ملخص: حركت مستهدفات التحول لرؤية 2030 لإعادة التوجيه والتوجه للاستفادة من تجربة الزيارة للسعودية عموماً، ومكة والمدينة خصوصاً في رفع جودة الزيارة الثقافية. لقد جعلت الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي "سدايا" من الدخول في مجال الذكاء الاصطناعي وتسارع التطور التقني فرصة لتحرك تقني يواكب حجم ما تستهدف الرؤية السعودية الوصول إليه، حيث:
- أنشأت مركز عمليات مكة الذكية (Smart Moc) لمتابعة سير عمل المنصات الرقمية الذكية في الحج.
- وظفت البيانات والذكاء الاصطناعي لبناء منظومة رقمية ذكية اشتملت على بنى تحتية ومنصات ذكية مثل سواهر وبصير اللتين تهدفان إلى دعم الجهات الأمنية المختصة بتحليلات متقدمة تسهم في تأمين حشود الحجاج وإدارتها بسهولة.
"شعوب من كل بقاع الأرض، وأزياء وتعبيرات متباينة، بعضهم بعمائم، وبعضهم عاري الرأس، بعضهم يسير صامتاً خافضاً وجهه ومسبحته في يده، وآخرون يركضون بحماس وسط الزحام، خليط أجسام بنيّة للصوماليين يلمعون كالنحاس في ملابس صارخة الألوان، وعرب من أعماق الجزيرة العربية، وجوه نحيلة بلِحى كثّة وخطوات متثاقلة، وآخرون ضِخام الأجسام أوزبكيون من بخارى، يتمسكون بملابس بلادهم من قفطان سميك وحذاء طويل حتى الركبة على الرغم من جو مكة اللافح، بنات من جاوة بوجوه مكشوفة وأعين مثل اللوز، مغاربة متثاقلو الخطو يتيهون بالبرنس الأبيض، وأهل مكة بملابسهم البيضاء ورؤسهم المغطاة، فلاحون مصريون بوجوه تعلوها فرحة وإثارة، ونساء هنديات بزيهن التقليدي وكأنهن خيام متحركة، الفلولاتا السود من تمبكتو وداهومى في ملابسهم الزرقاء وغطاء رأس أحمر، سيدات صينيات دقيقات الحجم مثل فراشات ملونة وخطوات صغيرة وأقدام دقيقة مثل حوافر الغزلان… صياح وزحام من كل ناحية حتى تشعر بأنك في قلب موجة عاتية ولا تتمكن من رؤية تفاصيل صورة مكتملة، كل المشاهد طافية على عدد كبير من اللغات واللهجات، إيماءات حماسية وإثارة حتى وجدنا أنفسنا أمام باب من أبواب الحرم".
هكذا عبّر محمد أسد في كتابه: "الطريق إلى مكة" عام 1954 عن المشهد العام في مكة المكرمة الذي يعكس التنوع الكبير، والكثير من الأبعاد القابلة للتفاعل تنموياً، إذ لا يكفي وجود فرص للتنمية تمكن الاستفادة منها، بل لا بد من الاستفادة منها والاستعداد لها والتحرك تجاهها لتصبح ذات قيمة.
ومن هنا تحركت مستهدفات التحول لرؤية 2030 لإعادة التوجيه والتوجه للاستفادة من تجربة الزيارة للسعودية عموماً، ومكة والمدينة خصوصاً في رفع جودة الزيارة الثقافية. في هذا المقال سنضع سياقاً تنموياً لقراءة الأرقام الخاصة بتجربة زيارة مكة والمدينة.
قراءة ما خلف الأرقام
يهدف برنامج ضيوف الرحمن -أحد برامج رؤية 2030- إلى رفع الطاقة الاستيعابية لاستقبال الحجاج والمعتمرين من خارج السعودية إلى 15 مليون معتمر بحلول عام 2025، و30 مليون معتمر بحلول 2030، ويعمل بالتعاون مع القطاعات الحكومية على تأهيل المناطق التاريخية والثقافية وتطويرها مثل مواقع الغزوات والمساجد والآثار، لتعريف ضيوف الرحمن بتراث مكة والمدينة وحثّهم على إطالة مدة رحلتهم لاكتشاف الطابع المحلي للمملكة.
فإذا نظرنا في هذه الزيادة المتوقعة لعدد المعتمرين نجد أنها تفتح الباب أمام فرصة تنموية اقتصادية كبيرة، ففي عام 2019، قدّرت غرفة مكة للتجارة والصناعة متوسط ما ينفقه المعتمرون في 10 أيام يقضونها مناصفة بين مكة المكرمة والمدينة والمنورة بين 700 و1,000 دولار، فإذا كان متوسط إنفاق المعتمر 10 آلاف ريال خلال إقامته بالسعودية، ومع توقعات أن يصل عدد المعتمرين إلى 30 مليون معتمر، فقد يصل حجم إنفاق المعتمرين إلى 300 مليار ريال بحلول عام 2030، ووفقاً للغرفة التجارية في المدينة المنورة، إذا كان متوسط بقاء المعتمر في المدينة المنورة 8 أيام، فمن المرجح أن تستأثر المدينة بنحو 160 مليار ريال من إجمالي إنفاق المعتمرين الكلي المتوقع في عام 2030.
وبما أن إثراء التجربة الدينية والثقافية للمعتمرين من أهم المحاور التي تعمل عليها الرؤية، فإن هناك جهوداً مستمرة لاكتشاف المواقع الأثرية والتاريخية بالسعودية وإدراجها على شكل خرائط رقمية تمكن إدارتها وحمايتها بسهولة، إذ يضم السجل الوطني للآثار 8,847 موقعاً أثرياً في مختلف المناطق، وهناك جزء منها في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وهذا يصب في إطار هدف الرؤية لتأهيل 15 موقعاً تاريخياً وثقافياً بحلول 2025، وتأهيل 40 موقعاً تاريخياً وثقافياً بحلول 2030.
ولا يمكن حصر الإرث الثقافي والحضاري في المناطق البرية، فالبحر أيضاً مليء بالأسرار عن التراث الثقافي للدول، حيث يرتفع منسوب المياه ويجرف معه العديد من العناصر التي تعكس الطابع الثقافي أو التاريخي أو الأثري للوجود الإنساني، ومن هذا المنطلق، أسست هيئة التراث السعودية مركز حماية التراث الثقافي المغمور تحت البحر الأحمر والخليج العربي، الذي نجح بالتعاون مع عدد من الجامعات المحلية والدولية في رصد 25 موقعاً أثرياً تحت الماء.
تسعى هذه الخطوات وغيرها إلى خلق تجربة زيارة يمكن من خلالها الوصول بسهولة إلى مختلف الأماكن التاريخية والثقافية، وتطوير العلاقة بين الزائر وما يمكن أن يتعرض له من تجارب تعكس الطابع الروحي والتاريخي والثقافي لمكة والمدينة.
المعرفة الجيدة بالتحديات تساعد على مواجهتها
يعترض تطبيق هذه التفعيلات التنموية بعض التحديات، لكن تشخيصها جيداً سيساعد على مواجهتها بفعالية، ومن خلال القراءة الاستراتيجية لبرنامج ضيوف الرحمن يمكن تحديد التحديات في النقاط الآتية:
- صعوبات في إجراءات القدوم إلى السعودية والمتمثلة بعدم توافر رحلات طيران كافية.
- عدم معرفة الزائر بالخيارات المتاحة فيما يتعلق بالنقل والضيافة والخدمات.
- تأهيل المواقع التاريخية يستغرق مدة زمنية طويلة.
- الإسهام المحدود للقطاع الخاص بإثراء تجربة الزائر.
إذا نظرنا إلى هذه التحديات بالمقارنة مع حجم الفرص التنموية التي تقدمها تجربة ضيوف الرحمن، نجد أنها تحديات يمكن التعامل معها بسهولة في حال وضع استراتيجيات فعالة لمواجهتها. وبالنظر إلى عدد من التجارب العالمية في الإحياء التراثي والثقافي، كتجربة المدينة المفقودة "ماتشو بيتشو" في البيرو مثلاً، أو تاج محل في الهند، أو مدينة دوبروفنيك في كرواتيا، أو مدينة البندقية، نلاحظ أن فرص الإحياء التراثي والتفعيل الثقافي في مكة المكرمة والمدينة المنورة تفوق هذه المدن، ويعود ذلك إلى عدد من العوامل، هي:
- دورية الزيارة المستمرة وغير المرتبطة بجودة التسويق للمكان، فالحج والعمرة في خريطة زمن كل مسلم، إما مرة في العمر، أو دورياً.
- وجود استراتيجية ومستهدف محدد للتحول نحو رؤية يجري العمل وفقها.
- الطموح والرغبة لدى الحكومة.
- إن مكة المكرمة والمدينة المنورة من المناطق الحيوية والغنية بالجانب الخيري المتقاطع مع مَن يقصدهما زائراً، بالتالي فإن هذا المخزن الخيري من الأوقاف وغيرها سوف ينمو تلقائياً مع النمو المراد لهما.
مكة الذكية
إن الدخول في عصر الذكاء الاصطناعي وتسارع التطور التقني المرتبط به يجعل تقديرنا للزمن مختلفاً تماماً عن تقديراتنا للتطور الطبيعي للأشياء في الفترات السابقة. ما يخلق فرصة ليكون هذا التطور جزءاً من البعد التنموي للمدينتين المقدستين، والبحث في كيفية استخدام الذكاء الصناعي لرفع كفاءة هاتين المدينتين اللتين من المقرر تحويل عدد من خدماتهما ضمن برنامج ضيوف الرحمن إلى تجربة فريدة تكون فيها فائدة متبادلة بين المستفيد من الخدمة ومقدمها.
وجعلت الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي "سدايا" من هذا النمو فرصة لتحرك تقني يواكب حجم ما تستهدف الرؤية السعودية الوصول إليه، حيث أنشأت مركز عمليات مكة الذكية (Smart Moc) لمتابعة سير عمل المنصات الرقمية الذكية في الحج، ووظفت البيانات والذكاء الاصطناعي لبناء منظومة رقمية ذكية اشتملت على بنى تحتية ومنصات ذكية مثل سواهر وبصير اللتين تهدفان إلى دعم الجهات الأمنية المختصة بتحليلات متقدمة تسهم في تأمين حشود الحجاج وإدارتها بسهولة.
أدت الفرص المتزايدة لجمع المعلومات الرقمية والاستفادة منها إلى تغيير طريقة صناعة القرارات لتصبح أكثر استناداً إلى البيانات، وبالتالي تغيّر معها نهج الإدارة ليحمل معه الأكثر صواباً وحكمة، ولكن حتى تكون البيانات دقيقة وقيّمة، فلا بد من اعتماد آليات ومنهجيات تتطلب في جمعها ورصدها توظيف التقنيات المتقدمة، ومن ثم التأكد من الجاهزية لعمليات التحليل، وبعدها التوصية بها لمقدمي الخدمات وتسليمها في الوقت المحدد لمواكبة التقدم المتسارع في الطموح والأهداف.
لا يمثل الحج مشهداً اتصالياً فريداً فحسب، بل يعكس تجربة تاريخية وثقافية تجب الاستفادة منها وتوظيفها لتحقيق الأهداف التنموية التي تسعى إليها رؤية 2030.