لدي أخبار سيئة للأشخاص الذين يدّعون بأنهم قادرون على إنجاز عدد من المهام في الوقت ذاته. فنتائج الأبحاث الصادرة حتى الآن لا تزال تكذّب الخرافة القائلة بأنك قادر على إنجاز أكثر من مهمة واحدة وبإنتاجية عالية في نفس الوقت. فالدماغ البشري وبكل بساطة لم يُخلق للعمل بهذه الطريقة. وبالتالي، فإن أي محاولة لتوزيع تركيزك وتشتيته على عدة أمور في نفس الوقت تزيد من مستوى التوتر وتقلل من الأداء.
لكن المؤسف في الأمر هو أن معظم المكاتب الحديثة لا تساعد الإنسان على التركيز. فهي مليئة بالقضايا المستعجلة والأشياء الجذابة التي تشتت الانتباه، مما يقلل من قدرتنا على تركيز انتباهنا بطريقة تساعدنا في تحقيق الجودة والتفاعل مع عملنا بمتعة في الوقت نفسه. وهناك الكثير من البراهين العلمية والأدلة المتزايدة على مدى هشاشة انتباهنا، فرنين الهاتف يؤذي إنتاجيتنا، ولكن حتى مجرد الاهتزاز البسيط في الهاتف يمكن أن يفرض ضريبة هائلة على قدرتنا الإدراكية. وإذا لم يكن كل ذلك كافياً ومقنعاً، فإن هناك المزيد من الدراسات والأبحاث التي تثبت بأن مجرد وجود الهاتف بقربنا يقوّض من قدرتنا على التركيز ويضعف من تواصلنا الشخصي مع الآخرين.
هذه العوامل التي تستمر في تشتيت انتباهنا تصبح أكثر غموضاً عندما لا ندرك الدور القوي لمحيطنا في تشكيل أفكارنا وأمزجتنا وخياراتنا. وأنا أطلق على هذه الحالة اسم "اللاوعي البيئي". هل تذكر آخر مرة قرأت فيها كتاباً على متن الطائرة؟ فبعدما غربت الشمس، وخفِّضت درجة الإنارة داخل الطائرة، بدأت تعاني أثناء محاولتك قراءة الكلمات على الصفحة. إن هذا التحول التدريجي في محيطك حصل خارج حدود وعيك دون أن يحفزك للجوء إلى الحل الواضح، ألا وهو أن تضيء المصباح الموجود فوق رأسك في الطائرة.
إن العوامل المشتتة للانتباه في أماكن العمل الحديثة تفعل مفعولها بنا بنفس الطريقة الغامضة. فعلى سبيل المثال، أصوات الإشعارات التي تخبرنا بوصول رسائل إلكترونية جديدة تولد لدينا شعوراً بالقلق والفضول. وهكذا، فإن الكثير من الناس يتخلّون عن مهمة أهم يعملون على إنجازها للتحقق من صندوق بريدهم الإلكتروني أو إلقاء نظرة على هواتفهم نتيجة لهذا الشعور الفضولي الذي يدغدغهم. ورغم أن الناس قد لا يستمتعون بهذا التشويش، غير أن قلة منهم فقط يتوقفون لبرهة ليفكّروا ويدركوا بأنهم قادرون على التحكم بهذا الأمر من خلال تحويل الهاتف إلى وضع "الصامت"، لا بل أفضل من ذلك حتى، كتم صوت الهاتف "وكذلك" إخفاؤه في المحفظة أو الدرج بحيث يكون بعيداً عن العين.
فمجرد أن تكزّ على أسنانك، وأن تحاول تجاهل هذه الأمور الملحة التي تقاطعك هو أمر غير مفيد. وفيما يلي 5 طرق تساعدك في التحكم بمحيطك ليتوقف هو عن التحكم بك.
راقب عواطفك. حاول أن تجرب هذه التجربة الصغيرة: خلال الدقائق العشر التالية اسمح لنفسك بأن تتعرّض للمقاطعة وتوقف واطرح على نفسك السؤال التالي: "كيف كان شعوري في اللحظة التي سبقت تبديلي بين المهمة التي أعمل عليها وانتقالي إلى مهمة أخرى؟" معظم المقاطعات التي نتعرض لها ناجمة عن استجابات إدمانية، أي هي عبارة عن تكتيكات سبق وتعلمناها لتحاشي المشاعر غير المريحة.
ففي تجربة صغيرة أجريتها أنا، طلبت من مجموعة من الطلاب الجامعيين تسجيل حالات المقاطعة التي تعرّضوا لها في سجل يومي، وقد اكتشفت أن أكثر من 90% من عمليات التبديل بين المهام التي أجروها جاءت استجابة لمشاعر القلق أو الملل أو الوحدة. إن إدراكك الأكبر للدوافع الكامنة وراء استجابتك للأشياء التي تقاطع عملك بشكل إدماني سيساعدك في وضع استراتيجيات أكثر صحية للتعامل مع مشاعرك – ولكي تقاوم تلك الرسالة الإلكترونية التي تصلك أو ذلك التنبيه الهاتفي الذي يرن بجانبك.
أنجز المهام السهلة وأزحها من دربك. إن حالة القلق اللاواعي المرتبطة بالمهام غير المنجزة يمكن أن تجعلك أيضاً عرضة للتشتت. وعوضاً عن ترك حالة القلق تلك تستولي عليك، ساعد نفسك في التركيز عن طريق التخلص من بعض المهام التي تسبب لك قلقاً كبيراً لكنها غير معقدة ويمكن إنجازها بسهولة بحيث يمكنك إزالتها من قائمة مهامك. فأي بند غير مُنجز وموجود على قائمة مهامك يسترعي انتباهك. والأمر الملفت كما يشير ديفيد آلان في كتابه "إنجاز المهام المطلوبة" (Getting Things Done)، هو أن المهام غير المعقدة تنهل من معين انتباهك قدراً كبيراً لا يتناسب مع حجمها الحقيقي.
فعلى سبيل المثال، "العثور على دواء لمرض السرطان" يجتذب انتباهاً أكثر من "تحديد موعد لتناول طعام العشاء مع المدير". لكن المهمة الثانية تأخذ من انتباهك حيزاً أكبر مما تستحق. لذلك، حاول تحرير طاقتك الذهنية من خلال التخلص من أي مهمة يحتاج إنجازها إلى أقل من دقيقتين لتنهيها قبل إيجاد علاج لمرض السرطان.
حدد لنفسك خلوة مقدسة لا يقاطعك فيها شيء. حاول أن تحدد مكاناً وزماناً خاصين بك يسمحان لك بالتركيز. حدد الأوقات التي تكون فيها أكثر إنتاجية خلال اليوم، ثم خصص فترات زمنية معينة للعمل المركز على القضايا المعقدة. ولا تحاول تحديد الوقت فحسب: بل حاول أن تقيم طقساً خاصاً بك لبناء مساحتك الخاصة تلك. أطفئ هواتفك، وكل التنبيهات الواردة، وحتى اقطع الاتصال مع شبكة الإنترنت، إذا كنت قادراً على ذلك. امنح نفسك واحة زمنية ومكانية ومن ثم استمتع بهذا الفضاء. في البداية، قد تشعر بآلام الانسحاب الشبيهة بآلام ترك التدخين. لكن لا بأس من أن تتحمل قليلاً.
انتباهك هو عبارة عن عضلة لذلك حاول أن تنمّيها. إن انتباه الإنسان شبيه بعضلاته، لذا فإن وجود جاذبية للعناصر المشتتة للانتباه هو دليل على وجود ضمور أو نقص في نمو هذه العضلات. ولكن كلما أصبحت عضلة الانتباه أقوى، طالت المدة الزمنية التي تستطيع خلالها التركيز على المهام المطلوبة. وثمة قصة يرويها كارل ساندبورغ في كتابه "أبراهام لينكولن" (Abraham Lincoln)، قد يكون من المفيد سردها هنا. فقد لاحظ أحد الأشخاص أن لينكولن كان جالساً على مصطبة غارقاً في أفكاره وهو يصارع قضية تشغل باله. بعد بضع ساعات، عاد ذلك الشخص ليمر بلينكولن مجدداً فرآه في المكان الوضعية نفسيهما. وفجأة اكتسا وجهه بالنور وأسرع عائداً إلى مكتبه. فقد كان لينكولن يمتلك القدرة على الجلوس للتفكير بمشكلة طوال الوقت الكافي الذي يحتاجه لاستكشاف تفاصيل تلك المشكلة وحلها. تحلّى بالصبر وأنت تراقب عضلة انتباهك تنمو. حاول حساب الوقت الذي يمكنك التركيز فيه. واسمح لنفسك بزيادة طول الجلسات المخصصة لهذه الخلوات مع الذات تدريجياً، بما يتماشى مع قدرتك.
بوسعك أيضاً تنمية تلك العضلة من خلال استغلال الوقت المخصص للانتقال بين المنزل والعمل، سواء كنت تقود سيارتك أو تركب في وسائط النقل العامة، حيث يمكنك خلال هذه الرحلة الجلوس بهدوء والسماح لعقلك بفرز الأفكار وعرضها عليك. اطفئ كل الأجهزة ودع ذهنك يسترخي ويتّبع أجندته الخاصة به لفترة ثابتة من الزمن. جرب الأمر لمدة 5 دقائق فقط إذا كان الأمر صعباً، ثم زد الوقت مع اكتشافك للإبداع الذي يسببه الصمت والقيمة العلاجية لهذا الصمت.
حاول أن تتمشى في الخارج وتحل المشكلة التي تشغل بالك. إذا كانت البيئة المحيطة بك في مكان العمل لا تساعدك على التخلص من الأشياء التي تشتت انتباهك، ضع خطة للمشي في الخارج، بحيث تخصص ذلك الوقت لمعالجة مشكلة مهمة ومثيرة للاهتمام أثناء رحلة المشي تلك. فتحريكك لجسدك يمكن أن يشكل عنصراً مكملاً لإبداعك الذهني. وعلى الأغلب فإنك ستواجه قدراً أقل من التشويش وتشتيت الانتباه أثناء حركتك.
ليس بوسعك أن تفرض رأيك على عالمنا المحيط بنا والمليء بالعناصر المشتتة للانتباه والذي يؤثر فينا جميعاً. ولكن في المقابل أمامك خياران: إما أن تتحكم في هذه الأشياء التي تشتت انتباهك، أو تدعها تتحكم فيك. إذا سمحت لها بالتحكم فيك، فإن هذه المُشتتات سوف تقوّض أداءك، وتزيد من حجم التوتر لديك، وتضعف من قدرتك على الانتباه.
ولكن ليس بالضرورة أن تسير الأمور على هذا النحو. فعندما تسيطر على الأشياء التي تسيطر عليك، سيكون بوسعك حصد المكاسب التي يوفرها لنا هذا العالم المرتبط بشبكة الإنترنت على الدوام دون الاضطرار إلى دفع ضريبة كبيرة غير مستحقة.