4 دروس عن المرونة الإدارية من الحرب العالمية الثانية

3 دقائق

في أعقاب الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا الذي بدء يوم 24 فبراير/شباط المنصرم، اتضح جلياً أن أحد أهداف العملية العسكرية كان مدينة خاركوف (أو خاركيف باللغة الأوكرانية) ثاني أكبر المدن بعد العاصمة كييف، وتناولت وسائل الإعلام معارك طاحنة دار رحاها في سبيل الاستيلاء على المدينة الصناعية، لكن تاريخياً وفي أثناء الحرب العالمية الثانية تحديداً، شهدت المدينة نفسها العديد من المعارك الشهيرة نظراً للأهمية الاستراتيجية والاقتصادية التي كانت تتمتع بها أيام الاتحاد السوفيتي، وتبرز بوضوح "معركة خاركوف الثالثة" عام 1943 نظراً لسببين رئيسيين، الأول هو أنها تمثل آخر انتصار كبير للجيش الألماني في الحرب العالمية، والسبب الثاني هو المناورة الحربية التي مكنتهم من هذا الانتصار بقيادة أحد ألمع الاستراتيجيين العسكريين في التاريخ الجنرال "إريش فون مانشتاين"، وأصبحت مثالاً يُدرس باسم "الدفاع الحركي" (Mobile Defence) في الكليات الحربية.

خطة مانشتاين باختصار، هي التخلي عن الدفاع الجامد عن منطقة معينة، والاعتماد على الحركية الكبيرة للجيش للانسحاب ثم مباغتة العدو بهجوم معاكس يستهدف نقاط ضعفه، وهو ما نفذه بدقة عندما هاجم رؤوس حربة الجيش الأحمر في المكان والزمان اللذين لم يتوقعهما.

انتقل مصطلح "الدفاع الحركي" أو المرن، شأنه شأن الكثير من المصطلحات العسكرية الأخرى، لميدان الأعمال، واستُخدم في التسويق الاستراتيجي للتعبير عن إجراء تغييرات مستمرة في نموذج العمل بحيث يصعب على المنافسين مسايرته، ويمكن أن يشمل ذلك إدخال منتجات جديدة أو دخول أسواق جديدة أو ببساطة إجراء تغييرات على المنتجات الحالية. المجال الآخر الذي تُطبق فيه أُسس "الدفاع المرن" هو المرونة التنظيمية، ويُقصد بها مجموعة من العناصر تقوم عليها مهارة تتمتع بها بعض الشركات والمدراء دون غيرهم، حددتها الباحثة "جينيفر جوردان" في مقال منشور في هارفارد بزنس ريفيو بـ 4 عناصر، نوضحها فيما يلي مع إبراز أمثلة من معركة خاركيف وميدان الأعمال:

1. القوة الأساسية: هي ببساطة الكفاءة والميزة التي تعتمد عليها الشركة في التغلب على المنافسين. استغل مانشتاين قوته الأساسية المتمثلة في وحدات "البانزر" المدرعة، أي الدبابات الألمانية التي كانت تتفوق على نظيرتها السوفيتية من حيث قوة المدفع والسرعة، والتنسيق المحكم مع سلاح الجو الذي كان يوفر غطاء جوياً مركزاً في أماكن الهجوم؛ أما في ميدان الأعمال، فمن أبرز القادة الذين استغلوا القوة الأساسية لاكتساب المرونة هي "أنجلا أهريندتس"، الرئيسة التنفيذية السابقة لشركة بربري (Burberry)، ورئيسة إدارة البيع بالتجزئة في شركة آبل لاحقاً. أنقذت أهريندتس شركة "بربري" من الزوال من خلال الاستفادة من المنتج الذي مثّل روح تلك الشركة التي مضى على تأسيسها 150 عاماً، ألا وهو المعطف. تمكنت شركة بربري عبر إحياء قدرتها الأساسية بطريقة تراعي أذواق الجيل التالي وتوجهاته من إثبات نفسها مجدداً كعلامة تجارية مختصة بالأزياء عبر الإنترنت.

