تنطوي ريادة الأعمال في معظم الحالات تقريباً على محاولة لتغيير الوضع الراهن بهدف اغتنام الفرص وخلق القيمة المضافة. لذلك لا يجب أن يُفاجَأ أحد عندما يظهر نموذج تجاري جديد، مثل نظام تقاسم ركوب سيارات الأجرة «التاكسي» أو ما يُعرف باسم (ridesharing)، حيث يتسبب بزعزعة النظم القائمة ويخلق حالة من الاحتكاك بين روّاد الأعمال ومسؤولي الحكومات المحلية، أليس كذلك؟ فماذا عن رائد الأعمال الحكومي؟
رائد الأعمال الحكومي
ولكن لنتخيّل لو أنّ الطريقة التي تمت بها جلسات الاستماع بخصوص نظام تقاسم ركوب سيارات الأجرة "التاكسي" في مجلس مدينة سياتل كانت مختلفة، فقد صدرت تشريعات تحدّ من عمليات شركات "أوبر إكس" (UberX)، و"ليفت" (Lyft)، و"سايد كار" (Sidecar). ولنتخيّل بأنّ المسؤولين الحكوميين كانوا قد وضعوا تصوّراً لمنصّة إلكترونية توفّر هذا النوع من النقل المشترك، ونفّذوا هذا التصوّر على أرض الواقع. أو على الأقل، عوضاً عن القيام بثورة في نظام النقل الحالي بطريقة "ضد" المسؤولين الحكوميين في سياتل، لو أنّ هذه الثورة كانت قد قامت "مع" هؤلاء المسؤولين. ووسط هذا الشعور اللاذع والقاسي، يبدو من الصعب تخيّل قدرة هؤلاء المسؤولين الحكوميين على وضع تصوّر لهذه المنصّة الإلكترونية وتنفيذها، أو تخيّل قدرة أصحاب الابتكارات على العمل معهم بطريقة قائمة على التعاون – وإن كان ذلك غير مستحيل. فما الذي سيحتاجه تحقيق هذا الأمر؟ الإجابة هي: المزيد من "روّاد الأعمال الحكوميين" (public entrepreneurs).
اقرأ أيضاً: كيف تدير مؤسسة حكومية كرائد أعمال؟
قد تبدو فكرة "ريادة الأعمال الحكومية" (Public Entrepreneurship) بالنسبة لك كما لو أنها عبارة تنتمي إلى قائمة عبارات تتضمّن كلمات متناقضة مثل "الذكاء الحكومي". لكنّها ليست كذلك. فروّاد الأعمال الحكوميون في أنحاء العالم يُسهمون في تحسين حياتنا، وفي ابتكار طرق جديدة تماماً لخدمة عامّة الناس. فهم يستخدمون المجسّات لاكتشاف الحفر في الطرق، ويستخدمون جهازاً لعدّ الكلمات لمساعدة الطلاب في التعلم؛ ويسخّرون علم الاقتصاد السلوكي لتشجيع الناس على التبرّع بالأعضاء؛ ويستعينون بالجمهور (أو ما يُعرف باسم (crowdsourcing) لإجراء مراجعة لبراءات الاختراع؛ ويحاولون إدخال تحوّل جذري على مدينة مادلين في كولومبيا على سبيل المثال من خلال مركبات التليفريك (المعلقة في الهواء). وهم يشاركون في أعمال البرمجة والقرصنة الحاسوبية ذات الأهداف المجتمعية الخيّرة، وينافسون في تحدّي بلومبيرغ (Bloomberg Challenge). وهم دخلوا في شراكة مع مكتب الميكانيكا العمرانية الجديدة (Office of New Urban Mechanics)، في بوسطن أو فيلادلفيا، ويشاركون في تطوير المنتجات في برنامج إقامة خاص بريادة الأعمال في سان فرانسيسكو، أو استثمار جزء من مبالغ تفوق قيمتها 430 مليون دولار في التكنولوجيا الهادفة إلى زيادة تفاعل المجتمع المدني مع القضايا التي تمسّه، كما لاحظنا تطور ذلك في آخر عامين.
بيد أنّ هناك مشكلة كبيرة تتعلّق بروّاد الأعمال الحكوميين ألا وهي عدم وجود عدد كافٍ منهم. فدون وجود المزيد من ريادة الأعمال الحكومية، سيكون من الصعب أن نتخيّل كيف ستتم مواجهة التحدّيات العامّة أو كيف ستتم الاستفادة من ابتكارات القطاع الخاص. ثمّة من يجادل قائلاً بأنّ الإخفاق في إطلاق موقع إنترنت حكومي للرعاية الصحية في أميركا، أو التجسّس على الإنترنت هي أدّلة على وجود نشاط ريادي زائد من جانب المسؤولين الحكوميين، لكن برأيي أنّ هذه الأشياء تظهر ضعفاً في المهارات الريادية والقدرة على إطلاق الأحكام على ريادة الأعمال.
اقرأ أيضاً: كيف تنجو الشركات الناشئة في عصر عمالقة التكنولوجيا؟
وبالتالي فإنّ الحل المناسب لتكوين أعداد أكبر من روّاد الأعمال حل واضح وبسيط، ألا وهو تدريبهم. ولكن نحن، وإلى حدّ كبير، لا ندربهم. دعونا هنا نراجع تعريف هوارد ستيفنسون (Howard Stevenson) لريادة الأعمال التي يرى فيها "السعي إلى اغتنام الفرصة دون النظر إلى الموارد الموجودة المتوفرة حالياً". بوسعنا تدريس هذه المقاربة للناس الذين يتّجهون للعمل في القطاع العام. ولكن دعونا الآن ننظر إلى قائمة التعابير التالية: "الاعتراف بوجود عدّة فئات من الناخبين"، و"التقليل من المخاطر"، و"التخطيط الرسمي"، و"التنسيق"، و"مقاييس الكفاءة"، و"المسؤوليات المعرّفة بوضوح"، و"الثقافة المؤسسية". تبدو هذه القائمة شبيهة بقائمة المفاهيم التي نرغب من أي مسؤول حكومي جديد أن يعرفها؛ وكأنّها قد أُخِذَت من استمارة تقويم لمقابلة عمل أو من منهاج للدراسات الجامعية العليا. وفي الحقيقة فإن الضغوط الواردة في قائمة ستيفنسون للضغوط هي ما يشدّ المدراء بعيداً عن ريادة الأعمال ويدنيهم من الشؤون الإدارية. وبطبيعة الحال، هذا الأمر ليس سيئاً بالمطلق. فنحن يجب أن يكون لدينا عدد أكبر من المسؤولين الإداريين الحكوميين العظام. ولكن مع كلّ التحدّيات التي نواجهها ووسط كل الديناميكية التي تحيط بنا، سوف نكون بحاجة إلى أكثر من مجرّد محللين وراسمي استراتيجيات في القطاع العام، فنحن بحاجة إلى مبتكرين وبُناة أيضاً.
ليست ريادة الأعمال الحكومية ببساطة مجرّد وجود حالة من الابتكار في القطاع العام (رغم أنها تستفيد من الابتكار)، كما أنّها ليست مجرّد إصلاح للسياسات (رغم أنّها يمكن تساعد في دفع الإصلاحات قدماً). فروّاد الأعمال يبنون شيئاً من لا شيء، بمصادر لا يملكونها، سواء أكانت مصادر رأسمالية، أو مواهب بشرية، أو قواعد جديدة. في بوسطن، عملت مع عدد كبير من المدراء الحكوميين المذهلين ومع حفنة من روّاد الأعمال الحكوميين الرائعين. فكريس أوزغود (Chris Osgood) ونايغل جاكوب صنعا أول تطبيق هاتف محمول للخدمات البلدية والخدمات غير الإسعافية أو الطارئة في مدينة رئيسية في البلاد، وهما رائدا أعمال حكوميان. كما صنعا تطبيقاً باسم (CitizensConnect) في 2009، من خلال الجمع بين مستخدمي هواتف الآيفون وإحدى شركات البرمجة المحلية والمورد غير المستغل بما يكفي في القطاع العام ألا وهو عامّة الناس. حيث أدخلا تحوّلاً في طريقة الإبلاغ عن القضايا الأساسية في الأحياء المحلية وفي كيفية التجاوب معها (20% من جميع القضايا التي تخص الناخبين في بوسطن باتت تبلّغ عن طريق الهواتف الذكية الآن)، وقد بات نموذجهم متاحاً الآن أمام 40 بلدة في ماساتشوستس وفي عدد من المدن في أنحاء أميركا. كما أنّ فريق عمدة مدينة بوسطن الذي أطلق مؤسسة لجمع التبرّعات باسم "وان فاند" (One Fund) في الأيام التي تلت التفجيرات التي طالت ماراثون بوسطن، كان مؤلفاً من روّاد أعمال حكوميين. وقد بنينا المؤسسة بالتعاون بين شركتي (PayPal) و(Post Office Box) حيث انطلقت لجمع 61 مليون دولار من المانحين للضحايا والناجين في أقل من 75 يوماً. وهي لا تزال قائمة بعملها حتى اليوم.
