ملخص: يشيع انتشار الأمراض المزمنة بصورة لافتة، وقد أسهم تفشي جائحة "كوفيد-19" في إعادة فتح هذا الملف بقوة في مكان العمل. وقد تجد صعوبة في الرد بالطريقة المناسبة على موظف مصاب بمرض مزمن، فهي مسألة عاطفية في المقام الأول وقد تعجز عن الإلمام التام بحقيقتها بسبب افتراضاتك الشخصية. لكن هناك 3 خطوات يمكن للمدراء اتخاذها لضمان دعم الموظفين المصابين بأمراض مزمنة وضمان قدرتهم على التعامل مع هذه المحادثات بالقدر الواجب من التعاطف والثقة بالنفس. أولاً: أخرج مشاعرك من المعادلة. ثانياً: راجع آراءك حول ما يمكن اعتباره عملاً رائعاً. ثالثاً: تعامل مع المسألة من منطلق حب الاستطلاع وأجر أبحاثك الخاصة. وقد تقدم تجارب الموظفين المصابين بأمراض مزمنة دروساً قيمة لكافة الموظفين بمختلف شرائحهم وتنوعاتهم.
بات الحديث عن المرض في العمل أمراً شائعاً في ظل استمرار تفشي جائحة "كوفيد-19" في مختلف أنحاء العالم، خاصة وأننا لا نعرف إلا القليل من المعلومات حول آثارها على المدى البعيد حتى الآن. لكن ما يبعث على التفاؤل أن المناقشات المتعلقة بالصحة غدت مسألة معتادة يُنظَر إليها كشيء مألوف في العمل. يمثل هذا التغيير تحدياً جديداً للمدراء، ولكنه يمثل أيضاً فرصة حقيقية لتحسين كيفية دعم المؤسسات لكافة موظفيها واستيعابهم وإدماجهم وتمكينهم من أفضل سبل العمل.
من المرجح أنك تعمل مع شخص واحد على الأقل مصاب بمرض مزمن، أو أنك أنت شخصياً ستصاب في مرحلة ما بمرض كهذا. وقد وُجد في واقع الأمر أن أكثر من ثلث الأوروبيين الذين تبلغ أعمارهم 15 عاماً أو أكثر وما يقرب من 60% من الأميركيين البالغين مصابون بمرض مزمن واحد على الأقل. وقد يستمر المرض المزمن في جسم الإنسان لعدة أشهر أو لا يخرج منه مدى الحياة، وقد يتخذ عدة أشكال، كالتهاب المفاصل وآلام العضلات والعظام وداء السكري والربو والصداع النصفي واضطرابات الدم والسرطان وأمراض القلب ومتلازمة القولون العصبي وأمراض المناعة الذاتية، إضافة إلى الأمراض العقلية مثل الاكتئاب والقلق المُوهِن. ويتسبب الاكتئاب أو القلق سنوياً فيما يصل إلى 50% من الإجازات المرضية المزمنة في أوروبا.
وعلى الرغم من انتشارها بهذه الصورة الفجة، فإن القادة يبدون إلى حدٍّ كبير غير مستعدين لدعم الموظفين المصابين بأمراض مزمنة. فقد كشفت دراسة أُجريت على أكثر من 1,000 موظف في الولايات المتحدة أن 60% منهم يعتقدون أن قادتهم غير مستعدين لدعم الموظفين المصابين بحالة طبية خطيرة أو بمرض مزمن، وما يقرب من 90% قلقون بشأن قدراتهم الخاصة على تقديم الدعم. ويُعزى الجانب الأكبر من عدم الاستعداد لتقديم الدعم إلى غياب الوعي وانعدام الفهم والافتقار إلى الأدوات الفاعلة. وقد توصلنا بحكم خبرتنا في العمل مع أشخاص مصابين بأمراض مزمنة إلى بعض الاستراتيجيات التي تعين القادة على فهم الموظفين المصابين بأمراض مزمنة ودعمهم بشكل أفضل.