2. تغيير التركيز بسرعة: بمعنى المرونة في تحقيق الهدف المسطر دون الالتزام بطريقة واحدة في تحقيقه، وإنما تغييرها متى تطلب الأمر. العقيدة الدفاعية في الجيش الألماني قبل معركة خاركيف هي دفاع المنطقة الجامد، لكنّ مانشتاين بادر لتغييرها نظراً لظروف الميدان التي تفرض تفوق الجيش الأحمر في حال استخدام مثل هذه الخطة "الكلاسيكية" في الدفاع، واعتمد مكانها الدفاع الحركي المرن. من الأمثلة البارزة من ميدان الأعمال شركة "هيلتي" (Hilti) التي كانت قادرة على تغيير التركيز ومواكبة التوجهات المتغيرة، فهي شركة تشتهر بإنتاجها لأدوات البناء عالية الجودة، لكنها تحولت إلى شركة تبيع حلولاً كاملة لقطاع البناء، وأصبحت تقدم عقود الخدمة وتصنع الأدوات التي تُتيح مشاركة البيانات ونقلها إلى السحابة، وذلك لمواكبة الظروف الجديدة التي فرضها السوق، لا سيما تغيّر تفضيلات العملاء ودخول التكنولوجيا الحديثة مجال نشاطها.

3. رشاقة فائقة ضمن نطاق الحركة المحدد: يعني القدرة على تغيير طريقة تخصيص الموارد التي تؤدي إلى تحقيق هدف مسطر، وقد برع في ذلك مانشتاين، بل حقق ما يشبه المستحيل حينما نقل جيوشاً بأكملها في ظرف قصير جداً في سبيل إعادة التمركز على جانبيْ نقاط الضعف الخلفية للعدو، وتم ذلك في وقت وجيز جداً ما مثل تحدياً لوجيستياً عظيماً نجح فيه مانشتاين بالاعتماد على خطوط السكك الحديد والتظيم المحكم لسلاسل الإمداد. في مجال الأعمال، تشتهر شركة "آي بي إم" (IBM) بتلك القدرة، ففي مواجهة واقع الانخفاض السريع لمبيعات أجهزة الكمبيوتر، تمكنت شركة آي بي إم من الانتقال إلى قطاع الحوسبة السحابية من خلال التحول لتكنولوجيا "واتسون" (Watson) وعقد شراكات مع حلفاء مثل سامسونج وفيزا و"آتش آند آر بلوك" (H&R Block)، ما مكنّها من إعادة تخصيص مواردها للاختصاص الجديد وعدم هدر أي موارد مالية أو معرفية.

4. معرفة خطواتك وأهدافك: معنى ذلك رؤية بعيدة المدى ومعرفة الخطوات والأهداف التي تساعد في تحقيقها. مانشتاين كان يعلم ما الذي سيفعله بعد المعركة مباشرة، إذ اتجه لإعادة السيطرة على مدينة خاريكف، وخطط لاستخدام نفس التكتيك "الدفاع المرن" في قادم المعارك، لكن القيادة العليا في ألمانيا كان لها رأي آخر اتضح لاحقاً أنه خاطئ. في ميدان الأعمال، الأمثلة كثيرة نذكر منها بنك "دي بي إس" (DBS) السنغافوري الذي وضع رئيسه التنفيذي "بيوش غوبتا" هدفاً واضحاً تمثل في توسيع نشاط البنك ليشمل مناطق جنوب شرق آسيا والهند والصين ويكون بذلك جهة فاعلة في المنطقة وليس فقط سنغافورة. وضعت الإدارة العليا خطوات واضحة لتحقيق ذلك تمثلت في تحسين العمليات الداخلية وتعزيز خدمة العملاء من خلال تحقيق المواءمة في أنظمة البنك وتقييم أداء خدمة العملاء من خلال أكثر من 1,000 مقياس مختلف، بالإضافة إلى اختصار الوقت الذي يستغرقه الزبائن في انتظار الخدمات المختلفة بمقدار 10 ملايين ساعة. وحاز بنك "دي بي إس" جائزتي "مجلة يوروموني" (Euromoney Magazine) عن "أفضل بنك للعام على المستوى العالمي" و"أفضل بنك في العالم" لعام 2018، كما حصل على جائزة "أفضل بنك في العالم" لعام 2019.

نظراً للتشابه الموجود بين ميدانيْ الأعمال الربحية والأعمال العسكرية (المنافسة وتخصيص الموارد والخطط والتموين والتجسس وغير ذلك من أوجه التشابه)، فإنّ الكثير من أفكار الخطط الحربية تُستخدم في ميدان الأعمال بهدف التغلب على المنافسين (وليس القضاء عليهم).

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي