نجمة الشمال في صنع القرار: نظرة حول العلوم السلوكية في المملكة العربية السعودية

4 دقائق
shutterstock.com/treety
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

في أول لقاء جمَعه بولي العهد الأمير محمد بن سلمان في 2015، ذكر محافظ صندوق الاستثمارات العامة، ياسر الرميان، أن سمو الأمير استقبله ليشرح له فكرة (مركز دعم اتخاذ القرار) بالديوان الملكي، إذ “كانت فكرة سمو ولي العهد أن غالبية القرارات اتخاذها بناءً على الرأي وليس على الأدلة والمعلومات والبيانات”.

وقُبيل أشهر كنت قد سألت سموّه الكريم مباشرة عن طريقته في اتخاذ القرارات وعن إسهامات العلوم الاجتماعية في صنع السياسات، خاصة في ظل الأعمال الكثيرة التي تنهمر على طاولته كل يوم، فأشار لي إلى أنّ قراراته تتشكّل بناءً على مجموعة منسجمة من البيانات والمعلومات التي تأخذ بالحسبان كل الأبعاد، بما في ذلك الأبعاد السلوكية والاجتماعية.

هذه الخطوة تُعطي لمحة عن فكر القيادة السعودية وعن عملية صنع القرار في الرياض. ففي خضمّ التعقيدات التي يعيشها العالم، باتَ من اللازم أن تُتخذ القرارات بطريقة أكثر كفاءة ومنهجية، وهذه إحدى أهم السِمات التي تُميّز التحولات المعاصرة في المملكة نحو بلوغها رؤية 2030 الطَّموحة.

وبما أن التوجه العلمي بدأ من قمة الهرم، فمن المنطقي أن يجد مسرَاه إلى كافة الأروقة الحكومية. ومن هنا انطلقت “وحدة العلوم السلوكية” أو “وحدة الترغيب” (Nudge Unit) في وزارة الصحة في خريف 2018، لتكون من أوائل الجهات المتخصصة في العلوم السلوكية بالشرق الأوسط. وحتى تنضج هذه التجربة وتحوز على التمكين اللازم، أصبح مكتب معالي الوزير هو الحاضن والقائد لهذه الوحدة. وهنا أحد الدروس المستفادة من التجربة: الأفكار الابتكارية تتطلّب “احتضاناً” من أعلى قمة هرم المنظومة، فهذه الأفكار بالغالب تكون أكثر عرضة للتهديد الوجودي والفناء بسبب حداثتها وبسبب مقاومة المنظومة التقليدية.

ولكن لماذا العلوم السلوكية؟ وما الموعود والمرجو منها؟

الأساس الذي تنطلق منه هذه العلوم هو نظرية “العقلانية المحدودة” (Bounded Rationality) التي طُرحت في الخمسينيات من قِبل العالم الفذ هربرت سايمون (Herbert Simon) الذي فاز بجائزة نوبل في الاقتصاد لدوره في عملية اتخاذ القرار لدى الإنسان. تنصُّ هذه النظرية على أن قرارات الإنسان ليست بالضرورة منطقية، بل هي محدودة ومُشوّهة بالكثير من الانحيازات (تذكّر آخر مرة اتخذت فيها قراراً فقط لأنك تأثرت بالمجموعة المحيطة بك أو بضغط من الأقران حولك). هذه المُقاربة لتفكير الإنسان شكّلت فهماً جديداً في الحقل العلمي الذي كان يعتمد على فرضية “الإنسان المنطقي”، وعلى أن الإنسان يتخذ قراراته بشكلٍ حكيم ومُستقل بناءً على حسابات المنفعة والضرر لكل خيار. من هنا انطلقت الدراسات والتجارب العلمية التي كسَرت جبروت الإنسان بعض الشيء، إذ اتضح بالدليل العلمي أن تفاصيل تافهة باستطاعتها التأثير على قرارات البشر وسلوكياتهم (مثل إضافة اللون الأخضر على أغلفة المواد الغذائية لدفع المتسوّقين إلى شراء السلع ظناً منهم أنها بالضرورة مُنتجات مفيدة صحياً).

لسنا بمكان طرح التحيزات الإدراكية الكثيرة ولا العطب الموجود في تفكير الإنسان، فالمهم هنا هو كيف يُوظَّف هذا الفهم في تحسين الخدمات والبرامج الحكومية. فعندما نفهم هذه التبصّرات النفسية والسلوكية، ونستوعب “ذهنية المستفيد” لخدماتنا، نستطيع أن نصمّم له “برامج صديقة” متمحورة حول الإنسان وتأخذ بالاعتبار مكامن القصور فيه. بهذه الفلسفة نستطيع أن نُعظِّم مستوى الاستفادة ونرفع كفاءة الإنفاق على البرامج العامة. فعلى سبيل المثال، أجرت وحدة العلوم السلوكية بوزارة الصحة دراسة علمية لاكتشاف أي الرسائل والصياغات اللغوية تستطيع أن تدفع الجمهور أكثر نحو أخذ لقاح كورونا إبّان الجائحة: تم اختبار 6 رسائل مختلفة وقياس استجابة المشاركين في تسجيلهم للقاح، وحينها تم اكتشاف الصياغة المناسبة التي قادت إلى أعلى استجابة. بنتيجة كهذه، نستطيع أن نتواصل مع الجمهور تواصلاً أفضل، وبالتالي نحقق أعلى نسبة استفادة من برنامج اللقاح، ونوقف الهدر المالي، والأهم أن نحفظ حياة الناس من الأمراض والوفيات. فبناءً على الحسابات التنبؤية، يستطيع هذا التدخل البسيط أن يمنع أكثر من 26 ألف حالة كورونا، وأكثر من 300 حالة وفاة. وهذا هو وعد العلوم السلوكية: تحسين كفاءة البرامج العامة بناءً على فهمها للمستفيد.

فكرة العلوم السلوكية البسيطة في وصفها، والضخمة في نتائجها، أصبحت مطلباً دولياً من صنّاع القرار. ففي القمة الأخيرة لمنظمة الصحة العالمية، المنعقدة في جنيف في مايو/ أيار 2023، أصدرت الإدارة التنفيذية قراراً لكافة الدول الأعضاء بضرورة استخدام العلوم السلوكية لتحقيق المستهدفات الصحية للشعوب. وينصُّ هذا القرار على تدشين وحدات إقليمية في كافة أنحاء العالم بدعم من المنظمة، وكذلك تمت دعوة الدول الأعضاء لمشاركة النتائج والدروس فيما بينها وذلك لتعظيم الأثر.

ولكي تخطو وزارة الصحة السعودية خطوةً للأمام في سباقها مع نفسها، فإن الاستراتيجية الجديدة هي أن تتحول وحدة العلوم السلوكية إلى مركزٍ وطني يخدم المنظومة الصحية كلها والجهات الشقيقة خارج أسوار الوزارة (مثل مجلس الضمان الصحي وهيئة الصحة العامة وغيرهما). هذه التحولات المؤسساتية تثبت الرؤية التقدمية للمملكة العربية السعودية في استثمار هذه العلوم وبشكلٍ استباقي ومُبادِر.

قصص النجاح التي تزخر بها العلوم السلوكية شجّعت العديد من صنّاع القرار في المملكة على تبنّي هذه المنهجية العلمية لتحسين برامجهم سعياً لتحقيق مستهدفات رؤية 2030. فهذه السنة وحدها شهدت إطلاقَ وحدة العلوم السلوكية في وزارة الشؤون البلدية والقروية والإسكان، وكذلك وحدة مشابهة في وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، بالإضافة إلى عدة وزارات في طريقها نحو ذلك، مثل وزارتي الاقتصاد والتخطيط والحج والعمرة. لا شكّ أن هذا التوجّه العلمي سيحمل بطيّاته سياسات وأنظمة وخدمات أكثر قُرباً للمواطن والمقيم، ما ينبئ بالمزيد من النجاحات في رحلة التحول الوطني.

مثل هذا الحراك العلمي لا يقتصر فقط على الجغرافيا السعودية، بل أصبحت المملكة قائدة ورائدة في تحرّكاتها العالمية كذلك. ففي قمة العشرين المنعقدة في الرياض 2020، تم الإجماع من كافة الدول الأعضاء على تدشين “مركز الرياض للعلوم السلوكية لسوق العمل”، الذي يهدف إلى أن يكون شبكة دولية هدفها تحسين سوق العمل وممارساته عبر هذه المنهجية العلمية.

تعيش المملكة العربية السعودية أوج نشاطها القيادي والتنموي بقيادةٍ يحمل مشعلها شاب طموح، يؤمن بشعبه كثيراً، ويعتقد أن التغيير والتحوّل يأتيان بسواعد أبناء الوطن أولاً. رؤية 2030 التي ترسم مستقبل السعوديين تتطلّبُ استراتيجيات نوعية وأدوات ابتكارية تنتمي إلى عالَم اليوم. فمن المبهج أن تكون العلوم السلوكية ضمن حقيبة الأدوات هذه. نعم، هذه العلوم قد لا تكون العصا السحرية التي ستحقق كل شيء، لكن كل شيء يتحقق بطريقة أفضل بهذه العلوم.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .