الشعور بقدر معين من التوتر يُعد أمراً طبيعياً وجزءاً من حياتنا اليومية. وفقاً للمعهد الوطني الأميركي للصحة العقلية (US National Institute of Mental Health)، "الشعور بالتوتر هو الكيفية التي يستجيب من خلالها الدماغ والجسم لأي طلب" والطلبات هي مؤثرات قد تحدث في المنزل أو في العمل أو أثناء الاستجمام. ولكن الأمر الذي لا يعد طبيعياً هو التوتر المتواصل الذي يعتبر غير ضروري ويشلّ قدرات الإنسان على الإنتاج والمحاكمة، وغالباً ما نشعر به في بيئة عملنا ويبدو واضحاً في تأثيره المباشر على الإنتاجية على وجه التحديد. غالباً ما نصاب بهذا النوع من التوتر عندما نتصرف بما يخالف غرائزنا الطبيعية أو عندما نتصرف بطريقة غير متوائمة مع الطريقة التي نتصرف بها عادة. وهذا يُسمى بـ "التوتر البنيوي" (conative stress). ولكن كيف يمكننا تحديد سبب الشعور بالتوتر غير الطبيعي، وما الذي يمكننا فعله لتجنبه؟
حدد علماء النفس والفلاسفة ثلاث وظائف يقوم بها العقل وهي: الإدراك والوجدان وبنية التفكير، ويمكن تقييم كل منها. وغالباً ما يستخدم أصحاب العمل تلك التقييمات أثناء عملية التعيين.
الوظيفة الإدراكية
تُعد التقييمات الإدراكية هي الأكثر استخداماً في البيئات التعليمية وفي مكان العمل. وكما هو الحال في المجال الأكاديمي، فإن الهدف منها هو تحديد ما إذا كان الموظف المحتمل يمتلك الخبرة والكفاءة الفنية لممارسة المهارات اللازمة للعمل. ويمكن لهذه التقييمات أيضاً أن تبرز قدرة الفرد على التعلم بشكل سريع. وهناك منصات عبر الإنترنت، مثل موقع "لينكد إن"، تساعد أصحاب العمل على تحديد أي من الموظفين المحتملين يمتلك المهارات الأكاديمية والتجريبية اللازمة. وهو الشكل الأكثر شيوعاً للتقييم عند محاولة التنبؤ بالأداء الوظيفي. ولكن من المهم الإشارة إلى أن المهارات المعرفية يمكن أن تتطور مع استفادة الفرد من تجاربه.
يمكن أن تساعد ألعاب حل المشكلات وألعاب الذاكرة وألعاب التركيز على تعزيز الكفاءة المعرفية، فيما يتجاوز حدود السياقات التربوية التقليدية. كما أن الدراسات أظهرت أن الحصول على قسط كاف من النوم وممارسة النشاط البدني بانتظام والتغذية السليمة وخفض مستويات التوتر، وجميعها مرتبطة بتحسين الوظائف المعرفية.
الوظيفة الوجدانية
الوظيفة الوجدانية هي نوع من التقييم الذي أصبح شائعاً في عملية التعيين. وهو يكشف عن جزء من نوع شخصية الفرد من خلال تقييم الأشياء المفضلة والقيم والمشاعر والدوافع. كما أن الوظيفة الوجدانية ليست ثابتة، حيث يمكن أن تتغير وفقاً للوقت، ووفقاً لدوافع الفرد في وقت تقييمه.
الوظيفة البنوية
الوظيفة البنيوية لا تهتم كثيراً بالأداء، بل تهتم بكيفية الأداء. وفي حين أنه ليس من الشائع استخدام التقييمات البنيوية في عملية التعيين، إلا إنها يمكن أن تكون مفيدة في اكتشاف السلوك الفطري للفرد لأنها تتعلق بحل المشكلات والقدرة على التصرف. كما أنها يمكن أن تكشف الكثير عن أسلوب عمل الفرد وكيفية تطبيق المهارات الإدراكية والوجدانية. ونتيجة لذلك يمكن أن تساعد في تحديد مستوى الإنتاجية والقدرة على الإنجاز بشكل مستمر.
اختبار "كولب" (Kolbe) هو اختبار الوظيفة البنيوية الأكثر استخداماً. يعمل الاختبار على تقييم مدى راحة الفرد وقدرته الفطرية واستجابته في أربعة جوانب تشمل: التوصل إلى حلول ملموسة، والتعامل مع التفاصيل (الاهتمام بالتفاصيل)، والتعامل مع النظام (الاهتمام بالجانب الإجرائي أو العملي)، والمبادرة والمخاطرة (الاهتمام بالجانب التجريبي). فبمعرفة أنماط السلوك والاستجابات الفطرية، يمكن لصاحب العمل المحتمل أن يحسِّن فرصته في تعيين المرشحين المناسبين.
اختبارات الشخصية وأدوات أخرى
ليس غريباً بالنسبة إلى أصحاب العمل أن يبحثوا عن المرشحين الذين يرتاحون لهم ويشعرون تجاههم بالألفة. وغالباً ما يكون هذا الشعور بالألفة نتيجة للتواصل مع هؤلاء الذين نشعر أنهم يفكرون مثلنا. ومن الأدوات الأخرى التي أصبح أصحاب العمل يعتمدون عليها: مؤشر مايرز بريغز (Myers-Briggs) واختبار ديسك (DiSC) واختبار الإنياغرام (The Enneagram) ومقياس كليفتون سترينث (CliftonStrengths) وغيرها، لتحديد أساليب التواصل والنزعات السلوكية والسمات المهمة الأخرى التي تتسق مع ثقافة الشركة وتفي بمتطلبات الوظيفة. يُعد مؤشر مايرز بريغز من الاختبارات النفسية الأكثر استخداماً التي تصنِّف الأشخاص إلى 16 شخصية بناء على تلك المقاييس: الانطواء أم الانفتاح، والحس أم الحدس، والتفكير أم الشعور، والصرامة أم المرونة. ويرمز اختبار ديسك (DiSC) إلى السيطرة (dominance) والتأثير (influence) والاجتهاد (conscientiousness) والثبات (steadiness). ويختلف كل متغير من تلك المتغيرات في القوة، والهدف من الاختبار هو المساعدة في تحديد أولويات الفرد المتعلقة بالعمل بناء على أين تكمن قوته. اختبار الإنياغرام يصنِّف الأفراد إلى 9 أنواع من الشخصيات ويبحث في الكيفية التي تواجه بها كل شخصية التحديات اليومية المتعلقة بها وبالآخرين. أما مقياس كليفتون سترينث (المعروف سابقاً باسم "سترينث فايندر" StrengthsFinder) فهو يساعد على تحديد مواطن القوة الطبيعية للفرد في جوانب: التفكير الاستراتيجي وبناء العلاقات والتأثير والتنفيذ. وكل موضوع من تلك الموضوعات ينقسم إلى موضوعات فرعية وتشكِّل في النهاية موضوعات مقياس كليفتون سترينث البالغ عددها 34.
ولكن يجدر الإشارة إلى أن موثوقية تلك الطرق أصبحت موضع شك، كما أنها أثارت انتقادات لأن إجابات المرشحين يمكن تغييرها لتناسب الموقف، بالإضافة إلى أن النزعات السلوكية عرضة للتغيير بمرور الوقت.
توجهات التعيين والتوتر البنيوي
من المعروف أن الشعور بالتوتر مكلف بالنسبة إلى القوة العاملة التي تُترَك لتتعامل مع المشكلات الصحية الناجمة عنه. لذا نحتاج إلى تهيئة ظروف تساعد على الحد من التوتر غير الضروري والحفاظ على الإنتاجية وإبقاء الموظفين مندمجين في العمل وسعداء. فلا يكفي أن يمتلك الموظف القدرة المعرفية (المهارات) وسلوكاً إيجابياً تجاه المهمة (الوظيفة الوجدانية) لأن يرتقي في أداء مهامه إلى مستوى التوقعات (الوظيفة البنيوية). من المهم للغاية التأكيد على أن:
المعرفة/المهارات + التحفيز/السلوك لا تفضي بالضرورة إلى إجراءات أو توجيهات مناسبة، كما أنها لا تؤدي دائماً إلى خفض مستوى التوتر بشكل مستمر أو إلى تحقيق الإنتاجية. بل يمكن أن تؤدي إلى الإصابة بالتوتر البنيوي.
أي أن النتيجة غير المتوقعة المترتبة على تعيين الشركات للموظفين الذين يفكرون مثلهم هي معضلة تتسبب بتفاقم التوتر البنيوي.
ينجم التوتر البنيوي عندما يُطلب من الفرد أن يعمل بطريقة تختلف عما اعتاد على فعله بشكل فطري أو غريزي، حيث يمكن أن يحدث أحياناً في مكان العمل عندما يركز أصحاب العمل بحسن نية على تحسين نقاط ضعف الموظفين بدلاً من تنمية نقاط قوتهم. ولكن قد يكون الاستثمار في تحسين مهارات الموظفين مكلفاً بقدر كلفة التوتر الناجم عن تشجيع الموظفين على العمل بطريقة تتعارض مع ميولهم وقدراتهم الطبيعية والغريزية، حيث يمكن أن يؤدي التوتر إلى عدم اندماج الموظفين في الشركة، وانخفاض معدل استبقاء الموظفين، وعدم الالتزام بالمواعيد النهائية، وغياب التواصل والتعاون المناسب، وتجاوز المشاريع الميزانية المخصصة لها، وغير ذلك. فهذا النوع من التوتر يَنتُج عن وضع توقعات خاطئة.
يمكن لأصحاب العمل الحد من التوتر البنيوي وتعزيز اندماج الموظفين وإنتاجيتهم من خلال تكوين قوة عمل أكثر اندماجاً. فبالتركيز على نقاط قوة الموظف والنزعات السلوكية الطبيعية، يمكن الحد من التوتر البنيوي، وبالتالي يمكن الحفاظ مستوى الإنتاجية أو تحسينه. كما يمكن تحسين عملية التعيين بتضمين عمليات لتقييم المهارات والسلوكيات والنزعة البنيوية لطبيعة الموظف.
إضافة إلى ذلك، يجب أن تركز عملية التعيين على بناء فرَق تكمل بعضها بعضاً في جميع الجوانب، وفي الوظيفة المعرفية التي تركز على المهارات، وفي الوظيفة الوجدانية التي تركز على التحفيز، وفي الوظيفة البنيوية التي تتعلق بالسلوك. وبهذه الطريقة يمكن أن يزداد اندماج الموظفين وينخفض شعورهم بالتوتر. ومن خلال تحديد نقاط قوة الفريق، يمكن للشركة تعيين موظفين جدد لسد الثغرات التي تلبي احتياجات العمل. والأهم من ذلك، أن هذا يمكن أن يزيد من فرص تعيين مرشحين قادرين على الأداء والإنجاز باستمرار.