سافرتُ خلال الـ 25 عاماً الماضية إلى أكثر من 180 دولة حول العالم، بما في ذلك دولة الإمارات والبحرين والكويت ومصر وقطر، لمحاولة فهم دور القيم في تحديد سلوكياتنا وعلاقاتنا وثقافتنا. وأدركت منذ البداية أن كل قرار نتخذه يتأثر بقيمنا المتأصلة في أعماقنا، بداية من الخيارات التي نتخذها في اللحظات الحاسمة وصولاً إلى القرارات الروتينية الأقل أهمية. ويستند كتابي "بوصلة القيم" الحائز جوائز عدة والأكثر مبيعاً في العالم، إلى فرضية مفادها أن القيم هي العنصر الرئيس في توجيه عملية صنع القرارات. وتتميز كل أمة بقيمها الخاصة التي تشكل الأساس الذي تستند إليه قيمنا الفردية.
نسعى دائماً، لا سيما على مستوى القادة والإداريين، إلى إرساء قيمنا في بيئة العمل والاستفادة منها في توجيه عملية صنع القرارات. ولهذا، لا يمكن تحقيق أي تغيير جذري في بيئات العمل دون إدراك قيمنا الأساسية وقيم الأشخاص من حولنا وتقديرها. ذكرت في كتابي تجربة دولة الإمارات وقطر كمثالين يمكن للأفراد وصناع القرار أن يستفيدوا ويتعلموا منهما.
قيمة الرؤية في دولة الإمارات
شكلت الرؤية، منذ اليوم الأول لتأسيس الدولة، جزءاً لا يتجزأ من نهجها، بإلهامٍ من مؤسسها وباني نهضتها الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الذي كان يحلم برؤية بلاده تواكب حضارة العالم الحديث. وتظهر عظمة الرؤية في الإنجاز الأهم، وهو توحيد سبع إماراتٍ منفصلة تحت علَم واحد ورسم ملامح هوية جديدة وحشد جميع الجهود نحو تحقيق مهمة جماعية.
انتقلتُ إلى دولة الإمارات في عام 2007 بغرض العمل، مدفوعة برؤية النمو والتطلع نحو المستقبل التي يتشاركها جميع من قابلتهم هنا. ولاحظت في كل مكان ذهبت إليه أن الجميع يعملون بجد للنمو وتحقيق رؤيتهم الخاصة للمستقبل. وأصبح مفهوم الرؤية حجر الأساس لهذه الدولة التي تأسست عام 1971، وهي الآن أحد أكثر الدول ازدهاراً وسعادة على مستوى العالم. ولا يعزى تطور البنية التحتية ومساحات الإبداع في دولة الإمارات إلى مواردها الطبيعية فقط، بل تمتد إلى مواردها الأغلى وهي رؤية حكامها وتطلعات شعبها. وتتجسد الرؤية في جميع الإنجازات التي حققتها الدولة التي تحتضن اليوم أهم ناطحات السحاب في العالم مثل برج خليفة، والمشاريع الضخمة مثل جزر العالم في دبي، ولديها نظام تعليم متطور يوفر التمويل لأبناء الدولة للدراسة في أي مكان في العالم، في حين تضم حكومتها إحدى أعلى النسب عالمياً من حيث مشاركة المرأة. لذلك تشكل الرؤية الإماراتية التي لا تعرف المستحيل مثالاً رائعاً يجب علينا جميعاً الاستفادة والتعلم منه.
قيمة الثقة في دولة قطر
تحظى الثقة بأهمية كبيرة في المجتمع القطري، وتؤدي خيانتها إلى تبعات خطيرة. ولا ينحصر الضرر الناتج عن نكث عهد ما على سُمعة الفرد فحسب، بل يزعزع أيضاً الثقة القائمة منذ وقت طويل بين العائلات والقبائل والمجتمعات والأماكن المختلفة. لذلك يبذل معظم القطريين كل ما في وسعهم لتجنب ذلك، لأنهم يدركون أن الثقة لا تُسترد، وأن خيانة المرء للثقة كفيلة بأن تحوله إلى شخص منبوذ، وربما إلى الأبد. وتعد قطر واحدة من دول العالم التي تشكل الثقة أهم ركيزة فيها، كما تتميز بالعديد من القيم التي توجّه بشكل كبير كيفية العيش والتفاعل معاً كشعب. وتكمن أهمية الثقة في أنها عنصر أساسي لا يمكن من دونه إجراء أي أعمال تجارية أو بناء صداقات أو حل نزاعات. وأكدت مديرة تطوير الأعمال في مركز قطر للمال، الشيخة العنود بن حمد آل ثاني، في حديثها معي أهمية الثقة، إذ لا تستطيع قطر من دونها استقطاب الاستثمار الأجنبي المباشر الذي يشكل جزءاً مهماً من مستقبلها الاقتصادي.
وتمثل الثقة المحرك الأساسي لاستمرار الأعمال التجارية، بدءاً من الشركات الفردية، وصولاً إلى الحكومات الوطنية والمنظمات الدولية، إذ لا يمكن إنشاء العلاقات أو إجراء الصفقات أو تحقيق النمو والتقدم عند انعدام الثقة.
وتشمل قيم الدول الأخرى:
الظرافة في مصر: يمكن ملاحظة أن معظم الأشخاص في مصر يتمتعون بروح مرحة في مختلف الأماكن والمواقف، سواء عند الجلوس مع أفراد عائلة شخص ما أو ركوب الحافلة أو حتى في العمل. وتشكل الظرافة وسيلة تتيح للناس التعبير عن آرائهم في الشأن السياسي في ظل الظروف الصعبة والاضطرابات السياسية التي مرت بها الدولة خلال السنوات الماضية.
التسامح في سلطنة عُمان: يشكل التقبل أحد القيم الأساسية في سلطنة عُمان، وهي إحدى أكثر الدول العربية سلاماً واعتدالاً. وتلعب السلطنة دور الوسيط الدبلوماسي في المنطقة غير المستقرة، كما تمثل غالباً وجهة لاستضافة القمم والمباحثات. وأسهمت قدرة عُمان على احتضان التنوع والتعددية في ترسيخ مكانتها المميزة، إذ تُعد مثالاً على الاستقرار والحيادية وتقبّل الثقافات والأفكار المختلفة.
الشهامة في الأردن: تشكل الشهامة قيمة أساسية في الأردن، وتنعكس في مختلف الأماكن والمجالات بصرف النظر عن الثروة أو المكانة الاجتماعية. ولا يتردد سكان الأردن في تقديم المساعدة لأي شخص كان، كما يعتبرون مساعدة الغير أمراً بديهياً لا يحمل النقاش، وانعكس ذلك خلال السنوات الأخيرة عند قيام المملكة باستقبال مئات آلاف اللاجئين السوريين. وتبرز هذه القيم في الثقافة الأردنية من خلال المقولة التي تشير إلى عدم صرف النظر عند رؤية شخص ما بحاجة إلى المساعدة بل تقديم المساعدة بكل الطرق الممكنة.
دور القيم في القادة والمؤسسات
يمكن أن تختلف القيم الفردية عن القيم الوطنية أو التنظيمية، على الرغم من أنها قد تتأثر بها. ولكن عندما تتوافق قيم القائد مع مؤسسته، ويعيشون حياة مدفوعة بالقيم، يمكن أن يكون التأثير بعيد المدى.
اليوم، يعتمد القادة الناجحون على قيم تمجيدية تجعلهم قادرين على اتخاذ القرارات الكبرى والصغرى وتخلّد ذكراهم. أما على مستوى الدول، فتتمثل هذه القيم بالرؤية التي تتمتع بها دولة الإمارات والثقة التي تحظى بها قطر والظرافة لدى مصر والدبلوماسية في المغرب.
ويمكن أن تتم عملية تحديد القيم الأساسية على جميع المستويات، إذ يمر العديد من المؤسسات الرائدة في العالم بهذه العملية لتحديد هويتها وإقرارها وما الذي تمثله، والتي غالباً ما يوجّهها قادة تلك المؤسسات.
وعلى سبيل المثال، تعمل شركة كريم، منصة النقل التشاركي وخدمة توصيل الطعام والسلع والدفع الإلكتروني، في أكثر من 80 مدينة ضمن 10 دول، بدءاً من المغرب وصولاً إلى باكستان، وهي شركة قائمة على القيم وتستقطب الموظفين الذين تشكل القيم دافعهم الأساسي. وتشمل القيم الرئيسية التي تعتمدها الشركة، تحقيق التفوق والريادة، وتقديم خدمات عالية الجودة، والعمل كمالكي الشركة. وكان الرئيس التنفيذي والمؤسس المشارك لتطبيق كريم، مدثر شيخة، قد كرس جهوده لضمان اعتماد جميع موظفي الشركة لهذه القيم.
وتعد كلية لندن للأعمال أيضاً إحدى المؤسسات التي تشكل القيم دافعاً مهماً بالنسبة لها، والتي تتلخص في إحداث تغيير جذري في أسلوب مزاولة الأعمال حول العالم. ومن خلال حملاتها، مثل "فور إيفر فورورد" التي تهدف إلى مضاعفة عدد المنح الدراسية التي تقدمها الكلية، فضلاً عن تعزيز بيئة البحث والابتكار، تهدف كلية لندن للأعمال إلى الابتكار وتوليد الأفكار التي قد تحدث تأثيراً إيجابياً على القادة وتساعدهم على تقديم الدعم بعضهم لبعض في عالم اليوم الذي تحكمه المتغيرات. ويمثل التفاني في إرساء القيم المؤسساتية عنصراً مهماً في عالم المؤسسات ما بعد جائحة كوفيد-19، إذ تدعم شركات كثيرة نموذج العمل الهجين، وتعمل على إرساء ثقافة مبنية على القيم لتحقيق النجاح والاستمرارية.
ويساعد تحديد مجموعة واضحة من القيم الأساسية الشركات على تقريب المسافات والتغلب على الاختلافات الثقافية التي قد تواجهها. فعلى سبيل المثال، قد تثمّن شركة ما مفهوم الأصالة أو الابتكار، بينما قد يحمل موظفوها المنتشرون في دول الإمارات والبيرو وألمانيا وكوريا الجنوبية وجهات نظر مختلفة تتوافق مع قيمهم الوطنية. مثلاً في الإمارات تتجسد هذه القيم بمفهوم الرؤية بينما تتجسد بمفهوم الإيجابية في البيرو والتأمل في ألمانيا والديناميكية في كوريا الجنوبية.
من خلال أبحاثي وتجاربي، تعلّمت أن القيم يمكن أن تحدد تاريخ أمة ما وثقافتها وأن تدعم مساهمتها وتأثيرها في المجتمع العالمي، والعكس صحيح. في عالم الأعمال اليوم وبصفتكم قادة، لا بد من تحديد مجموعة واضحة من القيم الأساسية ومشاركتها وتشجيع الموظفين على اعتمادها نمطَ حياة يومياً، بهدف تعزيز قدرة الشركة على مواجهة التحديات وتحقيق النمو في المستقبل.