تجربة الإصابة بمرض مزمن في العمل
أولاً: قد يكون تشخيص الإصابة بمرض مزمن لحظة فارقة في حياة الإنسان على المستويات الفسيولوجية والنفسية والعاطفية. فعندما يلتصق به وصف جديد (وكريه في واقع الأمر)، فإن المصاب بمرض مزمن يواجه أسئلة، مثل: من أنا الآن بعد أن أصبت بهذا المرض؟ كيف ستتغير هويتي؟ كيف ستتغير حياتي أو مستقبلي أو مسيرتي المهنية؟ كيف سأتعامل مع الموقف من هذه اللحظة فصاعداً؟ قد تتسبب الأشهر أو السنوات الأولى من هذا الواقع الجديد على وجه الخصوص في إثارة إحساس هائل وساحق بالحزن لدى المصابين بأمراض مزمنة لفقدانهم حياتهم السابقة وسلب قدراتهم وإحساسهم بأنفسهم. يجب أن يتعلموا كيفية التعامل في ظل تعقيدات ظروفهم الجديدة، وقد يمرون بفترة حافلة بالتجربة والخطأ في أثناء محاولاتهم الحثيثة للتكيف مع الأوضاع المستجدة وتحديد أفضل الطرق لإدارة طاقتهم من أجل تحقيق أفضل النتائج. وقد يتطلب كل هذا تغييرات كبيرة في العادات القديمة والتوقعات الذاتية وطرق العمل المعتادة.
ثانياً: الأشخاص المصابون بمرض مزمن ليسوا كسالى أو غير أكفاء أو غير متحمسين، لكنهم يخشون أن تظن أنهم كذلك. قد يشعرون بالألم والمرارة بسبب وصمة العار المجتمعية والآراء السلبية لدى الآخرين حول طبيعة المرض، وقد يشعرون بالذنب الشديد لأنهم يشكلون عبئاً على الفريق أو لأنهم لا يتحملون نصيبهم "العادل" من عبء العمل أو لأنهم يطلبون "معاملة خاصة". هل سيعتبرهم الآخرون فجأة ضعفاء أو متذمّرين أو غير مؤهلين للترقيات أو للمناصب القيادية؟ هل يدرك الآخرون حقاً أنهم يظلون متفانين في عملهم على الرغم من عدم قدرتهم في بعض الأحيان على مجاراة طاقة الشخص العادي وإنتاجيته؟
ثالثاً: قد تكون إدارة الطاقة المتاحة للمصابين بمرض مزمن مسألة حياة أو موت. ويعد التعب الشديد والمنهك الناجم عن الإصابة بالمرض أحد أكثر الأعراض شيوعاً التي تؤثر على الأداء المهني للموظف. وسيكتشف الكثير من المصابين بأمراض مزمنة أن "نظرية الملعقة" لصحابها كريستين ميسيراندينو خير مثال لمعاناتهم. إذ تنص هذه النظرية على أن المصابين بأمراض مزمنة يمتلكون في بداية كل يوم عدداً محدوداً من ملاعق الطاقة. لكن المهمات المختلفة (مثل الاستحمام) تستهلك هذه الملاعق. ومع استخدام ملاعق الطاقة واحدة تلو الأخرى، تنفد كلها. وهذا لا يعني أنهم لا يريدون العمل، كل ما هنالك أنهم لا يستطيعون ممارسته، وإذا حاولوا، فقد يشكّل هذا خطراً كبيراً على صحتهم.
تقول سارة التي تعاني مرضاَ مناعياً ذاتياً ينذر بخطر داهم على حياتها تم تشخيصه بعد ما يقرب من 10 سنين من التحاقها بالعمل: "لقد تعرضت لمواقف اضطررت فيها إلى الضغط على نفسي أكثر من اللازم أو حضور اجتماعات مطوّلة، حتى إنني لم أجد لديّ القوة الكافية للعودة إلى المنزل أو إبلاغ الآخرين بما أريد على الأقل. فما كان مني إلا أن استلقيت على الأرض في غرفة مكتبي والباب مغلق حتى يأتي زوجي ويصطحبني. ياله من موقف مرعب ومحرج في الوقت نفسه. كل ما أتمناه ألا أرغم الجميع على إنهاء الاجتماع بسبب ظروفي الشخصية".
