يستثمر الأشخاص المزيد من الوقت والمال في التقنيات الشخصية كمكبرات الصوت الذكية والساعات الذكية والأجهزة القابلة للارتداء ونظارات الواقع الافتراضي. وقد أدت جائحة "كوفيد-19" إلى تسريع وتيرة تبنينا للتكنولوجيات الجديدة وزيادة اعتمادنا عليها في التواصل الاجتماعي والترفيه والتجارب التعليمية. ونظراً إلى أننا أصبحنا نقضي المزيد من الوقت في المنزل، يتجه الكثيرون منا إلى التكنولوجيا لتعزيز واقعنا، ويتجه الكثير لربط التكنولوجيا بأدمغتنا. الأجهزة القابلة للارتداء، كسماعات الأذن الذكية والعدسات والساعات والخواتم والأساور وحتى الأقمشة، تجمع بيانات الاستدلال البيولوجي والتفاعلات الصوتية والمعلومات البصرية المتعلقة بتجاربنا الحياتية. وبينما تصبح التقنيات القابلة للارتداء أمراً عادياً في حياتنا اليومية، هناك علاقة وطيدة بشكل أكبر تلوح في الأفق مع التكنولوجيا تزامناً مع ظهور "واجهة التخاطب بين الدماغ والكمبيوتر" (BCI).
يمكن لواجهات التخاطب بين الدماغ والكمبيوتر الاتصال بالدماغ داخلياً أو خارجياً. فهي تقرأ نشاط الدماغ وتحول النشاط إلى معلومات، ويمكنها أيضاً إرسال معلومات إلى الدماغ. تتمتع هذه الواجهات بالقدرة على زيادة الذكاء البشري ليصل إلى مستويات خارقة وهو أمر مثير بالنسبة إلى التقنيين ورواد الأعمال، ولكنه يثير هذا السؤال: هل نحن وأعمالنا ونُظمنا التكنولوجية مستعدون لهذا التغيير؟
كيف تفيدنا واجهات التخاطب بين الدماغ والكمبيوتر؟
تنقسم واجهات التخاطب بين الدماغ والكمبيوتر إلى فئتين: جراحية وغير جراحية. يتم زرع الواجهات الجراحية في الدماغ مع توصيل أقطاب كهربائية صغيرة بالعصبونات لقياس نشاطها. وهذا النوع من الواجهات، كشريحة شركة "نيورالينك" (Neuralink)، يتطلب إجراء جراحة بالمخ، حيث يثقب الأطباء الجمجمة لزرع الجهاز وتقوم روبوتات جراحية عالية الدقة بربط الأقطاب الكهربائية الدقيقة للغاية بالعصبونات. تلتقط هذه الواجهات بيانات أفضل ويمكن زرعها في مناطق مختلفة من الدماغ. وقد كانت فعالة في علاج إصابات الحبل الشوكي والتحكم في الأطراف الصناعية وعلاج الاكتئاب. لا تتطلب واجهات التخاطب بين الدماغ والكمبيوتر غير الجراحية إجراء أي عمليات جراحية ولكنها تعتمد على إشارات أكثر ضوضاء صادرة من مخطط كهربية الدماغ وأجهزة الأشعة تحت الحمراء التي تُرتدى على الرأس. ويُستخدم الذكاء الاصطناعي لعزل إشارات الدماغ التي تلتقطها أجهزة واجهات التخاطب بين الدماغ والكمبيوتر، وتجميع الإشارات وإعادتها مرة أخرى إلى الدماغ.
وقد أحرزت واجهات التخاطب بين الدماغ والكمبيوتر تقدماً مذهلاً في المجال الطبي، وموّلتها وزارة الدفاع الأميركية بشكل كبير من خلال وكالة مشاريع البحوث المتطورة الدفاعية "داربا" (DARPA). تعمل "مبادرة برين" (Brain Initiative) التي موّلتها وكالة "داربا" على مجموعة كبيرة من مشاريع واجهات التخاطب بين الدماغ والكمبيوتر التي تهدف إلى مساعدة الجسم على علاج نفسه والشفاء من العجز الحسي الناجم عن الإصابات ودعم الأفراد بالخدمة العسكرية من خلال السماح لهم بتشغيل الطائرات المسيرة بدون طيار (الدرون) والتواصل بصمت والاندماج في نُظم الدفاع. وهناك شركات مثل "كيرنل" (Kernel) و"كينيورو" (Qneuro) و"نيوروسكاي" (NeuroSky) و"إيموتيف" (EMOTIV) تتجه بسرعة نحو الأجهزة المتاحة على نطاق واسع وطرق استخدام واجهات التخاطب بين الدماغ والكمبيوتر الأقل اعتماداً على العمليات الجراحية، حيث تعمل هذه الشركات على قياس نشاط الدماغ وتقييمه لمجموعة متنوعة من الاستخدامات؛ مثل اللعب والحد من التوتر وكتابة الكلمات بالتفكير فيها. "ميوز" (Muse) هو جهاز متوفر تجارياً يستخدم مخطط كهربية الدماغ لتسجيل بيانات الدماغ وعرضها كأداة مساعدة على التأمل. حتى أن شركة "فيسبوك" كانت تطور أجهزة تعتمد على واجهات التخاطب بين الدماغ والكمبيوتر ستُزرع في الدماغ لقراءة نشاطه، ولها القدرة على فك شفرة مجموعة أولية من الكلمات.
