ازداد إقدام كبرى المصارف الأميركية على المجازفات في الفترة التي سبقت الأزمة المالية عام 2008 التي كان لها تبعات مأساوية على الشركات والأسواق والأسر الأميركية. وجاء كم كبير من المخاطر بالطبع في شكل أدوات مالية غامضة ومعقدة مثل المشتقات المالية، و"أسلحة الدمار الشامل المالية". والتي لعبت دوراً مركزياً في الأزمة والرعب الذي عقب ذلك. لكن لماذا خاضت المصارف عميقاً في هذه المشتقات، وبخاصة بعد أن حاولت واشنطن كبح المخاطر عبر قوانين وتنظيمات جديدة في أوائل الألفية الثانية؟
في دراسة حديثة نُشرت في المجلة الأميركية لعلم الاجتماع (the American Sociological Review)، قادنا تتبع أثر الإقبال المتزايد من المصارف على المخاطر إلى متهم مفاجئ: وهو "بزوغ نجم رئيس شؤون المخاطر". إذ تبيّن أنّ ردّ الكثير من المصارف على المتطلبات التنظيمية ومتطلبات رفع التقارير كانت بتعيين رئيس لشؤون المخاطر لتكون وسيلة تُظهر للجهات التنظيمية وللمستثمرين أنهم يأخذون إدارةالمخاطر على محمل الجد. وحلقت عالياً شعبية هذا المنصب بعد أن أصبح رؤساء شؤون المخاطر (وبرامج إدارة المخاطر في المشاريع التي يشرفون عليها) المعيار الذهبي للامتثال. وبالنتيجة بعد أن كان لدى 1% على الأقل من المصارف رئيس لشؤون المخاطر في عام الـ2000، أصبح ربع الشركات لديها هذا المنصب مع حلول العام 2006.
ونرى أنّ رؤساء شؤون المخاطر لم يقللوا من الإقدام على المخاطر فقط، بل أصبحوا في الواقع جزءاً من المشكلة. وتوصلنا إلى هذه النتيجة بعد تحليل تأثير رئيس شؤون المخاطر على ناحية مهمة بشكل خاص في إقبال المصرف على المخاطر: كالانكشاف على المشتقات المالية ذات العائد المرتفع والمخاطرة المرتفعة. وبعد تفحص نشاط المشتقات المالية في 157 من أكبر المصارف في الولايات المتحدة بين أعوام 1995 و2010، وجدنا أنّ المصارف التي كان لديها رئيس لشؤون المخاطر احتمال إقحام نفسها في الأنواع الأخطر من المشتقات المالية (مشتقات العمليات الخارجية ومشتقات المقايضة والمشتقات الائتمانية) أكبر مقارنة بغيرها. وكانت المصارف التي لديها رئيس لشؤون المخاطر أكثر اعتماداً على هذه المشتقات الأحدث والأخطر، وليس على الأقدم منها كمشتقات مثل السندات الآجلة والمستقبلية، والتي لطالما كانت تُتداول في الأسواق المالية الأميركية لقرون.
ربما يبدو محيراً للوهلة الأولى أن يؤدي وجود رئيس لشؤون المخاطر إلى انكشاف البنك على المخاطر. لكن هذه الحيرة ستختفي عند النظر إلى تاريخ مهنة إدارة المخاطر. فقد شهدت الثمانينات بداية توجّه التنفيذيين في المصارف إلى خبراء المخاطر لمساعدتهم في انتشال مؤسساتهم من حطام أزمة الدين في أميركا اللاتينية وأزمة العقارات التجارية وأسعار الفائدة الملتهبة. ومع خروج هذه الأحداث من الذاكرة، أصبح صعباً على خبراء المخاطر إظهار فائدتهم لقادة المصارف، لهذا حاولوا إضافة بعض الإثارة إلى صورة مهنتهم الكئيبة بتقليل دورهم في ضبط المخاطر والتأكيد على قدرتهم في تحقيق أكثر ما يريده حملة الأسهم: ألا وهو الأرباح القوية.
لكنهم بتوريط أنفسهم بتحقيق القيمة لحملة الأسهم، أصبح عليهم هجر شعارهم القديم القائم على تقليل المخاطر الذي كان يُنظر له على أنه في غير صالح حملة الأسهم. فقد تبنّوا عوضاً عنه شعاراً جديداً وهو "تعظيم عوائد المخاطر المعدّلة" الذي تضمّن توظيف خبرتهم لرفع المخاطرة إلى أقصى الحدود المسموحة، ودون حتى ترك هامش الخطأ من غير الاستفادة منه.
ادخل عالم المشتقات المالية
كان يُعتقد أنّ المشتقات الأحدث والأكثر مخاطرة تساعد على تحسين المخاطر بجعل الحصول عليها أسرع وأسهل وأرخص، أو تخفيف الانكشاف على المخاطر في استثمارات معينة، وجعل نقل الأخطار الجديدة والمعدة وفقاً للطلب أمراً ممكناً. لهذا عندما جاء الوقت الذي تمت فيه ترقية خبراء المخاطر إلى مناصبهم الجديدة كرؤساء لشؤون المخاطر، كانوا تعوّدوا النظر للمشتقات الجديدة على أنها الأدوات الصحيحة للعمل.
لكن ممارسات رؤساء شؤون المخاطر لم تكن وحدها التي شجعت على سلوكيات أكثر مخاطرة. حيث أثرَّ مجرّد وجودهم على قرارات أصحاب القرار في المصارف أيضاً. ووجد علماء النفس أدلة عديدة على تأثير "التصريح الأخلاقي"، وعلى سبيل المثال، عندما يُقال للموظفين أنّ صاحب عملهم يضمن لهم فرصاً متساوية، عندها ستقل احتمالات مراقبتهم لما قد يصدر عنهم من تحيزات ذاتية. وهذا التأثير نفسه يمكنه شرح النتائج هنا أيضاً: بإنشائهم منصباً جديداً ورفيعاً للإشراف على إدارة المخاطر (بما يرسل إشارة بأنّ المصرف كان "على دراية بالمخاطر")، وربما يكون المدراء التنفيذيون شجعوا مدراء الأقسام الأُخرى في المصرف على أن يصبحوا أقل حذراً في مراقبة سلوكياتهم المحفوفة بالمخاطر.
إلى جانب ذلك، لعب الرؤساء التنفيذيون والمستثمرون في المؤسسات دوراً في ذلك. فقد كانوا يكبحون اندفاعات رئيس شؤون المخاطر نحو المشتقات الخطرة عندما يكون لديهم حصة في اللعبة، كأن يكون لهم أسهم كثيرة في الشركة. لكن العكس كان يحدث عندما تكون معظم حوافز المدراء التنفيذيين في شكل مكافآت على الأداء (كالمكافآت النقدية)، وهو الأمر الذي يكافئ المجازفات التي تجلب عوائد كبيرة دون المعاقبة على الخسائر. وكان احتمال بأن يُقبل الرؤساء التنفيذيون للمصارف الذين لديهم اعتماد كبير على المكافآت على استغلال جميع أنواع المشتقات أكبر بكثير مقارنة بغيرهم الذين لا يعتمدون على المكافآت، بغض النظر عن وجود رئيس لشؤون المخاطر في الشركة أم لا.
من المهم ملاحظة أننا لم نعثر على دليل يؤكد الفرضية الشائعة: أنّ الرؤساء التنفيذيين المتعطشين للمخاطر يعيّنون رؤساء لشؤون المخاطر من أجل "التغطية" على خططهم للتحرك نحو نشاطات أكثر مجازفة. حيث لم تُنبئ شهية الرئيس التنفيذي للمخاطر بقرار تعيين رئيس لشؤون المخاطر. كما لم تُنبئ بذلك نشاطات المصرف السابقة في المشتقات ولا حتى مجموعة من العوامل المعروف أنها تنبئ بالتحركات نحو مجالات التمويل الأكثر مخاطرة.
تتضمن هذه النتائج درساً مهمة لقادة الشركات الذين يريدون تجنب تكرار كوارث إدارة المخاطرة الماضية: فحتى التقنيات الأكثر تطوراً في إدارة المخاطر لا يمكنها أن تبقي المصارف بعيداً عن المشاكل إذا كان رؤساء شؤون المخاطر يرون واجبهم في تعظيم العوائد أهم من واجبهم في تخفيض الكوارث. وصحيح أنّ المناصرين لتعظيم القيمة لحملة الأسهم يجادلون بأنّ المدراء الذين يبتعدون كثيراً عن المخاطر لا يخدمون مصالح المستثمرين. ومع ذلك، بالنسبة للمؤسسات التي يهمها النظام المالي مثل المصارف، فإنّ المجازفات تجلب ضرراً أكبر مما تجلبه من الفائدة.
لقد زادت نجومية رؤساء شؤون المخاطر في النظام المصرفي الأميركي منذ الأزمة الائتمانية، وعززها أكثر قانون دود فرانك لعام 2010 الذي يتطلب من المصارف تبني نوع من برامج إدارة المخاطر المركزية الذي يُعدّ رؤساء شؤون المخاطر متخصصين فيه. ويُعتبر هذا توجهاً مقلقاً. فعلى الرغم من هجر معظم رؤساء شؤون المخاطر للمشتقات التي تنطوي على المجازفة منذ أزمة الائتمان، إلا أنّ أجندتهم الأوسع لتعظيم مكاسب المخاطر المعدّلة لم تتغير. أخيراً، إذا استمر واضعو السياسات وقادة الشركات في تفويض رقابتهم على إدارة المخاطر إلى لاعبين يسعون وراء "تحسين المخاطر"، فلا يجب أن يفاجئهم حصول كوارث وفضائح مالية.