اقرأ أيضاً: عندما يتحول الشغف في ريادة الأعمال إلى نتيجة معاكسة
أهمية ريادة الأعمال الحكومية
ريادة الأعمال الحكومية هي ريادة أعمال أيضاً، وهي تعني سعي المسؤولين الحكوميين والمتعاونين معهم لاغتنام الفرصة دون النظر إلى الموارد الواقعة تحت سيطرتهم. فطلاب السنة الأولى في كلية هارفارد للأعمال يدرسون بأن رواد الأعمال يواجهون مخاطر كبيرة أثناء سعيهم لاغتنام فرصة جديدة وما يرافقها من ورطة معقدة لا حلّ لها: ألا وهي أن من الصعوبة تقليل المخاطر دون موارد ومن الصعوبة أيضاً اجتذاب الموارد عندما تكون المخاطر عالية. ويواجه روّاد الأعمال الحكوميون المعضلة ذاتها. وتدرّس المادة الجامعية الطلاب أربعة تكتيكات للتكيّف مع التحدّي: التجريب الرشيق (lean experimentation)، وتوسيع نطاق الأعمال، والدخول في شراكات، ورواية الحكايات. بوسعنا تكوين روّاد أعمال حكوميين من خلال تدريس هذه المهارات، بوتيرة أكبر وبصورة مشتركة، إلى القادة الحكوميين المستقبليين وشركائهم. ويمكننا أن ندرّسهم تدريساً "جيداً" إذا اعترفنا بأن ريادة الأعمال الحكومية هي شكل من أشكال ريادة الأعمال أيضاً، وبأنها تحدث في سياق مختلف وتتطلّب تطبيق هذه التكتيكات، وإن بطريقة معدّلة قليلاً.
- إنّ "التجريب الرشيق" والاختبارات التي تعتمد على طرح شكل غير نهائي للمنتج وقبل اكتماله، يمكن أن يبدو فكرة مرعبة في القطاع العام، لكن هناك فرصة مميزة موجودة أيضاً؛ فالصحافة العامة وتفاعل المجتمع المحلي يمكن في بعض الأحيان أن يكونا بمثابة نوع من الاختبار الأولي على نجاح الفكرة المطروحة، وحتى النسخ التجريبية المطروحة بين صفوف عامّة الناس يمكن أن تكون ناجحة إذا ما أحسنت إدارتها.
- إن "توسيع نطاق الأعمال" بسرعة زائدة، ولاسيما من خلال إضافة أعداد زائدة من الموظفين وإدخال قدر كبير من التراتبية الوظيفية، يمكن أن يشكّل نوعاً من الضغط الخاص على المسؤولين الحكوميين المعتادين على العمل في مؤسسات كبيرة؛ كما أنّ "توسيع نطاق الأعمال" بسرعة أبطأ من اللزوم قد يؤدّي إلى ضعف النموعند حصول تغيّر في القيادة السياسية.
- إن "الشراكة" هي النمط المعتاد والمستخدم في القطاع العام اليوم، لكن لا يجب أن تغرب عن بال المسؤولين ديناميكية السلطة، وعليهم أن يحافظوا على الجانب المتعلق بخدمة الناس في عمل رائد الأعمال الحكومي؛ فالأسئلة المتعلّقة بالأرباح وحقوق الملكية الفكرية هي أسئلة معقدة وشديد الديناميكية خصوصاً. وأين هو الخط الفاصل بين "الشراكة" مع عامة الناس وتعهيد العمل المطلوب إليهم والذي يتوقعون من الحكومة على الأرجح أن تقوم به؟ هنا يحتاج رائد الأعمال الحكومي إلى أن يفهم كيف يمكن للأدوات التي يستعملها – الحوافز والمكافآت إلخ – أن تغيّر المشاعر وفي نهاية المطاف قيمة شراكته مع عامة الناس.
