حينما يأتي الدور على الحديث عن "البيانات والتحليلات" (D&A)، نجد النقاشات في أغلبها تركز على التكنولوجيا. وبالرغم من أن امتلاك الأدوات الصحيحة بالفعل أمر بالغ الأهمية، فإنه غالباً ما يتغاضى التنفيذيون، أو يقللون من أهمية الأشخاص والمكونات التنظيمية اللازمة لبناء وظيفة ناجحة في مجال البيانات والتحليلات. فكيف يمكن دمج البيانات في شركتك؟
وعندما يحدث ذلك، يمكن أن تتعثر المبادرات المتعلقة بالبيانات والتحليلات، فلن تقدم الرؤية المطلوبة من أجل دفع المؤسسة قدماً، أو حتى تبث الثقة في الإجراءات التي تتطلب ذلك. وهذا الأمر، في حد ذاته، في غاية الخطورة، خاصةً مع تقديرات "مؤسسة البيانات الدولية" (International Data Corporation) التي تشير إلى أن استثمارات الأعمال العالمية في مجال البيانات والتحليلات ستتجاوز 200 مليار دولار سنوياً بحلول العام 2020.
وإذا أرادت الشركات أن تمتلك أداءً ناجحاً وقوياً لوظيفة البيانات والتحليلات، فيجب أن تشتمل هذه الوظيفة على أكثر من مجرد كومة من التقنيات، أو مجموعة من الأشخاص المعزولين في طابق من المبنى. ينبغي أن تكون البيانات والتحليلات نبض المؤسسة، بحيث تُدمج في كل القرارات الأساسية في المبيعات، والتسويق، وسلاسل التوريد، وتجارب العملاء، وغيرها من الوظائف الأساسية.
اقرأ أيضاً: كيف تحدد فرص تعلم الآلة حتى لو لم تكن عالم بيانات؟
كيفية دمج البيانات في شركتك
إذاً، ما الطريقة المثلى لبناء قدرات فعالة في مجال البيانات والتحليلات؟ عليك البدء بتطوير استراتيجية على مستوى المؤسسة بأكملها تتضمن فهماً واضحاً لما تأمل أن تنجزه، وكيفية قياس مدى النجاح الذي ستحققه.
ويمكننا أن نأخذ حالة إحدى بطولات الدوري الرياضي الأميركي الكبرى، مثالاً فعّالاً لمؤسسة تحقق استفادة قصوى من وظيفة البيانات والتحليلات. إذ تطبق الإدارة البيانات والتحليلات التي تمتلكها لإنشاء جداول تهدف للتقليل من النفقات، مثل تقليل حاجة الفرق للسفر من مدينة إلى أخرى للعب المباريات المتتالية. وفي موسم العام 2016-2017، كان هناك آلاف العوائق والقيود التي يجب أن تؤخذ بالحسبان، كأمور تتعلق بالسفر، وإرهاق اللاعبين، وإيرادات التذاكر، وتوافر ساحات اللعب، ووجود ثلاث شبكات تلفزيونية كبرى. ومع وجود 30 فريقاً و1,230 لعبة ضمن هذا الموسم النظامي الذي يمتد من شهر أكتوبر/تشرين الأول إلى أبريل/نيسان، كان هناك احتمال لمليارات الخيارات من الجداول والبرامج.
ولكن، إدارة الدوري استثمرت البيانات والتحليلات لوضع جداول سمحت بتحقيق التالي:
- تخفيض عدد المباريات التي لعبتها الفرق في ليال متتالية بنسبة 8.4%.
- تخفيض الحالات التي تلعب فيها الفرق أربع مباريات ضمن خمسة أيام بنسبة 26%.
- تخفيض الحالات التي تلعب فيها الفرق خمس مباريات ضمن سبعة أيام بنسبة 19%.
- زيادة عدد المباريات المتتالية التي لعبتها الفرق دون الحاجة للسفر بنسبة 23%.
- السماح لكل فريق بالظهور على إحدى شبكات التلفزيون الرئيسية الخاصة بتغطية الدوري لمرة واحدة على الأقل، وهو نجاح غير مسبوق للدوري في أي من السنوات السابقة.
وإلى جانب التكنولوجيا، كان أحد مفاتيح النجاح بالنسبة لإدارة الدوري هو وضع استراتيجية واضحة لإنشاء نظام الجدولة الجديد، والالتزام به على مستوى المنظمة لرؤيته بعين ثابتة بغرض تحسين خبرات جميع المنخرطين في العمل، بما فيهم اللاعبون والجمهور والحكام وشبكات التلفزيون.
