هناك شخصان في القرن التاسع عشر توفيا في مستشفى للأمراض العقلية بسبب مبدأ رفض ما هو جديد وبسبب أفكارهما التي استنكرها العالم من حولهما، لدرجة دخلا بسببها مستشفى للأمراض العقلية ولقيا حتفهما إما انتحاراً أو هماً وغماً؛ الأول كان "تشارلز فيتزروي"، وهو أول من ابتكر أسس التنبؤ بالطقس وطبق أسس الأرصاد الجوية التي نعلمها اليوم. وقد بدأت مبادرة فيتزروي عندما غرقت سفينة كان على متنها بعض زملائه البحارة بسبب الطقس السيئ في بريطانيا، وعمل على وضع المعادلات الأولى لربط العالم بشبكة تنبؤ للأرصاد الجوية، لكن علماء عصره سخروا منه، وانتهى به الأمر في المصحة العقلية ثم الانتحار، على الرغم من أن العالم اعترف بعمله بعد 50 سنة. وقد أنقذ من ذلك الحين الملايين من تأثيرات الكوارث الطبيعية. والثاني هو الطبيب المجري "إجناتس سيملفيس" الملقب بـ "منقذ الأمهات"، الذي اكتشف عام 1847 خلال عمله في مصلحة التوليد بمستشفى فيينا بالنمسا، أن معدل وفيات الأمهات المصابات بحمى النفاس تراجع عشرة أضعاف عندما غسل الأطباء أيديهم بمحلول الكلور بعد كل تعامل مع مريضة، ونشر كتاباً حول حمى النفاس وكيفية الوقاية منها، لكن توصياته بغسل اليدين حظيت بمعارضة شرسة من معاصريه، ولم يتم العمل بها إلا بعد وفاته بعدة سنوات. وتوفي هو الآخر في المصحة العقلية متأثراً بالإهمال والسخرية التي واجهها رغم أنه أنقذ ملايين وربما مليارات البشر عبر تأكيده العلمي لأهمية تعقيم اليدين منعاً من نقل الجراثيم والفيروسات، وما نزال نذكر هذا الفضل بعد أن أنقذنا من الموت ربما وساعد على حمايتنا من فيروس كورونا.
تأثير سيملفيس
واليوم، يطلق العلماء مفهوماً يدرّسونه في علم النفس يسمى تأثير سيميلفيس (Semmelweis Effect)، وهو انحياز سلوكي يعبّر عن الميل إلى رفض ما هو جديد أو رفض المعلومات أو المعرفة الجديدة تلقائياً لمجرد أنها تتعارض مع التفكير السائد أو المعتقدات والأعراف الحالية. غالباً ما يُلاحظ هذا المنعكس بين الأكاديميين في مجال العلوم عند طرح نظرية جديدة لا يرغب معظمهم في قبولها على الفور.
ولسنا بحاجة إلى تقديم المزيد من الأدلة لإثبات أن هذا التحيز البشري مستمر معنا على الرغم من أننا نظن أن العلم صار صاحب القول الفصل في حياتنا اليوم. إذ يحذر العلماء والباحثون من التسرع في رفض الأفكار الجديدة، فقد نكتشف بعد فترة قصيرة أننا مخطئون. شارك فيليب تيتلوك، وهو أستاذ في جامعة "بنسلفانيا"، في تأليف كتاب بعنوان "التنبؤ الفائق" (Superforecasting)، وطرح بعضاً من أفكاره في مقال نشره في "هارفارد بزنس ريفيو" بعنوان "التنبؤ الفائق: كيف تحسّن قدرة شركتك على التنبؤ"، حيث ذكر مبادرته التي حملت عنوان "مشروع البصيرة النافذة" (The Good Judgment Project). وقد أسفرت أبحاثه التي وضعت آلاف الهواة في مواجهة محللين محنّكين في مجال الاستخبارات، عن ثلاث نتائج مفاجئة:
أولاً، إن أصحاب الخبرة العامة الموهوبين يتفوقون في التكهن غالباً على المتخصصين.
ثانياً، يمكن للبرامج التدريبية المصاغة بدقة وعناية أن تسهم في تعزيز القدرة على التوقع.
ثالثاً، يمكن للفرق ذات الإدارة الجيدة أن تتفوق في الأداء على الأفراد.
لماذا الخبرة والمنصب ليسا مهمين؟
ويذكر تيتلوك في اختبار خصصه لاكتشاف قدرة الشخص على التنبؤ الصحيح وطرح الأفكار الجديدة، أن الخبرة والمنصب ليسا مهمين، بل الذهن المنفتح الذي يفترض أن كل ما نعرفه هو فرضيات قابلة للمناقشة والتطوير، فهو يذكر، على سبيل المثال، بعض الأخطاء الكبرى من شخصيات مهمة، فقد تنبأ الرئيس التنفيذي السابق لشركة "مايكروسوفت" ستيف بالمر عام 2007 بأنه "ليس هناك أي فرصة لحصول هاتف آيفون على حصّة سوقية كبيرة"، الأمر الذي لم يترك لـ "مايكروسوفت" أي مجال لدراسة السيناريوهات البديلة. لقد كان هذا خطأ كبيراً في دراسة الواقع والاحتمالات وهو مثال للوقوع في انحياز تأثير سيملفيس الذي تحدثنا عنه. ويمكننا أن نسترجع أمثلة حديثة عندما ظهرت فكرة "أوبر" و"إير بي إن بي" وغيرها، فقد لقيت حرباً حقيقية من السلطات والشركات باعتبارها أفكاراً خرقاء ومدمرة، وأذكر أن شرطياً أنزلني قرب أحد المطارات الأوروبية من سيارة "أوبر" قبل سنوات قليلة؛ لأن "أوبر" شركة غير قانونية وبدعة في قطاع الأعمال، ثم رأينا كيف غيّر الجميع رأيهم بهذا الخصوص. وتذكرون قبل عامين فقط؛ أي في عام 2019، عندما أعلنت "فيسبوك" أنها ستطلق عملة رقمية اسمها "ليبرا" وحشدت لذلك تحالفاً ضخماً من شركات البطاقات الائتمانية والبنوك، لكنها واجهت حرباً من السلطات الرسمية وأولها الأميركية فانسحب الشركاء خوفاً من التهديد، واليوم بعد أن فرضت الحقيقة الواقعة نفسها بعد التحول الرقمي الكبير في كورونا، ها هو الخبر الجديد "فيسبوك "تفكر مجدداً" في إصدار عملة رقمية خاصة بها".
ونختتم بالتغريدة التي نشرها قبل أيام جيف بيزوس، مؤسس "أمازون"؛ فقد نشر صورة لغلاف مجلة "بارون" يعود تاريخها إلى عام 1999. وعلى الغلاف كانت المجلة قد نشرت وجه جيف بيزوس داخل قنبلة، وكان العنوان "قنبلة أمازون"، وظهرت على الغلاف أيضاً عبارات تصف فكرة "أمازون" بأنها سخيفة وأن "أمازون" لن ينجح لأنه ليس سوى مجرد وسيط. وكانت تغريدة بيزوس التي جاءت بعد نحو عشرين عاماً، تقول: "استمع وكن منفتحاً، لكن لا تدع أي شخص يخبرك من أنت"، بمعنى حاول أن يكون عقلك مفتوحاً دوماً لما هو قادم من تطورات وأبعد عن بالك فكرة رفض ما هو جديد دون تفكير.