحديداً المنتجات الفعلية المادية - من مرحلة الفكرة المجردة إلى رفوف المتاجر في غضون شهور". ولا شك أن موجة نُضج الشركات الناشئة سوف تحفز قطاع التصنيع الأميركي. ومثل هذا العصر يمكن أن يكون مفيداً للولايات المتحدة إذا ما نظرنا إلى المزايا التي تتمتع بها الدولة في ميادين الإبداع والبرامج ومؤسسات الأعمال القائمة على السحابة الإلكترونية، حتى لو انتهى الحال بقسم كبير من المنتجات الجديدة المترتبة على ذلك إلى التصدير للخارج.
وفيما خلا ذلك، من الممكن أن تساعد تلك الموجة المدن. ما زالت مجتمعات الشركات الناشئة في المناطق الحضرية حالياً موجهة بكثافة نحو أفكار البرامج ومشروعات الإنترنت الاستهلاكية، ويضع هذا الموقف الاقتصادات الحضرية في إطار أضيق مما هي عليه في واقع الأمر. وفي المقابل، نجد أن ظهور شركات التصنيع الناشئة التي مكّنتها التقنية السحابة، والمدعومة بحاضنات الأعمال، قد يوسع نطاق الرؤية. ستكون الفرص الجديدة ممكنة إذا اكتسب المخترعون ورواد الأعمال في عالم الواقع زخماً إلى جانب مخترعي العالم الافتراضي ورواد أعماله. وبالمثل، فإن مشروعات التصنيع يمكن أن تزدهر دون الحاجة إلى مساحات شاسعة في الضواحي الراقية. وفي نهاية المطاف، سوف تستفيد المدن ومقاطعات الابتكار الموجودة داخلها لو استطاعت توجيه قدر أكبر من صناعة العتاد وريادة أعماله التي ساعدت على صعود نجم وادي السيليكون وغيره من بؤر صناعة التقنية في المقام الأول.
وأخيراً، يبدو من الأرجح أن الاقتصاد القومي والمناطق الحضرية الكبرى الأميركية يمكن أن تستفيد إذا أمست قطاعاتها الصناعية المتقدمة ملتقيات قوية للكفاءات في مجالي البرامج والعتاد. وبالنظر إلى الهيمنة الرقمية الأميركية، وبراعة القراصنة، تبدو ريادة الأعمال الرقمية مؤهلة لتشجيع الأنشطة التصنيعية بقدر أكبر ومنحها فرصة جديدة للمنافسة.