مرت ثلاثة أسابيع منذ أن شعرت بألم في حلقي ولم يتحسن. وكان الألم يشتد كلما تحدثت. لذلك قررت ألّا أتحدث قدر الإمكان بضعة أيام. وكلما شعرت بالرغبة في التحدث، أتوقف لحظة لأتحقق من أن الأمر يستحق أن أزعج حنجرتي.
علّمتني تلك التجربة متى أتحدث وكيف أتحدث، وقادتني إلى اكتشاف مفاجئ مفاده أنني أبذل مجهوداً كبيراً ضد مصلحتي؛ وإن كانت تجربتي تدل على شيء، فهو أنك على الأرجح ترتكب الخطأ نفسه أيضاً.
استخلصت من تجربتي أننا نتحدث لثلاثة أسباب رئيسية:
- أن أستفيد
- أن أفيد الآخرين
- أن أتواصل مع الآخرين
لا جديد في ذلك، والأهداف الثلاثة مفيدة ومشروعة.
لكن ما يثير الدهشة هو عدد المرات التي نخدع فيها أنفسنا باعتقاد أننا نسعى لتحقيق أهدافنا، لكننا في الحقيقة نعرقلها؛ كلما استمعتُ أكثر، لاحظتُ كيف نضرُّ بمصالحنا.
في كثير من الأحيان كانت تتملكني رغبة في اغتياب شخص آخر، أدركت أنني أفعل ذلك بهدف التواصل مع النمامين الآخرين ولتحقيق مصلحة شخصية، إذ يرضيني اعتقاد أني أفضل من ذلك الشخص. لكن ذلك من شأنه أن يضعف تواصلي مع الذين أغتابهم، ومن المحتمل أيضاً أن يضعف تواصلي مع شركائي في النميمة؛ فمن الصعب الوثوق بمن يغتاب الآخرين. وبذلك أكون قد قوضت محاولاتي لتعزيز التواصل بدلاً من إنجاحها.
كما كانت تتملكني الرغبة في نقل المعلومات لأحد الأشخاص عندما اعتقد أنها مفيدة له، وذلك أحد أهداف التحدث المفيدة. لكن رغبتي في الحديث كانت غالباً بهدف الظهور بمظهر العارف فحسب، أو لجذب الانتباه، أو لتعزيز قوتي ضمن المجموعة. وأصبح من الواضح لي أن رغبتي في التحدث في تلك المواقف تنبع من رغبتي في التميّز. أردت أن يحبني الناس وأن يُعجبوا بي. لكن مَن يحب المتباهين؟
في بعض الأحيان كنت أرغب في تحقيق الفائدة لنفسي عبر التوصل إلى حل لمشكلة ما أو ضمان احتساب دوري في صناعة قرار ما، وذلك أمر مفيد. لكن في أحيان أخرى، كنت أرغب في أن يعلو صوتي فوق الأصوات الأخرى. اكتشفت مرةً أنني أرغب في أن يعلو صوتي فوق صوت شخص آخر في أحد الاجتماعات، أو أني أدافع عن وجهة نظري لإقناع الآخرين بها حتى أشعر بثقة أكبر في رأيي (وهو ما ألاحظه كثيراً في مواسم التنافس السياسي). هل يقدِّم ذلك أدنى فائدة للآخرين؟
في الواقع، أدهشني عدد المرات التي أردت فيها التحدث لأثبت وجودي لنفسي فحسب وأن لي دوراً أؤديه، وكان مَن حولي يلاحظون ذلك.
حينما كنت أجلس صامتاً لأقي حنجرتي من الآلام، أتيحت لي الفرصة لألاحظ كيف يتحدث الآخرون ومتى يتحدثون. ولاحظت الميول نفسها لدى الآخرين.
إذا كنت سأختزل دوافع حديثنا غير المفيد إلى دافع واحد، فسأقول إننا نتحدث غالباً لنشعر بالرضا على المدى القصير،
لكن الحياة والعلاقات طويلة المدى. وعندما نتحدث بالسوء عن الآخرين، أو نرفع أصواتنا، أو نقدم آراءنا دون أن يطلبها أحد، أو نسخر من آراء الآخرين، فإننا نتسبب في عزل أنفسنا عنهم بمرور الوقت.
كان هناك بعض الجوانب المشرقة في تجربة تقليل الحديث، إذ بدأت أستمع للآخرين أكثر، وتبيّن لي أن الاستماع فعال أكثر في تحقيق الفوائد التي أسعى لتحقيقها عادة عن طريق التحدث.
عندما بدأت الاستماع، أفدت نفسي، وأفدت الآخرين، وبنيت علاقات بكفاءة لا تقل عن كفاءة بنائها عن طريق التحدث، ولكن بأضرار جانبية أقل بكثير.
أنا لا أقترح أن نتوقف عن الكلام، فلا يمكننا تحقيق أهدافنا الثلاثة ما لم نتحدث؛ فنحن بحاجة إلى طرح الأسئلة وتبادل المعلومات. وهناك عدد من الطرق لبناء العلاقات عبر الحديث مثل الثناء على الناس وإعادة صياغة ما نسمعه للتأكد من فهمنا له.
لكنني أقترح أن نفكر في المستقبل قبل أن نبدأ الحديث، أي نفكر على المدى الطويل، ونسأل أنفسنا سؤالاً بسيطاً قبل أن نتحدث: هل ما سأقوله سيقوّض أحد أهداف التحدث الثلاثة؟ إذا كانت الإجابة بنعم، فعليك الصمت.
تحسنت حنجرتي، وأنا قادر على التحدث بقدر ما أشاء. وذلك خفف ما لدي من توتر؛ الآن بعد أن عرفت مدى سهولة أن يحبط المرء مساعيه، هل سأبقى في الجانب المفيد من معادلة التحدث؟
لحسن الحظ، قدَّم لي التهاب الحلق هدية سأذكرها على الدوام؛
ففي الأيام القليلة الماضية كنت أفكر ملياً عندما تتملكني الرغبة في التحدث بسبب الألم الشديد: ما دمت غير قادر على التحدث إلا بهذا القدر المحدود، فهل ما سأقوله يستحق أن أستخدم صوتي؟
المدهش هو أنني أعرف الجواب على الفور في معظم الأحيان.