أُثيرت مؤخراً ضجة كبيرة حول شركة "نيورالينك" الناشئة لواجهات التخاطب بين الدماغ والكمبيوتر التي أسسها إيلون ماسك، حيث عرضت الشركة جهازها الذي يُزرع في الدماغ وهو يقرأ معلومات ويكتبها على أدمغة أحد أنواع الحيوانات في أواخر شهر أغسطس/آب. ولكن العديد من أطباء الأعصاب قللوا من أهمية عرض الشركة في سياق النهوض بعلم الأعصاب. وفي حين أن تقنية الأقطاب الكهربائية التي تم عرضها كانت متطورة، إلا أنه كان هناك القليل من النقاش حول كيفية فهم الشركة لنشاط الدماغ. فقد كان أحد الأهداف الرئيسية لهذا العرض هو جذب المواهب إلى "نيورالينك" وزيادة الاهتمام بواجهات التخاطب بين الدماغ والكمبيوتر لتطوير علم الأعصاب والأجهزة. وقد وعد ماسك بأن تبدأ "نيورالينك" في إجراء التجارب على البشر بنهاية عام 2020 بهدف علاج المرضى الذين يعانون من اضطرابات عصبية شديدة.
كيف يمكن أن تتطور واجهات التخاطب بين الدماغ والكمبيوتر؟
في المستقبل القريب، إذا نجحت واجهات التخاطب بين الدماغ والكمبيوتر في قراءة المعلومات وكتابتها على الدماغ، وإذا تكيف البشر مع التكنولوجيا، حينها قد نشهد بعض السيناريوهات المدهشة. تخيل إجراء محادثات تخاطرية مع أحبائك، أو الوصول الفوري إلى قوة حاسوبية خارقة، أو إعادة عرض الذكريات والأحلام، أو الانغماس أنت وكل حواسك في تجربة ترفيهية افتراضية. تؤثر هذه السيناريوهات في الوقت الحالي على أعمال الباحثين والتقنيين وعلماء المستقبليات. سوزان شنايدر، الباحثة وعالمة المستقبليات، تتخيل في كتابها "نسختك الاصطناعية" (Artificial You) أن هناك "مركزاً لتصميم الشرائح الدماغية" يُصنِّع ما يلي:
"عقل الخلية": وهي رقاقة إلكترونية دماغية تسمح لك بتجربة الأفكار العميقة الخاصة بأحبائك. "حديقة التفكر": وهي رقاقة إلكترونية صغيرة للوصول إلى حالات تأملية كالمحترفين. "الآلة الحاسبة البشرية": وهي تمنحك قدرات حسابية كالموهوبين. ماذا ستختار، إن وُجد أي منها؟ هل ستختار ما يعزز انتباهك؟ هل ستختار الحصول على قدرات موسيقية كالتي تمتع بها الموسيقار موزارت؟ يمكنك أن تطلب إجراء تحسين واحد أو مجموعة من عدة تحسينات".
في حلقة حديثة من "ذا أرتيفيشال بودكاست" (The Artificial Podcast) وصف عالم المستقبليات والتقني برايان روميل رؤيته لـ "مُضاعِف قوة الذكاء" كالتالي:
"لنقل أن هناك ذاكرة كريستالية مجسمة يمكنها استيعاب أحجام ضخمة جداً (بيتابايتات) من البيانات، ما قد يعني تخزين فيديوهات تعادل 3 أعمار كاملة، أي فيديو مباشر لحياتك بأكملها إذا عشت 3 أضعاف حياتك. لا يمكن لأي شخص رؤيتها، ولكن يمكن تفسيرها بواسطة مضاعِف قوة الذكاء الخاص بك. ولذلك يمكنها بناء سياق يمكنك فيه أن تكون النسخة الأقوى أو الأذكى منك، منذ لحظة ولادتك".
هذه رؤى لمستقبل واجهات التخاطب بين الدماغ والكمبيوتر تدعو للتفاؤل وتشير إلى أن الأشخاص سيتحكمون في واجهات التخاطب الخاصة بهم وأي تطبيقات مثبتة عليها. ولكن هناك العديد من الأسئلة المعلقة حول كيفية ضمان أن يكون المستقبل مشرقاً: مَن الذي سيمتلك البيانات الناتجة عن أدمغتنا؟ هل سيقوم سماسرة البيانات بشراء بيانات الدماغ وبيعها كأي معلومات شخصية أخرى؟ هل سيُجبَر الأشخاص على استخدام واجهات محددة للتخاطب بين الدماغ والكمبيوتر لتراقب نشاط أدمغتهم (على سبيل المثال، للتأكد من أنك منتبه في العمل أو المدرسة)؟ هل ستعرض واجهات التخاطب بين الدماغ والكمبيوتر أدمغة البشر إلى خطر الاختراق؟ كما هو الحال مع جميع التقنيات الجديدة، سيتعين البحث في هذه المسائل الفلسفية وإيجاد إجابات لها قبل أن يكون هناك اعتماد واستخدام واسع النطاق لواجهات التخاطب بين الدماغ والكمبيوتر في المستقبل.
كيف يمكننا الاستعداد لمستقبل واجهات التخاطب بين الدماغ والكمبيوتر؟
من المستحيل التنبؤ بما سيحدث في المستقبل. وكما هو الحال اليوم مع التقنيات الحديثة، بالتأكيد سنستمر في مواجهة مسائل فلسفية مع تطور البشرية وواجهات التخاطب بين الدماغ والكمبيوتر. وهؤلاء الذين يعملون حالياً في هذا المجال يجرون بالفعل نقاشات حول تأثير واجهات التخاطب بين الدماغ والكمبيوتر وكيف يمكنها مساعدة البشر وإعاقتهم. وكلما أصبحت التكنولوجيا أكثر قرباً، تضاعفت القضايا المعلقة مثل الخصوصية والأمن والنُظم البيئية المغلقة.
الحد من تحيز الذكاء الاصطناعي
تتيح الأجهزة القابلة للارتداء وواجهات التخاطب بين الدماغ والكمبيوتر للمستخدمين الوصول إلى ثروة من المعلومات، ولكنها تجمع في الوقت نفسه كميات وفيرة من البيانات الإحصائية البيولوجية والبيانات الشخصية حول هؤلاء المستخدمين. وتقنيات الذكاء الاصطناعي التي تستخدمها هذه الأجهزة لزيادة مستوى الذكاء البشري هي نفسها التي تسخرها الشركات لفهم جميع البيانات التي تم جمعها. وسيصبح تحيز الذكاء الاصطناعي مشكلة أكبر مع استخدام الشركات لهذه التقنية في أتمتة المزيد من عمليات صناعة القرار.
ينبغي للشركات التي تضع استراتيجيات الذكاء الاصطناعي البحث عن مواهب من الفئات المهمشة لتطوير عمليات إدارة البيانات ومحاولة القضاء على تحيز الذكاء الاصطناعي. وبالنسبة إلى الشركات التي لا تضع في الوقت الحالي استراتيجية للذكاء الاصطناعي، من المهم البدء في التفكير في الكيفية التي يؤثر بها الذكاء الاصطناعي على قطاعاتها. معظم تقنيات الذكاء الاصطناعي اليوم غير مرئية إلى حد كبير ويتفاجأ الكثير من الأشخاص عندما يعرفون إلى أي مدى يُستخدم الذكاء الاصطناعي في أشياء مثل اختيار مقترضي الرهون العقارية وتنظيم حركة المرور وتداول الأسهم. تخيل مستقبلاً يمكننا فيه أن نعي ونتحكم في القرارات التي يتخذها لنا الذكاء الاصطناعي وبذلك يمكننا أن نفهم سبب اتخاذ هذه القرارات.
تعزيز الأمن الرقمي والخصوصية
طالما أن أجهزتنا التقنية الشخصية تتطلب اتصالاً بالإنترنت، سنواجه مقايضات أمنية كبيرة لأن أي جهاز متصل بالإنترنت به نقطة ضعف يمكن للمخترقين استغلالها. لذلك تحتاج الشركات إلى إعادة التفكير بشكل جذري في نهجها الذي تتبعه تجاه الأمن الرقمي؛ حيث إن اختراق إحدى واجهات التخاطب بين الدماغ والكمبيوتر يمكن أن يكلف شخصاً ما حياته. يرغب المستخدمون في مزيد من الشفافية والتحكم ولذلك يمكن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي الشخصية لمساعدة المستخدمين على رصد أمنهم وإدارته.
الشركات الكبيرة التي تنشئ منصات وأجهزة الذكاء الاصطناعي وتشغلها تجمع بياناتنا الشخصية وتحللها وتبيعها بالفعل. فهل ستستمر هذه الشركات في الوصول دون قيود إلى بياناتنا؟ وكيف سيجري استغلالنا بشكل أكبر إذا أصبحت واجهات التخاطب بين الدماغ والكمبيوتر واقعاً وأصبحت البيانات الملتقطَة أكثر خصوصية وعمقاً على نحو متزايد؟ جدير بالذكر أن مجتمعنا يزداد وعياً ويقظة إزاء التعدي على الخصوصية.
ينبغي للشركات وضع تدابير أمنية ورقمية صارمة وتقييم ممارساتها المتعلقة بالخصوصية مع وضع المستقبل في الاعتبار. كما ينبغي لنا جميعاً التشجيع على وضع قوانين أكثر صرامة للخصوصية، لاسيما وأن الشركات التقنية الكبرى تقوم بالفعل بالمتاجرة في بياناتنا الشخصية في مجال الإعلانات لتحقيق الأرباح. يقع على عاتقنا تخيُّل مستقبل يكون فيه الاستخدام واسع النطاق لواجهات التخاطب بين الدماغ والكمبيوتر حقيقة واقعة وإرساء الممارسات في الحال التي تضمن أمن وخصوصية عقولنا.
الاهتمام بالعلوم الإنسانية
هناك فجوة متزايدة في الثروة التكنولوجية بين مَن يملكون التقنيات ومَن لا يملكونها. ونظراً إلى أن الأجهزة القابلة للارتداء وواجهات التخاطب بين الدماغ والكمبيوتر أصبحت أكثر شيوعاً بين قوة العمل وفي المدارس وفي حياتنا اليومية، فإنها يمكن أن تؤدي إلى اتساع هذه الفجوة لأن هناك مجموعات سكانية كبيرة ستصبح فقيرة من الناحية التكنولوجية. وكما قال سيباستيان ثرون الأستاذ في جامعة ستانفورد: "لا أحد يعبر عن الأمر بهذه الطريقة ولكني أعتقد أن الذكاء الاصطناعي يكاد يكون تخصصاً من تخصصات العلوم الإنسانية. فهو حقاً محاولة لفهم الذكاء والإدراك البشري".
نحن بحاجة إلى النظر بصورة أعمق إلى مستقبل الحوسبة الشخصية لتخيُّل الكيفية التي سيندمج بها البشر والآلات وتأثير ذلك على المجتمع، حيث ينبغي للشركات التركيز بقدر أكبر على ما يُسمى بـ "المهارات الشخصية" لعلم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا لفهم تأثير التكنولوجيا على المستخدمين. ويتعين على التقنيين الانتقال من عقلية "التحرك بسرعة وكسر الأشياء" إلى نهج أكثر عمقاً بالبحث في الكيفية التي تؤثر بها التقنيات المستحدثة على المستخدمين والمجتمع. ومن واجبنا بناء مستقبل تكون فيه الإنسانية من الأولويات وليست من الأمور الثانوية.
نحن على شفا تغييرات مجتمعية كبيرة تدفعها قضايا مثل جائحة "كوفيد-19" والتغيرات المناخية والاقتصاد العالمي المرهَق. ينظر العديد من الأشخاص إلى تقنيات مثل الأجهزة القابلة للارتداء وواجهات التخاطب بين الدماغ والكمبيوتر على أنها بارقة أمل في خضم هذه الظروف العصيبة. فمن الرائع أن نتخيل مستقبلاً حُلَّت فيه الكثير من المشكلات المجتمعية الحالية باستخدام التطورات التكنولوجية وربطها بأدمغتنا، والاستعداد له هو أمر يقع على عاتقنا. لذلك دعونا نخوض غمار المستقبل والتقنيات الجديدة متحلين بالأمل والتفكير العميق.