يكثر الحديث حول التحيز الجنسي والتحيز العنصري والتحيز الثقافي في العمل. ويتمتع كل نوع من أنواع التحيز هذه بالأهمية لعدة أسباب. ولكن، ربما كان أهم أنواع التحيز التي نواجهها وأكثرها إشكالية هو تحيز العمر. فنحن غالباً ما نقيّم الموظفين بناء على أعمارهم. واليوم، يشكل هذا الأمر تحدياً كبيراً في مكان العمل على نحو متزايد.
منذ عدة سنوات، ومن خلال بحثنا الذي أجريناه لصالح شركة "ديلويت" (Deloitte) طرحنا على قرابة 10,000 شركة سؤالاً يقول: "هل يعتبر العمر في مؤسستكم ميزة تنافسية أم نقطة ضعف تنافسية؟". وعلى الأرجح، لن تكون الإجابة مفاجئة. إذ اعتبر أكثر من ثلثي الشركات أن العمر الأكبر هو نقطة ضعف تنافسية. وتتوافق هذه الإجابة مع بيانات رابطة المتقاعدين الأميركية التي تبين أن ثلثي الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 45 و74 عانوا من تمييز مرتبط بالعمر.
بعبارة أخرى، إذا كنت أكبر سناً، فعلى الأرجح أنك ستعتبر ذو إمكانات أقل أو ذو قدرة أضعف على التأقلم أو أنك لست راغباً بالمشاركة بأي شيء جديد كما يرغب نظرائك الأصغر عمراً.
هناك الكثير من المؤلفات الحديثة عن هذا الموضوع لأن القوة العاملة تشيخ بوتيرة سريعة. فمن المحتمل أن تفوق أعداد الموظفين الذين تزيد أعمارهم عن 60 عاماً أعداد الأطفال بعمر الخامسة في العام المقبل. وفي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، نتوقع أن تتجاوز أعمار 25% من الموظفين 55 عاماً بحلول عام 2020. وفي الحقيقة، فإن مجموعة الموظفين هذه هي الأسرع في نموها في جميع الدول تقريباً. وفي الولايات المتحدة، أصبحت أعداد شواغر العمل أكبر من أعداد المتقدمين للوظائف منذ عام 2018. وأحد أهم أسباب ذلك هو عدم قدرة جيل الألفية (مواليد ثمانينات القرن الماضي) على ملء الشواغر التي يخلفها التقاعد المتسارع لجيل الطفرة (مواليد ما بين عامي 1946 و1964).
لماذا يحدث ذلك؟
إننا نواجه تيارين ديموغرافيين واضحين، الأول هو أننا نعيش عمراً أطول، وهو أمر يجب الاحتفال به. إذ يزداد طول العمر الوسطي للبشر نحو ثلاثة أشهر كل عام، وفي الولايات المتحدة، كان طول العمر المتوقع يبلغ 47 عاماً في بداية القرن العشرين، أما اليوم فقد أصبح 79 عاماً، ويجب أن يصل إلى 100 عام بحلول نهاية القرن.
والثاني هو أن الشباب اليوم ينجبون عدداً أقل من الأطفال، كما أن معدلات الخصوبة في العالم الصناعي آخذة بالانخفاض. وفي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا واليابان وغيرها من الدول، يتراوح معدل الولادات بين 1.7 و1.9 طفل، وهو أقل بكثير من المطلوب لملء الشواغر. وهذا يعني أن الطريقة الوحيدة لنمو هذه الأنظمة الاقتصادية هي من خلال إجراء تحسينات على الإنتاجية (وهي أمر لا يتحقق) أو الهجرة (وهي قضية سياسية يحملها معظم المرشحون الشعبيون والقوميون في قلوبهم).
ما هو الحل؟
نعتقد أنه يجب على الشركات إعادة كبار السن إلى العمل ومنحهم وظائف هامة وهادفة. تقول الخرافة التي اختلقتها صناعة التقاعد إنه ينبغي على الموظفين الذين تجاوزوا 65 عاماً أن يتقاعدوا، وعلى الرغم من مليارات الدولارات التي أنفقت على إقناعنا أنه يجب علينا أن نمضي سنواتنا الذهبية في السفر وممارسة رياضة الغولف والاستجمام، إلا أن الأبحاث تبين فعلاً أن الموظفين الذين يتوقفون عن العمل ويتقاعدون غالباً ما يعانون من الاكتئاب والنوبات القلبية وحالة من الضيق العام بسبب عدم وجود هدف في حياتهم بعد ترك العمل.
يحب كثير من الموظفين العمل فعلاً، وخصوصاً من تمتع منهم بمسيرة مهنية طويلة ومجدية. قال ستيفن هوكينغ في كلماته الحكيمة: "يمنحك العمل معنى وهدفاً، والحياة تصبح فراغاً من دونه". فالعمل يمثل فرصة لمنح القيمة لللآخرين وللمجتمع، ويمنحك شبكة أصدقاء وشركاء لتمضي أوقاتك معهم، ويمنحك ما تستثمر فيه طاقتك الفكرية والجسدية. لماذا سنرغب بمغادرة عملنا الذي نحبه؟
لا يزال عدد لا يحصى من الموظفين في الستينات والسبعينات من أعمارهم يعملون بنشاط في وظائفهم ويحرصون على تجنب التقاعد. خذ مثلاً وارن بافيت الذي يبلغ 89 عاماً، فهو لا يزال يعتبر أحد ألمع الأدمغة في عالم التمويل، وكذلك الأمر بالنسبة لمساعده الأول، تشارلي مونغر، الذي يبلغ من العمر 95 عاماً. ومادونا التي تبلغ من العمر 61 عاماً، وهي لا تزال ملكة موسيقى البوب دون منازع. وجين فوندا ذات 81 عاماً، إذ تتمتع بإنتاج أغزر من أي وقت مضى كممثلة وناشطة. أضف إلى ذلك أن أهم وظيفة في الولايات المتحدة تُمنح لأشخاص قد يُعتبرون عموماً "أكبر" من أن يتمكنوا من الإنتاج في معظم المكاتب، وقد أنهى اثنان فقط من رؤساء الجمهورية فترة حكمهما قبل بلوغ 50 عاماً (أحدهما هو جون كينيدي). أما البقية الذين يبلغ عددهم 43 رئيساً، فقد كانوا يبلغون من العمر 50 عاماً أو أكثر، و22 منهم كانوا يبلغون 60 عاماً أو أكثر.
ويشير كل ذلك إلى أن العمر يتوافق فعلاً مع الحكمة في مكان العمل، وتثبت البحاث ذلك. وخلاف المعتقد السائد، فالموظف الأكبر عمراً والذي يعمل لفترة أطول هو رائد أعمال أكثر نجاحاً. ويتمتع من يتجاوز 40 عاماً من العمر باحتمالات أكبر لإنشاء شركات ناجحة نتيجة لصبره وطبيعته التعاونية وعدم وجود "الحاجة لإثبات الذات" التي ترافق الشباب.
ما الذي يمكن أن تجنيه الشركات من الموظفين الأكبر سناً؟
لقد صممت أنظمة الوظائف والأجور والتوظيف والتقييم لدينا ضد تعيين الموظفين الأكبر سناً. وتعتقد شركات كثيرة أن الموظفين الأكبر سناً يتلقون أجوراً أعلى مما يجب ويمكن استبدالهم بموظفين أصغر سناً يستطيعون القيام بالعمل ذاته على نحو جيد. ويصرح كثير من القادة مثل مارك زوكربيرغ وغيره أن "الموظفين الأصغر عمراً يتمتعون بذكاء أكبر". كما يقوم قطاع النشر والإعلام كاملاً بتمجيد الشباب.
بينما تثبت الأدلة العلمية ما يخالف ذلك. فبالنسبة لمعظم الموظفين، تنخفض القوة العقلية الخام بعد عمر 30 عاماً، لكن المعرفة والخبرة اللتان تعتبران المؤشرين الرئيسيين للأداء الوظيفي، تستمران في الزيادة حتى بعد عمر 80 عاماً. كما أن هناك أدلة كافية تدفعنا لافتراض أن سمات كالدافع والفضول هي محفزات لاكتساب مهارات جديدة، حتى في عمر متقدم. ليس هناك حدود للعمر فيما يتعلق بتعلم أمور جديدة، وكلما ازداد عدد الموظفين ذوي النشاط الفكري الذين يستمرون بالعمل مع تقدمهم بالعمر، ازدادت مساهمتهم في سوق العمل.
كما أن هناك قضية التنوع المعرفي إلى جانب القيمة والكفاءة اللتان تكتسبهما القوة العاملة من الموظفين كبار السن. إذ لم ينجز الأفراد الذين يعملون بمفردهم إلا قليلاً من الأمور القيّمة، والأغلبية العظمى من إنجازاتنا، سواء في العلم أو الأعمال أو الفنون أو الرياضة، ما هي إلا نتيجة تنسيق الأنشطة الإنسانية أو عمل عدة أشخاص معاً كوحدة متماسكة. وأفضل طريقة لمضاعفة نتائج الفريق إلى أقصاها هي زيادة التنوع المعرفي، الذي تزداد احتمالات تحققه إذا تمكنت من جمع أشخاص من أعمار (وخبرات) مختلفة للعمل معاً.
ما الخطوات التي يمكن أن تتخذها الشركات؟
من أجل التغلب الحقيقي على التمييز ضد العمر والأضرار التي يتسبب بها على نظامنا الاقتصادي العالمي، يجب على الشركات اتخاذ بعض الخطوات. وفيما يلي مجموعة من الاقتراحات:
- امنح الموظفين الأكبر عمراً مناصباً وأدواراً تسمح لهم بالمساهمة بخبراتهم. يمكنك القيام بذلك من دون تقديم أجور أعلى (كي تتفادى الحاجة لاستبدالهم بموظفين أصغر "بأجور أقل").
- قدم لهم ترتيبات تساعد على مرونة العمل. وهذا يتضمن محطات عمل يمكن الوصول إليها بسهولة أكبر مع المزيد من الضوء وخطوط أكبر والأشياء الأخرى التي يمكن أن تساعد على تلبية احتياجات الموظفين من جميع الأعمار.
- فكر بالمساواة في الأجر بحسب الوظيفة والمستوى، وليس بحسب فترة الخدمة. ليست فترة الخدمة مقياساً جيداً للأجور، إلا إذا كانت تترجم بصورة مباشرة إلى خبرة ومهارات تحفز تحقيق القيمة للشركة. ولا ضير في أن يجني الموظف الأكبر عمراً أجراً أقل من الموظف الشاب إذا كان جديداً في الوظيفة. في الحقيقة، هذا هو العدل.
- أدخل التنوع في الأعمار ضمن برامجك المفضلة للتنوع والشمول والمساواة. وقد أظهرت إحدى الدراسات التي أجريناها في شركة ديلويت أن الفرق التي تتميز بتنوع الأعمار تشعر بأنها تتمتع بالأمان النفسي والإبداع أكثر من الفرق المتحيزة للعمر. فالعمر يمنح الفرق شعوراً بالأمان والحكمة، لذلك يجب عليك استثماره لصالحك.
- امنح موظفيك الأكبر سناً أدواراً إدارية وإشرافية وإرشادية. فهذه المناصب ستتيح لهم الاستفادة من سنوات خبراتهم أو فترات خدمتهم الطويلة. يمكن للجميع الوصول إلى مستوى "مبدأ بيتر" في نهاية المطاف، ولكن ذلك لا يعني أنهم لن يتمكنوا من النمو من دون الصعود على الهرم.
- عين موظفين أكبر سناً. ادعهم للعودة من تقاعدهم إلى العمل، وأخبرهم قصصاً عن نجاح الموظفين كبار السن في شركتك. تقوم شركات كثيرة، مثل "بوينغ" و"بنك أوف أميركا" و"وولغرينز" و"جنرال موتورز" وغيرها بدعوة الموظفين الأكبر سناً للعودة إليها، وذلك من خلال برامج محددة مصممة خصيصاً لللموظفين الذين يتقدمون بالسن، يطلق عليها اسم برامج "العودة".
- درب مسؤولي التوظيف لديك وعلمهم على عدم التحيز ضد كبار السن. وهذا يشمل معالجة التحيزات الضمنية التي تعتبر ممارسات غير قانونية. وإذا اكتشف الموظفون الأكبر سناً أنهم يستبعدون دون أي سبب محدد، فيمكنهم مقاضاة شركتك، وسيفعلون ذلك بالتأكيد.
- علم القادة الأصغر سناً الإرشاد العكسي. علمهم طريقة مساعدة الموظفين الأكبر سناً وكيفية إدارة كبار السن الذين ينحازون ضد أنفسهم.
مع تقدم النظام الاقتصادي العالمي في السن، سيصبح التحيز ضد العمر قضية تتمتع بأهمية أكبر من أي وقت مضى، أضف مصطلحي "طول العمر" و"العمر" إلى استراتيجيات الرفاهية وبرامج التنوع والشمول والمساواة وأنظمة التوظيف لديك، وتذكر أن كثيراً من الموظفين بغض النظر عن أعمارهم لا يملكون المال الكافي للتقاعد (حتى لو كانوا راغبين به). في الولايات المتحدة، يكلف التقاعد بعمر 65 مليون دولاراً، ومع ذلك، 21% من الأميركيين لا يملكون مدخرات، و10% منهم يملكون مدخرات أقل من 5,000 دولار. والمغزى من كل ذلك هو أن الجميع من كل الأعمار يملكون حافزاً للعمل. وإذا تمكنت من إنشاء خبرة عمل أكثر شمولية وإنصافاً وجدوى للموظفين الأكبر سناً والشباب، ستجد أن شركتك تصبح أكثر إبداعاً وانسجاماً وتجني ربحاً أكبر مع مرور الوقت، وستجد أنك تحقق الفائدة للمجتمع على نطاق واسع.