ملخص: أثّر التوجه العالمي للتخلُّص من الكربون في مختلف القطاعات على صناعة السيارات بدرجة كبيرة وبخاصة شركات صناعة السيارات الرياضية. صممت شركة بورشه سيارة تايكان الكهربائية في عام 2019، ما أدى إلى زعزعة ثقافة "عشاق السيارات التي تعمل بالبنزين" المولعين بمحرك بورشه التقليدي الأفقي ذي الأسطوانات الست المميز. سعت الشركة بنفسها إلى تشجيع "سلوك الاستدامة لدى الموظفين"، مثل التبنّي الطوعي للسيارات الكهربائية بالنسبة إلى الموظفين المؤهلين للحصول على سيارات الشركة. ونتيجة لذلك، اختار أكثر من نصف الموظفين قيادة السيارات الكهربائية. يوضح المؤلفون كيف فعلت شركة بورشه ذلك باستخدام علم السلوكيات الخاص بإدارة الترغيب.
في إطار جهود مكافحة تغير المناخ، كان لجهود التخلُّص من الكربون تأثير كبير على تطوير صناعة السيارات في السنوات الأخيرة. وبطبيعة الحال، يجد مصنّعو السيارات الرياضية أنفسهم في تحدٍّ حقيقي.
وتعد شركة بورشه التي يقع مقرها في ضاحية زوفنهاوزن في مدينة شتوتغارت بجنوب غرب ألمانيا من الأمثلة اللافتة للنظر. ففي مركز الدوار الذي يربط بين الطرق التي تمر عبر مقر شركة بورشه وموقع التصنيع الرئيسي، يوجد مجسّم يبلغ طوله 60 قدماً لتمجيد سيارة بورشه 911 الشهيرة من خلال رفع نماذجها عبر العصور المختلفة نحو السماء، وهي نواة العلامة التجارية التي تعمل بمحرك احتراق أفقي بست أسطوانات مميز. ويوجد خلفه متحف بورش الحديث المصنوع من الزجاج والخرسانة الذي يوثق تاريخ الشركة الممتد على مدار 75 عاماً. بعد المرور بمجموعة من سيارات السباق الفائزة بسباقات لومان، يسمع الزوار هدير محركاتها عبر "اندفاعات صوتية" تعتبر تحية لتاريخ العلامة التجارية وشهادة على انتصاراتها في رياضة السيارات.
داخل مكاتب مقر الشركة القريبة من هذا الموقع، أصبحت الاستدامة جزءاً لا يتجزأ من استراتيجية 2030 الشاملة الخاصة بالشركة، التي تتضمن أهدافاً طموحة للتخلص من الكربون، ومنها زيادة الاعتماد على الطاقة الكهربائية في مجموعة طرازات سيارات بورشه. وفي أول خطوة للشركة نحو تحقيق هذا الهدف، اقتحمت بورشه عصر استخدام السيارات الكهربائية بسيارة تايكان الكهربائية بالكامل في عام 2019.
أثبتت سيارة تايكان نجاحها التجاري فقد باعت الشركة ما يقرب من 35,000 سيارة بفارق بضعة آلاف فقط عن سيارة 911. لكن بالنظر إلى ارتباط موظفي بورشه العاطفي القوي بهوية العلامة التجارية والتكنولوجيا التي أسهمت في نجاح شركة بورشه، كيف يمكن للشركة أن تحقق تحولاً مستداماً في عقليتهم؟ كيف تقنع "عشاق السيارات التي تعمل بالبنزين" المولعين بالصوت المميز للمحرك الأفقي ذي الأسطوانات الست بالتحول إلى محرك كهربائي على الرغم من تحفظاتهم العملية بشأن عوامل مثل المسافة التي يستطيع هذا المحرك قطعها؟ كيف يمكن تعزيز "سلوك الاستدامة لدى الموظفين" في شركة ذات سجل حافل في رياضة السيارات؟
من الواضح أن ذلك لن يكون سهلاً. وهو يتجاوز الجانب التكنولوجي ويمسّ هوية العلامة التجارية وثقافة الشركة الداخلية. ففي نهاية المطاف، لا يمكن إنشاء قوة مستدامة ومبتكرة تتفوق على المنافسة إلا من داخل الشركة وليس من خلال تلبية المتطلبات التنظيمية الخارجية فقط.
بصفتنا فريقاً من الأكاديميين والمتخصصين من داخل شركة بورشه، بحثنا هذه الجهود المبذولة في إطار سلوك الاستدامة لدى الموظفين في دراسة نُشرت في عام 2023. بدأنا بمحاولة الإجابة عن هذا السؤال: كيف نستطيع تحقيق تحول في العقلية وتغيير السلوكيات بين الموظفين لكي يمارسوا أعمالهم اليومية على نحو أكثر استدامة، ويتخلصوا من العادات والتفضيلات التقليدية؟
من بين ما يقرب من 5,000 موظف من موظفي شركة بورشه المؤهلين لاختيار سيارة جديدة واحدة سنوياً، اختار 53% منهم السيارات الكهربائية في عام 2021. أجرينا دراستنا في عام 2022 على عيّنة جزئية تضم 147 موظفاً. اختار 66.5% من هذه العيّنة سيارات كهربائية في عام 2022، مقارنة بـ 45.9% في عام 2021. إليك كيف حققنا تلك الزيادة.
إدارة الترغيب
المحفز الأول الذي يلجأ إليه العديد من الشركات هو استخدام المنطق بالإشارة إلى الفكرة العامة المتمثلة في توفير عالم أفضل للأجيال القادمة. وعلى المستوى العملي، تلتزم الشركات بمبادئ توجيهية وقواعد وأطر تصنيف محددة، أو تعطي محاضرات للموظفين حول التأثير السلبي الذي قد يُحدثه سلوك الموظفين غير المستدام في سمعة الشركة وتقييمات الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات وبالتالي في قيمة الشركة.
في كثير من الأحيان، تقتصر الشركات على مثل هذه الأنماط الإيضاحية المجردة التي لا تغير سلوك الموظفين بفعالية على المدى الطويل، فهي تتجاهل حقيقة أن جزءاً كبيراً من سلوكنا يتحدد من خلال "القرارات السريعة" أو الغريزة التي تتجنب تفكيرنا الواعي ويحفزها الوسط والانطباعات المحيطة بنا كل يوم. وفي هذا السياق، تتفوق الغريزة في كثير من الأحيان على "التفكير المتأني" الذي نستخدمه عند التفكير العميق في الحقائق والوصول إلى استنتاجات عقلانية.
يقترح علم الاقتصاد السلوكي إدارة الترغيب لأنها توفر بدائل لطرق تغيير السلوك البشري بطريقة إيجابية دون فرض عقوبات أو وضع حوافز مالية. والترغيب هو إحداث تغييرات صغيرة ودقيقة في الوسط المحيط أو في عملية صناعة القرار بوسعها أن تؤثر على سلوك الأفراد دون تقييد حرية الاختيار. يجعل الترغيب خيارات معينة أسهل وأكثر إقناعاً وجاذبية ويقدم اقتراحات. على سبيل المثال، يعد نظام تحديد المواقع أداة ترغيب لتوجيه الأفراد، وينطبق ذلك أيضاً على الإعدادات الافتراضية للأجهزة، وتبسيط الإجراءات، ومخاطبة العواطف، وتسليط الضوء على الأعراف الاجتماعية، وتقديم المعلومات بطرق تؤثر على صناعة القرار، واستخدام التنويهات التي تذكّر بالقرارات والسلوكيات المطلوبة. حققت هذه الطريقة نجاحاً كبيراً لدرجة أنها حازت جائزة نوبل في الاقتصاد وأثّرت في المشرعين في جميع أنحاء العالم. كتاب "الترغيب" (Nudge)، الذي ألفه الحاصل على جائزة نوبل ريتشارد ثالر وشارك في تأليفه كاس سانستين الذي شارك في تأليف هذه المقالة، قدّم إدارة الترغيب إلى جمهور واسع ومكّن الناس في جميع أنحاء العالم من تحسين أعمالهم وحياتهم اليومية.
تأطير الرسائل
وبالعودة إلى مقر شركة بورشه في مدينة زوفنهاوزن، واجهت الشركة تحدياً خاصاً في استخدام تأطير الرسائل باعتبارها أداة خاصة لإدارة الترغيب. كان من الواضح أن أسطول السيارات الداخلية يجب أن يتحول إلى السيارات الكهربائية، لكن كان من الضروري بالنسبة إلى الشركة المصنعة للسيارات أن تتجنب تعريض موظفيها لفرض السلطة بطريقة غير مبررة. لذا حرص أسلوب شركة بورش المبتكر على تحفيز الموظفين بالكامل، على مستويي الوعي واللاوعي، في عملية صناعة القرار الخاصة باختيار سياراتهم الجديدة. وبذلك تحقق شركة بورش المواءمة بين الأهداف الاستراتيجية الشاملة والخيارات الفردية.