ويمكن للشركات أن تحذو حذو الدوري في تجربته الرائدة تلك، أولاً من خلال إدراك أن البيانات والتحليلات الناجحة تبدأ من القمة. لذلك، تأكد أن فرق القيادة منغمسة كلياً في تحديد ووضع التوقعات على مستوى المؤسسة بأكملها. وتجنب السماح بوضع الاستراتيجية وصنع القرار ضمن وحدات عمل منعزلة يمكنها إنتاج تقنيات مثل تقنية "اللعب عن بعد" (shadow technology)، وإصدارات متناقضة من الحقيقة، والإفراط في تحليل البيانات بطريقة يعجز معها عن الوصول لتطبيق حلول عملية. وقبل بدء أي مبادرات جديدة لتحليل البيانات، يجب أن تسأل نفسك أولاً: هل الهدف المنشود هو تحسين أداء العمل؟ هل العملية مساعِدة وهل التكلفة فعالة؟ هل الهدف هو قيادة استراتيجية معينة وتسريع التغيير؟ أو زيادة الأسهم في السوق؟ أو ربما الابتكار بفعالية أكبر؟ أو هو كل ما سبق؟
اقرأ أيضاً: كيف تتم محاربة فيروس كورونا عبر البيانات الكبيرة؟
الخطوة التالية، بعد الإجابة عن هذه الأسئلة، هي إدراك أن فرق البيانات والتحليلات ليست مجرد مستودعات للبيانات تؤدي وظائف هامشية. وإنما يجب أن تكون وظائف البيانات والتحليلات الخاصة بك هي المفتاح الرئيسي في التطوير وتنفيذ استراتيجية العمل من خلال تقديم رؤى عميقة في المجالات الأساسية، مثل ما يتعلق بالموظفين والعملاء، والفرص غير المستغلة في السوق، والاتجاهات المستجدة في البيئة الخارجية، وغيرها.
اتخاذ القرارات الصحيحة بالاعتماد على البيانات
ويجب أن تدرك فرق القيادة أن النجاح يتطلب الجرأة والشجاعة، فبمجرد الشروع في الرحلة، ستشير الأفكار الناتجة عن البيانات والتحليلات إلى الحاجة لاتخاذ قرارات قد تتطلب تصحيحاً لمسار العمل. وهنا، يجب التشديد على ضرورة أن يكون القادة صادقين مع أنفسهم حول استعدادهم للأخذ بتلك الأفكار في أثناء عملية صنع القرار، وتحملهم هُم وفرق العمل لديهم المسؤولية لفعل ذلك.
يمكن أن تكون المقاومة الثقافية أيضاً عائقاً أكبر من المتوقع. وهي أمر مهم أكدته النتائج التي خلصت إليها دراستان حديثتان تظهران أن نسبة 51% فقط من كبار المدراء التنفيذيين يدعمون كلياً استراتيجية البيانات والتحليلات في مؤسساتهم. بينما تقدر شركة "غارتنر" (Gartner) الرائدة في البحوث والاستشارات أن مشاريع البيانات والتحليلات تتعثر في 60% من الحالات. فما السبب؟ لاحظنا أن ذلك يعود غالباً لعدم دعم هذه المشاريع بالهيكل التنظيمي الملائم وبالمواهب اللازمة وأنها غير متوافقة مع استراتيجية العمل.
اقرأ أيضاً: في الموارد البشرية لا وجود لما يسمى "بيانات ضخمة"
ونجد بعض المؤسسات توزع مهام البيانات والتحليلات على مختلف الأقسام والوظائف، أو تعتمد على عدد محدود من علماء البيانات لتقديم الرؤى والأفكار. فيما يعتمد بعضهم، إلى حد كبير، على الأدوات التقنية والبنيات الجامدة دون أي مرونة. ولكن ذلك كله لا يخلق بيئة صحيحة للتأثير إيجابياً على أصحاب الخبرة الحقيقية لدفع مشاريع البيانات والتحليلات نحو الأمام. لذلك، تكون هذه الأنماط غالباً غير قادرة على تحقيق أي تحولات حقيقية بالاستفادة من البيانات والتحليلات.
ولنأخذ حالة شركة عالمية متخصصة بعلوم الحياة مثالاً على ذلك. إذ أنفقت الشركة مبلغاً كبيراً على بناء منصة تحليلات متقدمة، دون أن تحدد أولاً ما كان من المفترض أن تفعله. وسمح التنفيذيون في الشركة للفرق التقنية بالحصول على العديد من المنتجات، لكن لم يدرك أحد منهم ما كان من المفترض أن تحققه هذه الأدوات أو حتى كيفية استخدامها. ولحسن الحظ، أدرك التنفيذيون المشكلة قبل فوات الأوان، وأجروا تقييماً واسعاً لاحتياجات الشركة، ومن ثم أعادوا تشكيل المنصة بأسلوب يُلهم بالثقة في قدرة الشركة على دفع الكفاءة ودعم تحولات العمل فيها.
وفي مثال آخر، أنشأت مؤسسة خدمات مالية كبرى منصة تقنية قوية، مستندة إلى احتياجات أصحاب الأسهم. ولكن بعد إنشائها بفترة وجيزة، اكتشف التنفيذيون أنهم يفتقرون إلى البنية التنظيمية المناسبة، وإلى أشخاص أكفاء لاستخدام هذه المنصة بنجاح. وحالما تمكنوا من تلبية تلك المتطلبات، أصبحت الشركة قادرة على استخدام هذه المنصة العظيمة لتحقيق وفورات كبيرة في تكاليف عمليات التشغيل.
ووفقاً لمسح أجرته شركة "كيه بي إم جي" (KPMG)، واحدة من أكبر الشركات في مجال الخدمات المهنية، في عام 2016، تبين أن تحليل البيانات هو المهارة التقنية الأكثر مطلباً للسنة الثانية على التوالي، لكن حوالي 40% من قادة تكنولوجيا المعلومات يعبرون عن معاناتهم في نقص المهارات في هذا القسم الحيوي. والأكثر من ذلك، أن تقريراً صادراً عن "مؤسسة البيانات الدولية" يشير إلى أن أقل من 25% من المؤسسات تشعر بأن نضج البيانات والتحليلات لديها وصل لمستوى يمكن من خلاله تحسين نتائج العمل.
ورغم أن الأنظمة المهيكلة رسمياً وكذلك العمليات والأفراد المكرسين للعمل مع البيانات والتحليلات يمكنهم أن يشكلوا ميزة تنافسية، لكن من الواضح أن العديد من المؤسسات تفوّت هذه الفرصة العظيمة. ومن خلال تجربتنا الخاصة، يمكننا القول إن الشركات التي تبني قدرات تتعلق بالبيانات والتحليلات بحيث تلبي احتياجات العمل لديها بالتأكيد تمتلك فرقاً من مهندسي البيانات والبرمجيات الماهرين في التعامل مع كميات كبيرة من المعطيات، إضافة إلى علماء البيانات الذين يركزون كلياً على مبادرات البيانات والتحليلات.
اقرأ أيضاً: فريقك ليس بحاجة لعالم بيانات من أجل القيام بالتحليلات البسيطة للبيانات
وفي حين تتباين وتتنوع الهياكل المؤسسية، يجب على الفريق المختص أن يندمج بسلاسة مع مزودي البيانات والتحليلات ومستهلكيها الحاليين الموجودين في الشركة، بحيث يعملون بترابط وتناسق مع الزملاء الآخرين من غير المتخصصين بالبيانات والتحليلات، وهم أشخاص يتفهمون فعلياً كلاً من تحديات العمل وكيفية سيره، وذلك كله بهدف وضع أهداف استراتيجية واقعية وذات صلة والعمل على تحقيقها. كما لا بد أن تحصل الفرق أيضاً على الدعم الكامل من القيادات التنفيذية، ويجب أن تكون أهدافهم متوافقة تماماً مع استراتيجية العمل.
وفي نهاية الحديث عن كيفية دمج البيانات في شركتك، لا بد أن يدرك القادة أنهم يحتاجون، في عصر تولّد فيه البيانات على نطاق واسع يتجاوز حدود قدرة العقل البشري على معالجتها، إلى بيانات وتحليلات موثوقة لتعينهم في عملية صنع القرارات المهمة، ليس فقط من أجل خفض النفقات لكن لتحقيق النمو والتطور. وستعمل النخبة على استثمار هذه البيانات والتحليلات لتوقع احتياجات ومطالب عملائهم حتى قبل أن يدركها هؤلاء الآخرون.
اقرأ أيضاً: علم البيانات المدفوع بالفضول