في الأيام الأولى لشركة "فايس ميديا" (Vice Media)، أرسل الشريك المؤسس شين سميث بضع نسخ من منشورات الشركة الناشئة التي تتخذ من مدينة مونتريال مقراً لها إلى متجر تسجيلات في مدينة ميامي ومتجر لمعدات التزلج في مدينة لوس أنجلوس كي يصبح بإمكان الشركة أن تقول للمعلنين إن قراءها منتشرون في جميع أنحاء أميركا الشمالية؛ فعل يليق بلقب "شين كثير الهراء" الذي أطلقه عليه صديقه وزميله كما يقال.
هذه الخدع شائعة جداً في عالم الشركات الناشئة، إذ تشجع قواعد ريادة الأعمال المؤسسين على الاحتيال والعمل في الدعوة لشركاتهم. في الواقع، يُحتفى بالمؤسسين الأسطوريين لقدرتهم على إلهام الآخرين حتى لو تطلب منهم ذلك المبالغة في قول الحقيقة. خذ مثلاً ستيف جوبز، المروج المثالي للشركات الناشئة، إذ يصفه أوائل موظفي شركة "آبل" بأنه قادر على "إقناع أي شخص بأي شيء فعلياً". وكما قال المهندس آندي هيرتزفيلد فقد كان جوبز "بارعاً في تحريف الواقع، ولديه مزيج محير من الأسلوب البلاغي الساحر والإرادة التي لا تقهر، ودأب على تحريف أيّ حقيقة لتناسب الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه".
هذه مهارة حيوية لدى مؤسسي الشركات الذين يضطرون لإقناع جمهورهم بإيقاف شكوكهم مؤقتاً والنظر إلى الفرصة التي يراها رائد الأعمال، وهي عالم يمكن أن يكون حقيقياً يوماً لكنه ليس كذلك الآن. بيد أن تحريف الواقع منحدر زلق، فالحماس يؤدي إلى المبالغة، والمبالغة تؤدي إلى الزيف، والزيف يؤدي إلى الاحتيال. وقد جرف هذا المنحدر إليزابيث هولمز، وهي مؤسسة شركة "ثيرانوس" المناصرة لستيف جوبز التي يُزعم أنها خدعت المستثمرين والعملاء بتسويق اختبارات الدم الوهمية.
حالة هولمز نادرة، فالقليل من رواد الأعمال يواجهون اتهامات بالاحتيال كما حدث معها عندما نُشر هذا المقال في الصحافة. لكن الأعمال التي يكون فيها الخداع أقلّ شائعة أكثر، كتشويش الحقيقة وإغفال تصحيح المفاهيم المغلوطة والمبالغة في الحقائق وتجميلها والتهرب منها والتظاهر بما ليس حقيقياً وإظهار أنصاف الحقائق، وهي مكلفة. فالخداع يولد مواضع قصور في السوق، لأنه يحتجز الموارد بسبب الاستمرار بمشاريع محكومة بالفشل ويزيد من صعوبة تعرّف أصحاب رؤوس الأموال المغامرة (الجرئية) والموظفين على أفضل المشاريع التي يمكنهم استثمار أموالهم أو عملهم فيها. نعتقد أن ذلك يؤثر أيضاً على المؤسسين من الناحية الشخصية نظراً للتوتر المنهك الذي يترافق مع الكذب عادة.
كيف يمكننا إخراج أسلوب الخداع من ثقافة الشركات الناشئة وتشجيع رواد الأعمال في نفس الوقت على المجازفة والسعي لتحقيق أحلام كبيرة؟ أجرينا أبحاثاً حول هذا السؤال على مدى عقود، ونطرح فيما يلي نهجاً متعدد التخصصات للإجابة عنه. أحدنا (كايل) مؤسس ناجح انتقل إلى العمل الأكاديمي، والآخر (جون) يعمل في تدريس مادة الأعمال والفلسفة، والمؤلفان الآخران (توم ولورا) يشغلان مناصب أكاديمية تركز على ريادة الأعمال الملتزمة بالمعايير الأخلاقية. في هذا المقال نستكشف أولاً سبب انتشار أساليب الخداع بين رواد الأعمال، ثم نوضح سبب عدم صلاحية مبرراتها الشائعة، وأخيراً نقترح مبادئ توجيهية سلوكية تساعد رواد الأعمال على أن يكونوا ناجحين وصادقين لأجل صالح الجميع.