يتضح من تجربة سارة أنه من السهل تجاهل أو نسيان القيود المفروضة على زملاء العمل المصابين بأمراض مزمنة لأن مرضهم غالباً ما يكون غير ظاهر للآخرين، أي أنهم قد لا "يبدون مرضى". بالإضافة إلى ذلك، فإن المرء يصاب بالمرض المزمن على حين غرة، وقد تتغير آثاره ومظاهره بصورة يومية. وهذا يعني أن الزميل الذي كان حتى الأمس القريب شعلة من النشاط قد يُمسي غير قادر على العمل أو لا يستطيع العمل بالنشاط نفسه.
دعم الموظف المصاب بمرض مزمن
عندما تكتشف أن أحد الموظفين مصاب بمرض مزمن، فقد تجد صعوبة في معرفة ما يجب فعله في هذه الحالة، أو ما إذا كان عليك فعل شيء من الأساس. ما الذي يجب أن تعرفه؟ هل يجب طرح الموضوع للنقاش؟ كيف تضمن أن البيئة الثقافية التي أرسيتها في العمل قادرة على احتواء الفرد واحتضانه في كل أحواله ومهما كانت ظروفه؟
يعد المرض المزمن مسألة شخصية وخاصة إلى حدٍّ بعيد، وستجد أن البعض أكثر قابلية من غيرهم لمناقشتها والاعتراف بها صراحة. فاحرص على ألا تسأل الموظف بصورة مباشرة عما إذا كان "مريضاً"، ولكن شجّعه على مناقشة أنسب الأساليب التي يمكن أن تدعمه بها، وابذل قصارى جهدك لتمكينه من الاندماج في أجواء العمل على النحو الأمثل. وإليك بعض النصائح التي يمكن أن تساعدك على التعامل مع هذا الموضوع بمزيد من الثقة والتعاطف.
تحكم في استجابتك العاطفية
قد يؤدي علمك بمرض الموظف إلى إحساسك بمشاعر مزعجة. فقد تشعر بالحزن أو القلق أو الإحباط أو الشفقة أو الخوف، بل والعجز في بعض الأحيان. ولكن اعلم أن هذه هي مشاعرك الخاصة وأن الموظف ليس مسؤولاً عنها بحال من الأحوال. وكثيراً ما يحدث أن تشعر ببعض الحسد تجاه "الامتيازات" المتصورة التي تُقدَّم للشخص المصاب بمرض مزمن. وقد يكون الحسد علامة على أنك بحاجة إلى العناية بنفسك على نحو أفضل في العمل. فإذا كنت أنت (أو زملاؤك) تنظر بعين الحسد إلى شخص مصاب بمرض مزمن لأنه يأخذ استراحة غداء كاملة أو لأنه يعمل من المنزل أو يتمتع بميزة المرونة في تحديد مواعيد العمل أو الحصول على كرسي أفضل لمكتبه، ففكر فيما تحتاجه للاعتناء بطاقتك على أفضل نحو ممكن ولتحقيق التوازن، وفكر في مناقشة هذا الأمر مع مديرك.
راجع افتراضاتك حول الوضع "الطبيعي" وحاول تحديثها
راجع افتراضاتك في قدرات الموظف المصاب بمرض مزمن وتوقعاتك منه عند تحديد المهمات الموكلة إليه ومواعيدها النهائية. فافتراض أن موظفك يجب أن يكون قادراً، مثلاً، على أداء مهمة معينة بعد أن يبلغك بعجزه عن أدائها، أو تقديم النصيحة له حول أفضل سبل التعامل مع مرضه، هو علامة على أنك ربما لا تدرك حقيقة العراقيل التي يواجهها. ولتعزيز شعورك بالتعاطف معه وفهمك لأوضاعه، فكِّر جيداً في المعلومات التي يجب أن تعرفها وتقرأها وابحث عنها للتعرّف بدقة على التجارب الشبيهة لتجربته. راجع أيضاً المعتقدات أو القيم التي تتبناها والتي قد تتعارض مع سلوكياته أو طبيعة مرضه. فقد كانت هناك امرأة مصابة بمرض مزمن قالت لها زميلتها ذات مرة: "لا أؤمن في الحقيقة بأن الإنسان قد يصاب بالمرض، وأرى أن المرض مسألة ذهنية لا أكثر". ومن هنا كان العمل مع زملاء مصابين بأمراض مزمنة فرصة لك للنضج والتطور كقائد شامل.
من المهم أيضاً أن تراجع افتراضات فريقك أو مؤسستك حول ما يمكن اعتباره "عملاً رائعاً". فنحن نعيش في مجتمع يُجّل ثقافة العمل الإضافي ويحتفي بها، ويشجع الموظف على أن يضغط على نفسه إلى أقصى الحدود الممكنة، ولكن هذا كله ليس مستحيلاً فحسب على المصابين بأمراض مزمنة، بل ويشكل خطراً داهماً قد يودي بحياتهم. واسأل نفسك من موقعك كقائد: ما القيم التي تشجّعها، ومَن الأشخاص الذين تحتفي بهم في العمل؟ هل تجد أنك تعتز بالأشخاص الذين يردون على رسائل البريد الإلكتروني في منتصف الليل أو يسهرون في العمل طوال الليل أو يتفاخرون بعملهم لمدة 70 ساعة في الأسبوع وكأنه وسام شرف على صدورهم؟ وكيف تحتفي بإسهام كل الموظفين؟
اطرح الأسئلة وأقْبِل على التعلم والتأقلم مع المستجدات بصدر رحب
فمن المهم أن تحرص على الإحاطة علماً بطبيعة الأمراض المزمنة حتى تتمكن من إرساء بيئة تلبي احتياجات كافة موظفيها الذين تعتز بهم مهما كانت ظروفهم. يمكنك تحقيق هذه الغاية من خلال إجراء بعض الأبحاث الأولية حول الأمراض المزمنة في البداية والتواصل مع مسؤولي قسم الموارد البشرية للتعرف على الخدمات المتاحة للمدراء والموظفين في هذا الخصوص، ثم إجراء محادثة ثنائية. والأهم من ذلك ألا تتحدث عن المرض في اجتماعات الفريق أو اللقاءات العامة ما لم يدعُك الشخص المصاب بالمرض إلى فتح باب النقاش في هذا الموضوع.
وإذا لم تكن متأكداً من كيفية البدء، فيمكنك أن تسأل موظفك عن رأيه الشخصي فيما يجب أن تعرفه عن مرضه. ما الترتيبات التي يجب اتخاذها؟ ما الذي عرفه عن طبيعة شخصيته، وكيف كانت قدرته على التعامل مع مرضه؟ فقد تؤدي التغييرات الصغيرة جداً في بعض الأحيان إلى إحداث فارق كبير بدنياً ونفسياً. وهكذا ستستفيد الشركة كلها من بعض الخبرات التي اكتسبها من الموقف الصعب الذي مرّ به. وسيتعامل كل شخص مع مرضه بشكل مختلف لتقليل تأثيره على عمله.
وإذا كنتما تعملان معاً بشكل وثيق، فبمقدورك أن تسأله أيضاً عما إذا كان يرغب في إفساح المجال لمناقشة مرضه بشكل منتظم، حيث تتغير طبيعة المرض يوماً بعد يوم ومن عام إلى آخر لدى معظم المرضى. وقد ثبت أنه لا بأس بمراعاة حدودهم والقيود التي تكبلهم والتكيف مع احتياجاتهم بمرور الوقت، وذلك من خلال إرساء أسس الثقة المتبادلة والتكلم بلغة مشتركة حول سبل التعامل مع المرض بطرق بنّاءة في مكان العمل.
وأخيراً، هناك فرص قد لا يدركها القادة ومؤسساتهم في التعاطي مع الموظفين المصابين بأمراض مزمنة واستيعابهم. إذ تعتبر الصحة والعافية وإدارة الطاقة حاجات مهمة لكافة الموظفين، وإن كانت لا تلقى العناية الكافية. وغالباً ما يصبح المصابون بأمراض مزمنة على درجة كبيرة من الوعي الذاتي والقدرة على إدارة الطاقة، ولكي يواصلوا بذل قصارى جهدهم، فعليهم أن يعرفوا احتياجات رفاهتهم ويدافعوا عنها. وتمثل عصارة خبراتهم المكتسبة في مثل هذه المواقف دروساً قيمة لزملائهم "المعافين" وأولئك الذين قد يصابون بمرض مزمن في المستقبل.