تعد المشاريع الريادية مكوناً مهماً للنمو الاقتصادي، وتؤدي دوراً رئيساً في الابتكار، وخلق الوظائف، وزيادة الدخل، ولكن العقبة الرئيسية التي يواجهها رواد الأعمال والشركات الناشئة هي الحاجة إلى التمويل، وعليه ظهرت فكرة رأس المال الجريء (المغامر) (Venture Capital) لتجاوز هذه العقبة، لا من خلال توفير التمويل فحسب، بل وبتقديم المساعدة الإدارية أيضاً، بالإضافة إلى نقل المعارف والخبرات في مختلف المجالات، لتعزيز نمو هذه الشركات الناشئة وتطويرها لتصبح شركات عالمية مهمة. ويمثل رأس المال الجريء عموماً شكلاً من أشكال أسواق الأسهم الخاصة، حيث يقوم مجموعة من الأشخاص -المستثمرين الجريئين-، بجمع الأموال من المستثمرين، أفراداً كانو أو مؤسسات، ويمولون بها الشركات الناشئة، والأفكار الريادية المحفوفة بالمخاطر التي تتميز بقدرات تنافسية عالية تبشر بنجاحها وتطورها مستقبلاً.
ويضم سوق رأس المال الجريء ثلاثة عناصر رئيسية، العنصر الأول: رواد أعمال لديهم أفكار ريادية وفي حاجة إلى التمويل؛ والعنصر الثاني: المستثمرون الذين يسعون للحصول على عوائد عالية من رأس المال الذي يستثمرونه؛ والعنصر الثالث: المستثمرون الجريئون الذين يعملون وسطاء بين العنصرين الأول والثاني، وذلك بجمع المال من المستثمرين لرواد الأعمال عن طريق صناديق استثمارية جريئة. ويقوم مدراء الصناديق في صفقات رأس المال الجريء بالاستثمار في الشركات عن طريق شراء أسهم أو حصص أقلية. وكل استثمار يهدف إلى الحصول على عائد مرتفع في شكل مكاسب رأسمالية وذلك بالخروج من المشروع بعد فترة زمنية قد تتراوح ما بين 7 إلى 10 سنوات من الاستثمار الأولي، وآلية الخروج من المشروع هي نقل ملكية شركة إلى شركة أخرى، إما ببيع أسهم الشركة وفق استراتيجية الاندماج أو الاستحواذ (Merger and Acquisition) أو بطرح عام أولي (Initial Public Offering IPO) في أسواق الأسهم. ومن أبرز الشركات البارزة التي استفادت من رأس المال الجريء شركة آبل وشركة إير بي آند بي، كما شهدت منطقة الشرق الأوسط أيضاً واحدة من أكبر قصص الاستحواذ نجاحاً عن طريق رأس المال الجريء متمثلة في استحواذ شركة أوبر على شركة كريم.
وتعود جذور فكرة رأس المال الجريء تاريخياً إلى العصر البابلي، واستمرت فكرة رأس المال الجريء إلى أوائل العصور الوسطى في أوروبا كما ذكر هانز لاندستروم سنة 2007 في كتابه: "أبحاث رأس المال الجريء" (Handbook of Venture Capital Research). وفي القرن الخامس عشر الميلادي عُدَّ قرار الملكة إيزابيلا - ملكة إسبانيا - بتمويل رحلة كريستوفر كولومبوس الاستكشافية مثالاً استثنائياً على أول استثمار جريء. وبذلك أصبحت ملكة إسبانيا -بالمعنى الدقيق- أول مستثمر جريء عندما دعمت رائد الأعمال (كريستوفر) برأس المال (المال، السفن، الإمدادات) لمشروعه الريادي (الرحلة الاستكشافية لآسيا). ويمكن القول أيضاً أن استثمارات الأفراد في العديد من البلدان كان لها تأثير في تطور الثورة الصناعية خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فعلى سبيل المثال في الولايات المتحدة الأميركية كان لمجموعة من المستثمرين المحليين والأوروبيين دور بارز ومهم في تمويل قطاعات صناعية جديدة مثل السكك الحديدية والبترول.
ويمكن العثور على أمثلة مبكرة لاستثمار رأس المال الجريء في منطقة الخليج العربي، من أهمها تجارة اللؤلؤ، إذ يقوم التجار المغامرون (المستثمرون) برعاية رحلات القبطان (رائد الأعمال) لاستخراج اللؤلؤ (المشروع)، والتي كانت تعتبر استثماراً مكلفاً ومحفوفاً بالمخاطر الجسدية (مثل انفجار طبلة الأذن، أو الموت غرقاً) والمالية، إلا أن احتمالية تحقيق المكاسب تكون عالية في هذه التجارة. وعلى غرار هيكل رأس المال الجريء الحالي، كان لنشاط استخراج اللؤلؤ عنصران رئيسان: رواد الأعمال الذين كانت لديهم أفكار ولكنهم بحاجة إلى التمويل، والمستثمرون الذين يسعون للحصول على عوائد عالية من رأس المال الذي يستثمرونه. ولكن نظراً لعدم وجود أسواق رأس المال في ذلك الوقت، لم يكن هناك دور وسيط لرأس المال الاستثماري ومن ثم كان رواد الأعمال قادرين على جمع الأموال لمشاريعهم مباشرة من المستثمرين.
ويمكن القول نظرياً إن تجارة اللؤلؤ قديماً في دول الخليج تمثل فكرة ريادية نشطت بتمويل جريء، فاستخراج اللؤلؤ هو المشروع الريادي، ويتألف من رُبَّان السفينة الذي يبحث عن تمويل مالي للقيام برحلة لاستخراج اللؤلؤ ويسمى النوخذة، وقبطان الأسطول الخبير في مغاصات اللؤلؤ ويسمى السردال، والغواصين ويسمون بالجزورة، ومساعدي الغواصين مثل المسؤول عن الحبال المستخدمة لإنزال الغواصين ويسمى السيب، والمغنين الذين يغنون لرفع روح الغواصين ويسمون بالنهام، والمساعدين مثل الطباخين والبحارة. وبعد تمويل المشروع تستغرق عملية استخراج اللؤلؤ قرابة شهرين. فيبدأ السردال بتحديد مواقع مغاصات اللؤلؤ من قاع البحر، بعد ذلك يقوم الغواصون مع المساعدين بالغوص لاستخراج المحار. وأخيراً، يسلم القبطان اللؤلؤ المستخرج للتجار -المستثمرين- الذين يمولون نشاط استخراج اللؤلؤ. وقد يتولى القبطان عملية بيع اللؤلؤ أو تصديره من أجل جني الأرباح، وعادة يأخذ القبطان عمولته من الأرباح، ويوزع جزء من الأرباح على أفراد الطاقم.
ومن الجدير بالذكر أن استخراج اللؤلؤ كان محورياً في اقتصاد الخليج منذ الألفية الخامسة قبل الميلاد، حيث تحدث الكاتب بيرند ديبوسمان في مقالته التي نشرت عام 2019 بعنوان: "اكتشاف أقدم لؤلؤة طبيعية في العالم في جزيرة أبوظبي"، عن اكتشاف علماء الآثار أقدم لؤلؤة طبيعية من العصر الحجري في جزيرة مَرْوَح في مدينة أبوظبي، واستمر استخراج اللؤلؤ مورداً اقتصادياً مهماً حتى الكساد الكبير في الثلاثينيات من القرن الماضي، كما ذكر الباحث روبرت كارتر في ورقته التي نشرت عام 2005 بعنوان: "تاريخ استخراج اللؤلؤ في الخليج الفارسي وما قبله" (The history and prehistory of pearling in the Persian Gulf). وظهرت الآثار الاقتصادية لهذه التجارة حيث شارك معظم سكان الخليج في تجارة اللؤلؤ واستفادوا منها، سواء كان ذلك من خلال التمويل، أو الغوص، أو التجارة، أو بناء السفن، كما اجتذبت الصناعة الغواصين من جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والتجار من الهند، وإيران، وأوروبا. وكان لهذه التجارة دور أساسي في تعزيز مفهوم التجارة، والتمويل والخدمات المصرفية الدولية في الخليج.
وقد شهدت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في الآونة الأخيرة ازدهاراً في نشاط رأس المال الجريء بما يتماشى مع التوجه العالمي، ويرجع ذلك إلى تطوير صناديق رأس المال الجريء، وبروز أهمية الشركات الصغيرة والمتوسطة في الاقتصاد. ومن الأمثلة على ذلك استحواذ شركة أمازون على شركة سوق (Souq) عام 2017 مقابل 589 مليون دولار أميركي، وإدراج شركة أنغامي في بورصة ناسداك (NASDAQ) عام 2022 كأول شركة تقنية عربية تُدرَج في بورصة ناسداك. وتعكس هذه العمليات -الاستحواذ والإدراج- وفرة الفرص في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والتي قد تجذب المستثمرين والشركات الدولية للاستثمار في هذه الشركات الناشئة.
وعلى الرغم من أن قطاع رأس المال الجريء في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يُعَدّ حديثًا نسبيًا، فإنه أظهر زيادة مطردة في عدد الاستثمارات وحجمها خلال السنوات القليلة الماضية. ووفقاً لتقرير منصة ماجنت (MAGNiTT) حول الاستثمار الجريء في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عام 2022 (MENA 2022 Venture Investment Report) فقد توسع قطاع رأس المال الجريء في المنطقة من 232 مليون دولار أميركي في عام 2015 (استثمر في 204 صفقات) إلى 2.6 مليار دولار أميركي في عام 2022 (استثمر في 590 صفقة). بالإضافة إلى ذلك فقد ازداد عدد حالات الخروج من الشركات الناشئة في المنطقة بشكل كبير، فارتفع من 7 عمليات خروج في عام 2012 (بقيمة خروج 42 مليون دولار أميركي) إلى 35 خروج في عام 2021 (بقيمة خروج تبلغ 3,610 ملايين دولار أميركي)، ومن المتوقع زيادة دور قطاع رأس المال الجريء وأهميته كقطاع تمويلي، خصوصًا مع بروز المبادرات التي تسعى لها دول الخليج في تطوير جودة الحياة ورفع رفاهية المجتمع والتي تلتزم أفكار ريادية جديدة متوافقة مع التطور.