فكرة المقالة بإيجاز
المشكلة
يميل رواد الأعمال للمبالغة أو حجب الحقيقية عندما يحاولون إنجاح شركاتهم. لكن ذلك يحتجز الموارد عن طريق تطويل عمر المشاريع المحكومة بالفشل ويزيد من صعوبة تعرف أصحاب رؤوس الأموال المغامرة (الجرئية) والموظفين على أفضل المشاريع التي يمكنهم استثمار أموالهم أو عملهم فيها.
السبب
المؤسسون ليسوا أشخاصاً سيئين، لكن عندما يكذبون يستعينون بمبررات زائفة كضرورة حماية المستثمرين والموظفين. وربما يعتقدون أن عليهم المبالغة في الحقائق لأن جميع رواد الأعمال يفعلون ذلك ويجب عليهم فعله مثلهم حفاظاً على قدرتهم التنافسية.
الحلّ
قد تساعد الفلسفة الأخلاقية المؤسسين في التمسك بالصدق، إذ يمكنهم السعي لتحقيق أحلام كبيرة لكن يجب أن يلتزموا الصدق بشأن الأدلة والافتراضات التي تقوم عليها رؤيتهم. ويجب أن يبحثوا عن شركاء ومستثمرين وغيرهم ممن سيعينونهم على أن يكونوا في أفضل حالاتهم.
إن تشويه الواقع منحدر زلق، فالحماس يؤدي إلى المبالغة، والمبالغة تؤدي إلى الزيف، والزيف يؤدي إلى الاحتيال.
لماذا يكذب رواد الأعمال؟
كان الخبير الاقتصادي مؤسس كلية "شيكاغو"، فرانك نايت، من أوائل العلماء الذين درسوا دور رواد الأعمال في النظام الرأسمالي الحديث. في كتابه "المخاطرة وعدم اليقين والربح" (Risk, Uncertainty, and Profit) الذي نُشر في عام 1921، يميز رواد الأعمال عن غيرهم من رجال الأعمال باستعدادهم للتصرف في مواجهة حالات عدم اليقين. بطبيعة الحال تواجه الشركات القائمة حالات عدم اليقين أيضاً، لكن الشركات الناشئة على وجه الخصوص تضطر للخوض في غموض أشد بدرجة كبيرة؛ فرواد الأعمال عادة لا يستطيعون معرفة درجة نجاح منتجاتهم أو طرق تصنيعها أو العملاء الذين سيشترونها أو طريقة الوصول إليهم. وبالنسبة للباحث نايت فإن رائد الأعمال هو الشخص الذي يبادر بالعمل في في مواجهة عدم اليقين، في حين يتردد الآخرون.
لكن العمل وحده غير كاف، إذ يحتاج رائد الأعمال إلى مساعدة الآخرين وبالتالي يجب أن يكون مشجعاً قادراً على إقناع أصحاب رؤوس الأموال المغامرة عند إلقاء الكلمة الترويجية للحصول على التمويل، وجذب الموظفين المحتملين وإقناعهم بالتخلي عن وظائفهم السهلة وإقناع العملاء بتجربة منتج جديد وغرس الثقة في فريقه على الرغم من أن شركتهم الناشئة تواجه مصيراً غير مؤكد.
هذا هو السبب الأول الذي يجعل بعض رواد الأعمال أقلّ صدقاً؛ فهم يكذبون لأن الكثير من فرص الكذب متاحة لهم، وهم في حالة تأهب مستمرة أكثر من معظم رجال الأعمال الآخرين.
السبب الثاني هو أن رواد الأعمال يواجهون خسارة كبيرة. فهم كمجموعة في وضع يؤهلهم لجني ثروة كبيرة، لكنها لا توزع عليهم بالتساوي. تظهر الأبحاث أن رائد الأعمال المتوسط تكون عائداته المعدلة حسب المخاطر ضئيلة، ومن الناحية الإحصائية سيكون المؤسسون أفضل حالاً إذا عملوا في شركة قائمة أو امتلكوا مجموعة متنوعة من صناديق المؤشرات مقارنة بحيازة حقوق الملكية الخاصة. لكن ما يفتقر إليه رائد الأعمال المتوسط يعوضه رائد الأعمال المتفوق؛ إذ تجني نسبة مئوية ضئيلة من رواد الأعمال ثروة كبيرة للغاية. وبالفعل، يهيمن رواد الأعمال على أعلى المراتب في تصنيفات أصحاب أكبر الثروات في العالم.
يجب أن تسير آلاف الأمور على نحو صحيح كي يتمكن رائد الأعمال من جني هذه المبالغ الضخمة، لكنه في المقابل يضع مصيره على المحك في كلّ اجتماع يعقده. ولا يعني الفشل تفويت فرصة لجني مكاسب غير متوقعة فقط، بل هو أيضاً تخييب لآمال الأصدقاء والعائلة والموظفين والمستثمرين. ومع هذه المخاطر الكبيرة قد يصبح تحريف الحقيقة مغرياً أمام رائد الأعمال.
السبب الثالث الذي يدفع رواد الأعمال لاتباع أسلوب الخداع هو أن الإفلات من العقاب سهل عليهم نسبياً، فريادة الأعمال تتمتع بقدر كبير مما يسميه الاقتصاديون "عدم تناسق المعلومات". يقود المؤسسون عادة شركات خاصة مغلقة الاكتتاب، ويمتلكون معلومات أكثر مما يمتلكه أصحاب المصلحة الآخرون من مستثمرين وعملاء وموظفين. يخضع قادة الشركات العامة لمتطلبات الشفافية واسعة النطاق والتدقيق المكثف، وإذا كذبوا في أمر فكثير من الأشخاص يتمتعون بالقدرة والصلاحية لاكتشافه. ولكن حتى في الشركات الناشئة المدعومة من رأس المال الاستثماري والتي تخضع لإشراف مجلس الإدارة، فإن دائرة صغيرة من الأشخاص تطلع على الأعمال الداخلية للشركة، لذلك يمكن أن يمرّ الخداع بسهولة من دون أن يكتشفه أحد أو يعارضه. ولأن الشركات الناشئة تبقى خاصة لفترة أطول من ذي قبل وسطياً، فهذا الأسلوب يشيع ويستمر على نحو متزايد.
لا يعني أي من هذا أن أخلاقيات رواد الأعمال أقلّ من أخلاقيات غيرهم من رجال الأعمال، فالأبحاث القليلة المتاحة تشير إلى أنهم وسطياً يلتزمون بمعايير أخلاقية أعلى من التي يلتزم بها مدراء الشركات، لكن الضغوط التي قد تغريهم للابتعاد عن الصدق التامّ هائلة، وقد أظهرت عقود من الدراسات النفسية أنه من المحتمل أن يلجأ أي شخص للكذب حتى وإن كان ممن يلتزمون بمعايير أخلاقية عالية إذا كان في سياق فيه الهفوات الأخلاقية شائعة ومقبولة.
كيف يبرر رواد الأعمال أكاذيبهم
لا يعتبر معظم المؤسسين الذين يحجبون الحقيقة تحت هذه الضغوط أنفسهم مخطئين، ويبررون أفعالهم غالباً بمزيج من ثلاثة تبريرات لها ارتباط وثيق بالنظريات الأخلاقية الشائعة حول ما يجعل الأفعال صائبة أو خاطئة، لكن هذه المبررات كلها تتساقط أمام التدقيق الفلسفي العادي.
"إنه من أجل الصالح العام". في عام 2018 أجرت مجلة "إنتربرونور" (Entrepreneur) مقابلة مع رائد الأعمال غاري هيرشبرغ الذي بنى شركة "ستونيفيلد فارم" (Stonyfield Farm) من عمل جانبي صغير يضم شخصين (و7 بقرات) لتصبح واحدة من أهم الشركات الرائدة لتوريد اللبن العضوي في العالم، لكن لم يبد نجاح شركة "ستونيفيلد" مؤكداً من البداية. تحدث هيرشبرغ عن سلسلة من اللحظات الأليمة والخداع الذي أنقذ الشركة، ومنه الكذب على البائعين ومسؤولي القروض في إدارة المشاريع الصغيرة. وقدم أسباباً منطقية كثيرة يشترك رواد الأعمال فيها كلها وتتعلق بالنظريات الأخلاقية المعروفة.
قال هيرشبرغ موضحاً: "أعتقد أن الكذب، إن أردنا أن نسميه كذباً، وأرى أن علينا تسميته كذلك، يصب في الصالح العام لأنه في النهاية لم يضر بي أو بالبائعين، ولا بأس به طالما أن النتائج المطلوبة قد تحققت في النهاية ". يتماشى هذا التبرير مع مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" الذي يرجع إلى مبدأ النفعية الذي صاغه كل من جيريمي بينثام وجون ستيوارت ميل، والذي يفيد بضرورة الحكم على الفعل استناداً إلى نتائجه فقط. كتب بينثام: "إن مقياس الصواب والخطأ يتمثل في تحقيق أعظم سعادة لأكبر عدد من الأشخاص".
"أنا أحمي موظفيّ". استند هيرشبرغ إلى أحد أشكال مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" أيضاً، قال: "تفعل ما يجب عليك فعله مهما كان لتحقيق هدفك. كنا نكافح من أجل الحفاظ على وظائف الموظفين واستثمارات أمهاتنا وأمهات زوجاتنا وأصدقائنا، ونكافح من أجل حياتنا. وأعتقد أنه بإمكانك فعل أيّ شيء في سبيل ذلك ما دمت لا تؤذي أحداً". غالباً ما تكون الأولوية للأصدقاء والعائلة والمستثمرين الأوائل في الأسهم الخاصة والموظفين على حساب أصحاب المصلحة الذين يظهرون على الساحة لاحقاً، وهم في حالة هيرشبرغ إدارة الشركات الصغيرة والبائعون.
بطبيعة الحال لا يستطيع رائد الأعمال معرفة ما إذا كان كذبه سيؤدي إلى تحقيق نتائج أفضل لأصحاب المصلحة أو تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الأشخاص. فرائد الأعمال خاضع لقوى خارجة عن سيطرته، وكثير ممن يكذبون "من أجل الصالح العام" سيشهدون فشل مشاريعهم، وسيكون ذلك على حساب أصحاب المصلحة الذين خدعهم رائد الأعمال ليدعموه أو تضرروا من مخاطر لم يعرّفهم بها بصدق ووضوح تام.
"الجميع يفعل ذلك". قال هيرشبرغ عن بائعيه: "ليس الأمر كما لو أنهم لم يروه من قبل". تعتبر وجهة النظر هذه أن تشويه الواقع هو جزء من اللعبة ليس إلا، مثل "التهويل" في الإعلان والخداع في لعبة البوكر؛ لا تحظره القواعد وكل لاعب مسؤول عن معرفة تلك القواعد. أحياناً يكون تشويش الحقيقة غير واضح. ففي فترات طفرات التكنولوجيا (الفقاعات) مثلاً، حاولت بعض الشركات الناشئة تصنيف نفسها على أنها شركات تكنولوجيا سعياً لرفع مستوى تقييمها على الرغم من أنها لا تملك إلا مكوناً صغيراً من مكونات تكنولوجيا المعلومات. في أوقات أخرى يكون التلاعب أكثر وضوحاً كما هو الحال عندما يبالغ المؤسسون في الإيرادات المتوقعة لأنهم يتوقعون أن يشكك المستثمرون في هذه الأرقام. وفي هذه الحالة قد يرى المؤسس أن عليه قول إنه سيحقق إيرادات تصل إلى 50 مليون دولار سنوياً لأن المستثمرين سيشككون في هذا المبلغ ويسمعونه 5 ملايين دولار بدلاً من 50 مليون، والجميع يعلم ذلك. كما قد يتلاعب المؤسسون في نماذجهم المالية من أجل توليد النتائج التي يعتقدون أن أصحاب رؤوس الأموال المغامرة (الجريئة) يتوقعونها، كإيرادات بمعدل 10 أضعاف أو سوق بقيمة عدة مليارات من الدولارات. وقد يخشى المؤسس الذي لا يتبع أسلوب المبالغة من أن يكون موقفه ضعيفاً.
هيرشبرغ رائد أعمال ناجح ومحب للخير غزير الإنتاج وهو إنسان يحمل نوايا طيبة بلا أي شك، لكن تعليقاته تعكس الضغط الذي يعاني منه جميع رواد الأعمال والمبررات التي تقودهم إلى حجب الحقيقة. بيد أن هذه المبررات تعجز في نهاية المطاف عن إثبات صحتها، فهي مجرد أعذار وليست حججاً سليمة. وهي ترمي مسؤولية صناعة القرار على القواعد التي يفترض أنها خارجة عن السيطرة وغير الأخلاقية أحياناً في المؤسسات المجردة. قد يقول المؤسسون "هكذا هو العمل" ليبرّئوا أنفسهم من الخيارات الغامضة، لكن برأينا لا يختلف مجال الأعمال والشركات الناشئة عن بقية مجالات الحياة، ويجب إدارته وفقاً لنفس المعايير الأخلاقية.
يحيط رائد الأعمال الحكيم نفسه بالشركاء المؤسسين والمرشدين وأعضاء مجلس الإدارة والمستثمرين الذين سيعينونه على أن يكون بأفضل حالاته.
رائد الأعمال الصادق
يرغب معظم رواد الأعمال في اكتساب ثقة الآخرين وإثبات أنهم جديرون بهذه الثقة، في حين يطمح قليل منهم أن يكونوا محتالين. تشير الأدلة إلى أن الغالبية العظمى من الناس ترى أن الكذب والخداع يسببان ضغطاً كبيراً، فعلى سبيل المثال بينت الدراسات أن الضغط المرتبط بالمعضلات الأخلاقية المستمرة يؤدي إلى تدني الرضا الوظيفي ويعدّ سبباً أساسياً للاحتراق الوظيفي.
ثمة طريقة أفضل تنطوي على تعزيز الفضيلة في جميع جوانب الحياة ومنها الجانب المهني، في هذه النظرة الأرسطية للعالم تكون الأفعال صائبة إذا كانت تنطبق على ما يفعله الشخص الصالح (الفاضل)، وفيما يلي نقترح ممارستين يطبقهما رواد الأعمال النموذجيون الذين سررنا بتعليمهم واستضافتهم والتعاون معهم.
بيّن أدلتك وافتراضاتك. عندما يرسم رواد الأعمال صورة عن الوضع المأمول فهي ليست زائفة بأكملها، بل هي تخمينات مستندة إلى الأدلة. تنطوي الأدلة على خبرة رائد الأعمال والبيانات الأولية التي جمعها من التجارب والزخم الذي اكتسبه وبيانات الطرف الثالث؛ باختصار هي الأشياء التي يعرفها رائد الأعمال. في حين أن التخمينات هي الأشياء التي لا يعرفها بعد ولكنه يعتقد أنها صحيحة أو يأمل أن تكون كذلك،
ولا يمكن أن يستخلص الجميع نفس النتيجة من هذه الأمور. يدين رواد الأعمال بالشفافية والصدق لكل من يطلبون منه تكريس نفسه أو موارده للمشروع. يجب عليهم تقديم رؤية مقنعة بالطبع، لكن يجب عليهم أيضاً تقديم الأدلة والافتراضات التي تدعم هذه الرؤية. المبدأ مماثل للتعليمات التي يمليها مدرس مادة الجبر لطلاب الصف الثامن الإعدادي: استعرض عملك. سيشكك المستثمر الجيد صاحب رأس المال المغامر (الجريء) في افتراضات رائد الأعمال، لكن لا ينطبق ذلك على جميع أصحاب رؤوس الأموال المغامرة لا سيما الذين يسعون لإنشاء شركة ناشئة في مجال يشهد طلباً كبيراً. ولا يُمنح الموظفون والشركاء وأصحاب المصلحة الآخرون الفرصة
للتمعن عن كثب في الأدلة والافتراضات وتشكيل استنتاجاتهم الخاصة بشأن الشركة أو الفريق أو المنتج الذي يُطالبون بدعمه.
قد يبدو الصدق والقدرة على الإقناع متعارضين، وفي بعض الحالات تكون التحذيرات ومناقشة المخاطر غير مناسبة. فعندما تسنح للمؤسس فرصة للركوب في مصعد مع مستثمر سيكتفي بطرح القصة المقنعة ببساطة، وفي هذه المحادثات العرضية تكون الرؤية هي الأهم في حين يكون عدم ذكر المخاطر والاحتمالات السلبية متوقعاً ولا يعتبر خداعاً بأي حال من الأحوال.
لكن في سياق يصب التركيز فيه على تحليل الفرصة وتقييمها، مثل إلقاء كلمة ترويجية رسمية أو محادثة مع موظف محتمل، يجب على رائد الأعمال توضيح الأدلة والافتراضات بالتفصيل وأن يكون مقنعاً في نفس الوقت. لذلك نقترح أسلوب "شطيرة الاستنتاج"؛ يتحدث أفضل رواد الأعمال عن الاستنتاج أو الاستقراء في بداية كلماتهم الترويجية ونهايتها، ويوضحون أدلتهم وافتراضاتهم فيما بينهما. يمكن أن يقول المؤسس شيئاً مثل: "سنحقق إيرادات إجمالية تبلغ نحو (س) مليون دولار في العام المقبل، ودعوني أستعرض الأدلة والافتراضات التي تدعم ذلك". وبعد استعراض العمليات الحسابية ينهي المؤسس كلمته بتأكيد ما بدأ به قائلاً: "لذلك نعتقد أن مبلغ (س) مليون دولار هو تقدير منطقي". لن يفوّت المستمعون خلاصة قول رائد الأعمال، لكن في نفس الوقت سيكون بإمكانهم استخلاص نتائجهم الخاصة.
أحط نفسك بمن يعينك على أن تكون بأفضل حالاتك. تبين كمية هائلة من أبحاث علم النفس أن دائرة الإنسان الاجتماعية تؤثر في مبادئه الأخلاقية. فالتصرفات التي يلتزم بها من حولنا أو يقبلونها تصبح مقبولة لدينا مع مرور الوقت، في حين تصبح التصرفات التي يدينونها غير مقبولة. لذلك يحيط رائد الأعمال الحكيم نفسه بالشركاء المؤسسين والمرشدين وأعضاء مجلس الإدارة والمستثمرين الذين سيعينونه على أن يكون بأفضل حالاته.
المستثمرون تحديداً لهم أهمية كبيرة في هذا الشأن، فقد يطلق رائد الأعمال بضعة مشاريع فقط طوال حياته لكن المستثمرين المحنكين يشاركون في مئات المشاريع، وهم يشهدون التجارب القاسية التي يمر بها كثير من المؤسسين في كثير من الأسواق على مدى عدة أعوام ويجمعون حكمة ومعرفة لا يمكن أن يملك المؤسس مثلها. والمستثمر الجيد قادر على "مطابقة الأنماط"، ويتمتع بحساسية تجاه الجوانب الأخلاقية من بعض التجارب القاسية، ويعرف المسارات "الصحيحة" للأحداث والتي تؤدي إلى أفضل النتائج. يعين أفضل المستثمرين رواد الأعمال على الإصغاء للجانب الخيّر من شخصياتهم،
لكن المستثمر السيئ قد يكون كارثة. وهذا واضح لا سيما بين المستثمرين الذين يولون تحقيق النمو الأولوية على حساب كل شيء آخر. خذ مثلاً تعاون الشريك المؤسس لشركة "وي وورك" (WeWork)، آدم نيومان، مع مالك مؤسسة "سوفت بنك" (SoftBank)، ماسايوشي سون. في لقائهما الأول، يقال إن سون عبر عن استيائه من مستوى جدية نيومان وحثه على أن يتصرف بجنون أكبر، وانصاع نيومان لرغبته. وأقلّ ما يمكن قوله عن توسع شركة "وي وورك" الذي أعقب ذلك بتمويل من مؤسسة "سوفت بنك" هو إنه مثير للعجب؛ فقد انطوى على خدمة المصالح الذاتية التي تمثلت في تسجيل نيومان لكلمة "We" كعلامة تجارية ثم بيعها للشركة مقابل قرابة 6 ملايين دولار، والنفقات الباهظة التي تمثلت في طائرة خاصة بقيمة 60 مليون دولار. أصبحت شركة "وي وورك" الشركة أحادية القرن (يونيكورن) الأكبر قيمة في الولايات المتحدة، وجزء من السبب في ذلك هو الكاريزما التي يتمتع بها نيومان وقدرته الكبيرة على تحريف الواقع؛ يُقال إنه لم يستغرق سوى لحظات لإقناع المستثمرين بتمويل رؤيته. ذاع صيت نيومان ونال نصيبه من الهجاء بسبب مبالغته الكبيرة بشأن الشركة (مثلاً، لم يضعها في إطار شركة عقارية لخدمات التأجير وإنما وصفها بأنها "حالة وعي") وبشأن ما يمكنها تحقيقه (مثل حلّ مشكلة الأطفال الأيتام). ومع ذلك فإن شركة "وي وورك" التي أنشأها نيومان وصلت إلى مرحلة الطرح العام الأولي في البورصة قبل أن تنهار. (حتى كتابة هذه الأسطر كانت الشركة تستعد للإعلان عن صورة أكثر تواضعاً تحت قيادة جديدة ضمن عملية اندماج مع شركة استحواذ لأغراض خاصة "SPAC").
ربما كان مغرياً التفكير في أن الابتعاد عن الحقيقة هو مجرد جزء من الأعمال التجارية، وأننا نعمل في ساحة سباق رأسمالية بلا قيود حيث يحمل كل متسابق مسؤولية مصالحه ويعرف قواعد اللعبة جيداً. لكن للأسف، فإن هذا التشكيك يتغذى على نفسه؛ عندما نواجه خداعاً أو فضيحة نشعر بخيبة أمل وتزداد احتمالات أن نتبع مثل هذه السلوكيات.
يواجه رواد الأعمال ضغوطاً تدفعهم للكذب، فهم يتنافسون على مجموعة ثابتة من رؤوس الأموال المغامرة ويعملون عادة لتأمين الإيرادات للأصدقاء والعائلة ويلاحقون أحلام المجد، لذا فمن الممكن أن يشعروا بأن موقفهم سيكون ضعيفاً إذا عملوا على مشاريعهم مع التزام متفانٍ بالحقيقة. لكن فهم القوى التي تدفعهم للكذب والأساليب التي قد تعينهم على التمسك بفضائلهم سيقلل الخداع الذي بات شائعاً جداً في هذا الجزء الحيوي من الاقتصاد.