سعت الشركة في أول اختبار ميداني لها إلى إنشاء نموذج اختياري يفضل خيارات السيارات الكهربائية والسيارة الكهربائية الهجينة للطلب الفردي لسيارات الشركة والسيارات المستأجرة. خلال مرحلة الاختبار، تلقى المئات من الموظفين 3 أطر مختلفة للرسائل، حيث اختارتهم الشركة عشوائياً دون الكشف عن هوياتهم بحيث يكونون من المؤهلين للحصول على سيارة من أسطول سيارات الشركة، وكان معظمهم يمثل مجموعة ضبط. راقبت الشركة من كثب مجموعة الضبط المؤلفة من 147 موظفاً قدموا طلباتهم خلال الإطار الزمني للتجربة.
سعى الإطار العاطفي الأول إلى إثارة رد فعل عاطفي من خلال ربط استخدام السيارات الكهربائية بالعلامة التجارية لبورشه. استخدمت الشركة شعار: "قلب كهربائي مع روح بورش". ودعا الإطار المعياري الثاني الموظفين إلى الإسهام في استراتيجية الشركة و"أن يكونوا سفراء لمستقبل بورشه المستدام". ركز إطار المكاسب الثالث على المزايا المالية، إذ قدّم معلومات عن توفير التكاليف المرتبطة بالسيارات الكهربائية والسيارات الكهربائية الهجينة: "استبدل الكهرباء بالبنزين وخفض تكاليف التشغيل الشهرية بمقدار 100 يورو". (نظفت الشركة إحصائياً بيانات المدراء الذين تغطي نفقات سياراتهم بالكامل بالنسبة لإطار المكاسب وتأثيره).
قُدمت الأطر الثلاثة من خلال قناتين، الأولى إرسال بريد إلكتروني لتذكير الموظفين بأن موعد طلب سيارة الشركة أو السيارة المستأجرة الجديدة قد حان. أما الثانية فتقديم الرسالة المؤطرة من خلال إشعار منبثق عند تسجيل الدخول إلى أداة إعدادات سيارات الموظفين، وهي ضرورية لتقديم الطلب. في كلتا القناتين، جرى تسهيل الأطر الثلاثة برسومات جذابة بصرياً لنقل الرسالة المطلوبة. ثم أُجريت تقييمات شاملة لتأثيرات هذه الرسائل المختلفة على نوع السيارات المطلوبة في النهاية وقورنت بنوع السيارات التي طلبتها مجموعة الضبط.
النتائج
أشارت النتائج إلى أن تأطير الرسائل يمكن أن يكون أداة قوية لدفع الموظفين تدريجياً من ثقافة "عشاق السيارات التي تعمل بالبنزين" نحو ثقافة استخدام السيارات الكهربائية. وبصفة عامة، أظهر البريد الإلكتروني فعالية أكبر بكثير من فعالية الإشعارات المنبثقة في أداة الإعدادات. بالنسبة للأطر الثلاثة، كان احتمال اختيار سيارة كهربائية أو سيارة كهربائية هجينّة أكبر إذا اكتمل طلب السيارة بعد وقت قصير من تلقي البريد الإلكتروني التأطيري. بعد أسبوعين تلاشى التأثير، وعلى وجه الخصوص بالنسبة إلى الإطار العاطفي، في حين ظل تأثير إطار المكاسب مستقراً بغض النظر عن المدة بين تلقي البريد الإلكتروني وتقديم الطلب. ويعكس "تاريخ انتهاء صلاحية" الإطار العاطفي الطبيعة السريعة والفطرية المتوقعة لـ "القرارات السريعة" المذكورة أعلاه، في حين أن طول عمر الإطارين الثاني والثالث يتماشى مع تأثيرهما المتوقع على "التفكير المتأني" الذي يستند إليه اتخاذ القرار العقلاني. لذا فإن توقيت الرسائل مهم!
كانت نتائج الاختبار الميداني واعدة جداً لدرجة أن هذه الطريقة تبدو قابلة للتطبيق على نطاق واسع. وبالتالي، تُعد حالة شركة بورشه دليلاً فريداً على فعالية الترغيب في تعزيز الخيارات الأكثر استدامة، حتى بالنسبة إلى ثقافة "عشاق السيارات التي تعمل بالبنزين" في شركة تصنيع سيارات رياضية تكون فيها الخيارات الأقل استدامة جذابة ومتعددة. عندما يُصمم الترغيب بما يتناسب مع السياق المؤسسي المطلوب، وعندما تُنسق أنماطه وتوقيت تطبيقه بطريقة ذكية، سيصبح طريقة فعالة وغير متسلطة لبناء سلوك أكثر استدامة لدى الموظفين، وسيطور ثقافة الشركة برمتها مع مرور الوقت.