- إن "رواية الحكايات" هي أداة أساسية من أدوات القيادة، لا بل أنّها تنطبق أكثر حتى على المسؤولين الحكوميين، الذين يُعتبرُ اهتمام الصحافة وعامة الناس بهم اهتماماً حادّاً وخاصّاً. فكيف يمكن لرائد الأعمال الحكومي أن يستفيد من هذه الضغوط بفعالية ليعلن عن الأشياء التي يريدها بطرق توفّر حوافز للعمل برشاقة (تماماً كما يسير منحنى التدفقات النقدية في حالة روّاد الأعمال في القطاع الخاص) دون استبعاد المحاور الأساسية والتغيّرات؟ فإذا ما بدأنا بأساسيات ريادة الأعمال، ومن ثمّ أخذنا بالاعتبار سياق القطاع العام والآليات الديناميكية الخاصّة به، ودرسنا بشكل وثيق قرارات روّاد الأعمال الحكوميين وإجراءاتهم، بوسعنا أن نعرف ما هي الأشياء التي تجعل القطاع العام عظيماً، وبوسعنا أن نكسب المزيد من ريادة الأعمال الحكومية وروّاد الأعمال الحكوميين.
من الجدير بالذكر بأنّ ريادة الأعمال الحكومية، وهو مفهوم أخذ يحظى بشيء من الشعبية الأكبر في الآونة الأخيرة، ليس مفهوماً جديداً فعلياً. فقد لاحظت إلينور أوستروم (Elinor Ostrom) (وقبل 44 عاماً من حصولها على جائزة نوبل) روّاد الأعمال الحكوميين الذين كانوا يبتكرون نماذج جديدة في ستينيات القرن الماضي. ولاحقاً، خلال الفترة التي كان رونالد ريغان فيها رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، كتب بيتر دراكر (Peter Drucker) بأنّ ريادة الأعمال هي ما سيحافظ على "المرونة والتجديد الذاتي" في الخدمة العامة. وقد مرّ عقدان من الزمن تقريباً منذ أن تضمّن كتاب ديفيد أوزبورن (David Osborne) وتيد غيبلر (Ted Gaebler) وعنوانه "إعادة ابتكار الحكومة" (Reinventing Government) والذي كان وقتها بمثابة دليل عمل للمسؤولين الحكوميين، عنواناً فرعياً واعداً هو: "كيف تسهم الروح الريادية في إدخال التحوّل على القطاع العام" (How the Entrepreneurial Spirit is Transforming the Public Sector). وصحيح أنّ ريادة الأعمال الحكومية ليست واسعة الانتشار بالقدر الذي نراه في حالة ريادة الأعمال في القطاع الخاص، أو هي ليست ربما بشهرة نظيرتها "ريادة الأعمال الاجتماعية" (والتي تركّز على المنظمات غير الربحية والنظام الشامل المحيط بها)، غير أنّها كانت موجودة منذ فترة طويلة هي ومن يمارسونها.
اقرأ أيضاً: كيف تتطور صناعة القرار مع تطور الشركة الناشئة؟
ولكن مازلنا حتى اليوم ندرّب القادة الحكوميين المستقبليين في معظم الأحيان كي يكونوا مسؤولين إداريين في القطاع العام. نحاول أن ندرّسهم في مجال إدارة الأداء وندعهم يميلون دائماً إلى الهروب من المخاطر عوضاً عن التعامل معها. وغالباً ما نقول لروّاد الأعمال في القطاع الخاص، صراحة أو ضمناً، بأنّ المسؤولين الحكوميين فاشلون وبأنّهم ديناصورات عفا عليها الزمن. من السهل أن نرى كيف أوصلنا ذلك الطريق إلى ما حصل في قصص مشابهة، لكن من الصعب أن نرى كيف يُمَكِّنُ هذا الطريقُ المسؤولين الحكوميين من مواجهة التحدّيات التي لا تزال ماثلة أمامنا، أو كيف يُمَكِّنُ عامّة الناس من تقديم يد العون إلى هؤلاء المسؤولين، وإلى رائد الأعمال الحكومي تحديداً.
اقرأ أيضاً: رقمنة البنوك وآثارها السلبية على رائدات الأعمال