ما الذي يجعل أفكار بيتر دراكر صالحة حتى يومنا هذا؟

3 دقيقة
مسيرة بيتر دراكر المهنية
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

في زمن تتسارع فيه وتيرة التغيرات التكنولوجية والاجتماعية، ومع ظهور المصطلحات الإدارية الجديدة بمعدل أسرع من نمو الشركات الناشئة المزعزعة التي تصوغها، تقدم لنا مسيرة بيتر دراكر المهنية دروساً قيّمة ومفيدة لا تقل أهمية عن كتاباته. لماذا تحافظ أعماله على قيمتها وحيويتها حتى اليوم؟ كيف تجنّب الكتابة عن التوجهات العابرة وركوب الموجات السائدة؟

أحد الأسباب هو أن دراكر كان مواطناً عالمياً، إذ عاش في النمسا وألمانيا وإنجلترا وأخيراً في الولايات المتحدة. كانت الطبقة الوسطى العليا في مدينة فيينا في بداية القرن الماضي تولي اهتماماً خاصاً بالتعليم والثقافة والفن والموسيقى والوعي التاريخي والتحضر والانفتاح على العالم، وتعلم دراكر من مجموعة مذهلة من معاصريه؛ يذكر في مذكراته، “مغامرات متفرّج” (Adventures of a Bystander)، مجموعة من الأشخاص البارزين الذين عرفهم مثل عالم الفيزياء، باكمنستر فولر، وعالم الاتصالات الذي صاغ مصطلح “القرية العالمية” (global village)، مارشال ماكلوهان. كان دراكر يعيش بالفعل في مثل هذه القرية، ومن المؤكد أن هذه “المواطنة العالمية” وانفتاحه على الثقافات المختلفة ساعداه على تطوير بعض أهم أفكاره المميزة التي اشتُهر بها.

لكن لم تكن هذه سوى بداية لمسيرته المهنية الحافلة بالإنجازات. يمكننا أيضاً أن ننظر إلى بيتر دراكر بوصفه مسافراً عبر الزمن، ليس فقط لأنه كان يمتلك معرفة موسوعية شاملة للحقائق التاريخية، بل لأنه يستطيع وضع الأحداث المعاصرة في سياق تاريخي واستنتاج التطورات المستقبلية. فسّر دراكر المستقبل بطريقة فريدة، ليس فقط بفضل انفتاحه على العالم، بل أيضاً بسبب فهمه العميق للتاريخ.

سألت ذات مرة البروفيسور دراكر، ما زلت أسميه كذلك حتى اليوم، عمّا إذا كان يرى نفسه مؤرخاً أو مفكراً إدارياً، أجاب دون تردد: “أنا مؤرخ، بدرجة أكبر”. بالطبع، لا يمكن تفسير كفاءة دراكر التاريخية بالطرق النمطية، فالتاريخ لا يعيد نفسه ولا يخضع لقوانين ثابتة كما يفترض المفكرون الآخرون مثل كارل ماركس أو أوسفالد شبينغلر. على الرغم من ذلك، يمكن القول إن الإنسان لم يتغير كثيراً على مدى التاريخ المُسجل، لذلك فإننا نكتسب رؤية قيّمة عندما نفسر التطورات الحالية والمستقبلية في ضوء المقارنات التاريخية.

هذه هي تحديداً القوة العظيمة التي يتمتع بها بيتر دراكر، وهي في الوقت نفسه أبرز نقطة ضعف لدى مؤلفي أدبيات الإدارة الذين يمتلكون معرفة تاريخية عشوائية وسطحية، أو لا يمتلكون أي معرفة تاريخية على الإطلاق. امتلك دراكر أساساً تاريخياً أوسع بكثير مما يمتلكه مَن يدّعون أنهم متخصصون في تاريخ ريادة الأعمال ولكنهم لا يعلمون إلا القليل عنه.

يُعد كتاب دراكر، “تحديات الإدارة في القرن الحادي والعشرين” (Challenges for the 21st Century)، مثالاً على معرفته التاريخية الواسعة. أدت دراسته لتكنولوجيا المعلومات في ضوء تاريخ قطاع الطباعة إلى استنتاجات مثيرة للدهشة، فقد رأى أن المستفيدين الحقيقيين من ثورة تكنولوجيا المعلومات ليسوا مطوري البرمجيات أو الأجهزة الذين نراهم في الوقت الحاضر، بل الشركات التي تمتلك قدرة الوصول إلى المعرفة والمحتوى.

في إدارة الأعمال، من السهل أن يقع الفرد ضحية للكلمات الرنانة أو الاتجاهات السائدة عندما يفتقر إلى الفهم والوعي التاريخي، وعندئذ يزعم المؤلفون والمفكرون أنهم يقدمون أفكاراً جديدة، لكنهم في الحقيقة يعيدون تقديم الأفكار القديمة بطريقة مختلفة؛ يذكّرنا هذا بقول الفيلسوف جورج سانتايانا بأن التاريخ سيعيد نفسه بالنسبة لمن لا يرغبون في التعلم منه والاستفادة من دروسه.

نظراً إلى اختلاف فهم بيتر دراكر للتاريخ عن معظم المفكرين، فقد تفرّد بقدرته على استشراف المستقبل من خلال المعرفة التفصيلية والشاملة وربط الأفكار والمفاهيم بطريقة ذكية واستثنائية والاستعداد للغوص في الأفكار من أجل فهمها؛ وتتضمن إحدى قصصي المفضلة عنه هذه الجوانب جميعها.

منذ سنوات عديدة، سألته عن مدى اطّلاعه على كتاب “دليل الاستشراف وفن الحكمة الدنيوية” (The Oracle Manual and the Art of Worldly Wisdom) لليسوعي الإسباني بالتاسار غراسيان (1601-1658). كنت معجباً بالفيلسوف الشهير آرثر شوبنهاور، إذ تعلم اللغة الإسبانية فقط ليتمكن من قراءة هذا العمل بلغته الأصلية، لكن دراكر كان على دراية جيدة بغراسيان وأعماله وتفوق على شوبنهاور في هذا الصدد. كتب لي البروفيسور دراكر:

أهداني والدي هذا الكتاب منذ 72 عاماً عندما غادرت مدينة فيينا لأصبح متدرباً في مجال الأعمال في مدينة هامبورغ، وبعد بضعة أشهر عثرتُ على أعمال الفيلسوف الدانماركي سورين كيركيغارد، وأصبح هذان المفكران الأكثر تأثيراً وأهمية في حياتي. بسبب غراسيان، تعلمتُ اللغة الإسبانية لقراءة أعماله بلغتها الأصلية، بالإضافة إلى ذلك تعلمت اللغة الدانماركية لقراءة أعمال كيركيغارد بلغتها الأصلية.

بالإضافة إلى نظرة دراكر العالمية ومعرفته العميقة بالتاريخ، كان عقله يتميز بسمة أخرى لاحظت أن الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورغيس يتميز بها، وهي مهارة “الربط المزدوج” (bisociation)؛ لم يكتفِ بورغيس بقراءاته الشاملة والمتنوعة، بل امتلك أيضاً مهارة مذهلة في إنشاء صلات وروابط غير متوقعة وغير مألوفة بين المواضيع المختلفة. كان الأمر نفسه ينطبق على بيتر دراكر، إذ أجرى المقارنات ولاحظ أوجه التشابه والقواسم المشتركة بين التطورات التاريخية والحالية والمستقبلية، واستطاع إنشاء صلات فكرية واسعة بينها. يبدو أن أشخاصاً مثل دراكر وبورغيس يمتلكون ذاكرة موسوعية شاملة، لكن هذا وحده لم يكن كافياً؛ فالمهارة الحقيقية تكمن في القدرة على إجراء الربط المزدوج، يقول المؤلف المجري الذي عاصر دراكر، آرثر كوسلر، إن هذه القدرة هي المصدر الحقيقي للإبداع.

عندما علّمنا بيتر دراكر، استخدمَ التاريخ أداة تعليمية، ووضع أمامنا مرآة ما زالت تفتح آفاقاً جديدة وتساعدنا على فهم المستقبل على نحو أفضل.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .