أولت المملكة العربية السعودية الرياضة ركناً خاصاً في خطتها التنموية لرؤية 2030 ودشّن المسؤولون مبادرات حقيقة على أرض الواقع، أبرزها مشروع "الاستثمار والتخصيص للأندية الرياضية" في يونيو/حزيران 2023، الذي بموجبه نُقلت ما نسبته 75% من ملكية أكبر 4 أندية كرة قدم وهي الهلال والأهلي والاتحاد والنصر، إلى صندوق الاستثمارات العامة -سابع أكبر صندوق سيادي في العالم- والبالغ مجموع ثرواته ما يربو على 620 مليار دولار، وفقَ مؤشرات منصة ستاتيستا (Statista) في بداية عام 2023.
سيساعد نقل ملكية الأندية إلى صندوق الاستثمارات العامة السعودي، في تحوّلها إلى شركات مستقلة، ما يسهم في تطوير الاستثمار الرياضي وتمكينه الذي من شأنه تعزيز القطاع الخاص والمساهمة في الناتج المحلي وخلق فرص عمل، حسب بيان الصندوق. كما أعلن وزير الرياضة السعودي عبد العزيز بن تركي الفيصل عن نقل ملكية أربعة أندية أخرى إلى جهات تطوير تنموية، أبرزها نادي القادسية الذي ستنتقل ملكيته إلى أكبر مؤسسة نفطية في العالم "أرامكو" التي تجاوزت قيمتها 2.464 تريليون دولار في 2022.
في الحقيقة، عكف المسؤولون في السعودية على تطوير الرياضة مؤخراً بشكل لافت، وقد تبلورت إجراءاتهم في إنشاء وزارة مستقلة للرياضة في نوفمبر/تشرين الثاني 2020 بعد أن كانت هيئة عامة، وشرعت المملكة في نشر ثقافة النشاط البدنية بمختلف الألعاب وليس كرة القدم فحسب، حيث إن من أهداف الشق الرياضي في "رؤية 2030" توسيع قاعدة ممارسة الرياضة إلى نحو 40% من الشعب بحلول عام 2030، والارتقاء بالدوري السعودي لكرة القدم إلى مصافّ أفضل 10 دوريات في العالم، عبر نمو إيراداته من 120 مليون إلى 480 مليون دولار، وزيادة قيمته التسويقية إلى ما يربو على ملياري دولار.
رونالدو: الدوري السعودي سيصبح بين الأقوى في العالم
كريستيانو رونالدو، وهو لاعب لنادي النصر السعودي وحائز جائزة الكرة الذهبية لأفضل لاعب في العالم 5 مرّات، قال في تصريحات مطلع شهر يونيو/حزيران من العام 2023، إن الدوري السعودي سيصبح ضمن أقوى 5 دوريات في العالم في حال سار على وتيرة التطوّر نفسها. كان رونالد أول صفقة كبرى تبرمها أندية المملكة واُعتبرت نقلة نوعية بكل المقاييس لكرة القدم السعودية بوصفه أحد أفضل اللاعبين في تاريخ اللعبة، بيد أن القصة لم تنته بعد.
إذ تعاقد نادي الاتحاد مع الفرنسي كريم بنزيمة -أفضل لاعب في العالم وحامل الكرة الذهبية لعام 2022- قادماً من ريال مدريد الإسباني، في حين أن نادي الهلال كان على مقربة من ضم الأرجنتيني ليونيل ميسي بعقد هو الأضخم في تاريخ اللعبة، لكنه انتقل في نهاية المطاف إلى إنتر ميامي الأميركي. نوعية صفقات الأندية السعودية تخبر بما ستؤول إليه الأمور حتماً، فقد قفز الدوري السعودي من بوتقة المقارنات الإقليمية مع الدوريات العربية الأخرى إلى مصافّ العالمية عبر جلب نخبة اللاعبين وأفضل المدربين.
وهذا ما أشارت إليه يومية تلغراف "Telegraph" البريطانية في يونيو/حزيران 2023، عندما قالت إن تحويل الدوري السعودي إلى قوّة دولية، مجرّد جزء من مخطط أكبر وأكثر طموحاً. وظهرت نتائج تطوّر كرة القدم السعودية بشكل ملحوظ حينما تضاعف عدد الحضور الجماهيري في الملاعب خلال العام الحالي عن سابقه.
السعودية أول دوري عربي يطبق قواعد اللعب المالي النظيف
أصبحت السعودية أول قُطر عربي يُطبّق قواعد اللعب المالي النظيف في الدوري المحلي لكرة القدم، عندما عمل المسؤولون بقاعدة "الكفاءة المالية" في عام 2020 أسوة بالاتحاد الأوروبي للعبة "UEFA" وكان الهدف الأساسي من اعتمادها تحسين الأوضاع الاقتصادية للأندية وحمايتها من القضايا الخارجية المرفوعة ضدها لدى الاتحاد الدولي لكرة القدم (FIFA) من اللاعبين والمدربين الأجانب أصحاب المستحقات المتأخرة.
وفق فورتشن العربية تُمنح شهادة الكفاءة المالية مرّتين في الموسم للأندية التي أوفت بالتزاماتها من أجور اللاعبين والمدربين والعاملين. في حين يُحرم النادي الذي لم يحصل على شهادة الكفاءة المالية من التعاقد مع لاعبين جُدد. ما أجبر الأندية على الإيفاء بالالتزامات سواء مع الأفراد أو مع الأندية الأخرى. كما أسهم ذلك في الحدّ من حجم الإنفاق الكبير -غير المدروس- الذي دأبت عليه الأندية السعودية في السابق.
يقول مستشار الاستثمار والتسويق الرياضي السعودي، خالد الربيعان، في مقابلة مع فورتشن العربية عن اعتماد شهادة الكفاءة المالية: "مع تفشّي أزمة المستحقات المتأخرة كان لا بد من تدخّل المسؤولين. لقد أسهم إصدار تلك الشهادة في تحسين سمعة الكرة السعودية وحماية الأندية قانونياً في القضايا الخارجية، والنتيجة أنه تم التعاقد مع مدربين ولاعبين من الطراز العالمي، مثل رونالدو الذي يلعب حالياً للنصر، وهذا سيساعد في جلب أسماء لامعة أخرى".
الاستثمار السعودي في كرة القدم في أوروبا يحصد ثماره
تطوّر الرياضة السعودية وتحديداً كرة القدم، لم يتوقف عند حدود المملكة، بل تعدّاها إلى أوروبا عندما استحوذ صندوق الاستثمارات العامة السعودي على نادي نيوكاسل يونايتد (New Castle United) الإنجليزي في عام 2021 مقابل 415 مليون دولار، وسرعان ما لاقى ثماره عندما أنهى النادي الملُقّب بـ "الماغبايس" موسم الدوري الإنجليزي في المركز الرابع، ما أهّله للعب في مسابقة دوري أبطال أوروبا الموسم المقبل 2023-2024 لأول مرّة منذ عام 2003، فيما اعتبره محللون طفرة وإنجازاً تاريخياً للفريق تحت قيادة الصندوق السيادي السعودي.
تأثُّر نيوكاسل بالصبغة السعودية امتد إلى أن القميص الاحتياطي الثالث للفريق أصبح باللونين الأخضر والأبيض في إشارة لعلم المملكة، وهي إيماءة إلى القوة الناعمة التي يمكن أن تُحدثها كرة القدم. إضافة إلى ذلك، فقد خرجت شركة صلة السعودية من الزاوية الإقليمية إلى الأوروبية وأصبحت راعياً رسمياً لقميص النادي في صفقة تاريخية هي الأولى من نوعها للشركة خارج حدود الشرق الأوسط. سيكسب نادي نيوكاسل ما يقارب 31 مليون دولار سنوياً من شركة صلة مقابل وضع علامة الشركة على صدر قميص الفريق، وفي حين أن الشركة الراعية السابقة له فن 888 (FUN88) كانت تدفع فقط 8 ملايين دولار، فإن النادي قد ربح بكل المقاييس مع الراعي الجديد صلة.
تسارع إجراءات تطوّر نيوكاسل جعل علامته التجارية تقفز 6 مراكز وتصبح الأعلى نمواً في بريطانيا خلال العام الحالي 2023 بالنسبة لأندية كرة القدم، بزيادة مقدارها 68 مليون دولار لتستقر حالياً عند 314 مليون دولار، حسب منصّة (Brand Finance) المختصّة في العلامات التجارية. كما أن قيمة النادي التسويقية ارتفعت بنسبة 51% عمّا كانت عليه العام الماضي، مُسجّلةً 794 مليون دولار في الوقت الحالي.
السعودية تُنظّم كأس آسيا وعينها على الأولمبياد
في فبراير/شباط 2023، أعلن الاتحاد الآسيوي لكرة القدم (AFC) عن فوز السعودية بحق استضافة كأس أمم آسيا 2027 للمرة الأولى في تاريخ المملكة، بعد أن نالت موافقة 43 صوتاً من أصل 46 صوتاً، إذ سيشرع المسؤولون في بناء 4 ملاعب جديدة، اثنان منها في العاصمة الرياض وواحد في جدة والآخر في الدمام، لاستضافة الحدث الأكبر في القارة الصفراء.
وقبل ذلك بنحو 5 أشهر، وتحديداً في أكتوبر/تشرين الأول 2022، أُسندت مهمة تنظيم دورة الألعاب الآسيوية الشتوية 2034 إلى السعودية، لتصبح نيوم أول مدينة في غرب القارة تحظى بتنظيم هذه الدورة عبر التاريخ. لكن يبدو أن ذلك ليس سقفاً لطموحات السعوديين، عطفاً على تصريحات وزير الرياضة عبد العزيز بن تركي الفيصل لوكالة الأنباء الفرنسية عام 2022، من إن بلاده وبعد نجاحها في الفوز بتنظيم دورة الألعاب الآسيوية 2034، ترمي بثقلها لاستضافة الحدث الرئيس وهو دورة الألعاب الأولمبية.
السعودية مسرحاً رئيساً للرياضات الميكانيكية
نظّمت السعودية رياضات دخيلة نوعاً ما على البيئة العربية وساعدت على انتشارها في المنطقة، بالأخص الميكانيكية منها، مثل سباقات سيارات "فورمولا "1 و"رالي داكار" و"إكستريم إي"، وقد سجّلت أرقاماً قياسية في نسب المشاهدات والمشاركات، فوفق فورتشن العربية حقق سباق "فورمولا 1" الذي نُظّم لأول مرّة بالسعودية وتحديداً بمدينة جدّة في ديسمبر/كانون الأول 2021، نحو مليوني ونصف المليون مشاهدة، وهي أعلى نسبة مشاهدات في تاريخ اللعبة عبر قناة سكاي سبورتس (Sky Sports). وصرّح وزير الرياضة عبد العزيز بن تركي في هذا الصدد: "نعي أهمية سباقات الفورمولا 1 ونريد أن نصبح جزءاً من المجتمع الدولي. سنستضيف الفورمولا 1 بأفضل طريقة ممكنة".
أمّا في 2020، فنجحت المملكة في أن تنال موافقة المسؤولين وتصبح أول دولة آسيوية وشرق أوسطية تستضيف "رالي داكار" بعد أن اقتصر التنظيم في السابق على أقطار أوروبا وإفريقيا وأميركا الجنوبية، لتسجّل في نسخة 2022 التي أقيمت في صحراء حائل، أكبر عدد مشاركات في تاريخ اللعبة بأكثر من ألفي متسابق، ما جعل الوزير عبد العزيز يقول: "إن السعودية غدت بالفعل موطناً للرياضات الميكانيكية في المنطقة". لكن التصريح الأكثر ترجمة لواقع السعودية مع الرياضات الميكانيكية يعود إلى مدير "رالي داكار" ديفيد كاستيرا عندما أقرّ بحسب صحيفة ذي إندبندنت بأن "السعودية تمتلك صحراء حجمها 4 أضعاف حجم ما لدى فرنسا، وبإمكاننا تنظيم سباقات بالطرق المختلفة التي نريدها".
استثمار ضخم من السعودية في الألعاب الإلكترونية
على الرُغم من أنها ليست رياضات بدنية بحتة، فلم تبتعد الألعاب الإلكترونية عن ثورة التطوّر السعودية، إذ يعتزم المسؤولون -وفق بلومبرغ- استثمار قرابة 38 مليار دولار عبر شركة سافي جيمز غروب (Savvy Games Group) المملوكة لصندوق الاستثمارات العامة السعودي. وقد استحوذت الشركة بالفعل في الأعوام القليلة الماضية على نسب مميزة في شركات رائدة بصناعة الألعاب الإلكترونية مثل نينتندو (Nintendo) اليابانية، وإي إس إل (ESL) الألمانية، وأكتيفيجن بليزارد (Activision Blizzard) وإلكترونيك آرتس إنك (Electronic Arts Inc.) الأميركيتين. مع العلم أن الاتحاد السعودي للرياضات الإلكترونية تأسس عام 2017.
يوضّح مدير شركة سافي جيمز غروب، بريان وارد، في مقابلة مع بلومبرغ أنه يعمل على "مساعدة الشركات للقدوم إلى السعودية، واختيارها بدلاً من أي بلد آخر لتأسيس أعمال النشر أو التوزيع". تحظى المملكة بنحو 21 مليون فرد يمارسون أنشطة الألعاب الإلكترونية، أي قرابة 58% من إجمالي السكّان. وهذا ما دفع الأمير محمد بن سلمان للقول: "الهدف الآن هو الاستفادة من الإمكانات غير المستغلة في قطاع الألعاب الإلكترونية، ونريد تنويع الاقتصاد وتنمية الابتكار بهذا القطاع".
تهدف السعودية إلى مساهمة قطاع الألعاب الإلكترونية في الناتج المحلي بـ 13.3 مليار دولار بحلول 2030، إذ سيوفّر 39 ألف فرصة عمل وفق وكالة الأنباء السعودية (SPA) مع إنتاج أكثر من 30 لعبة منافسة عالمياً في استوديوهات المملكة وتدشين 86 مبادرة. ويُنظر حالياً إلى الرياضات الإلكترونية بوصفها الأكثر نمواً في القطاعات الإعلامية بالسعودية، إذ يخطط المسؤولون إلى جعل المملكة ضمن أكبر 3 دول في العالم من حيث عدد اللاعبين، وقد مضت السعودية بالفعل بخطوات عملية على أرض الواقع. تشيستر كينغ وهو رئيس تنفيذي بمؤسسة بريتيش سبورتس (British Esports) البريطانية بمجال الألعاب الإلكترونية، قال بحسب فرانس 24: "الأمر المذهل أن السعودية وضعت الألعاب الإلكترونية في المقدمة، بينما بلدان كثيرة لا تزال تحاول تحديد موقعها، يمكنني القول إنّ الاستثمار السعودي ربما هو الأعلى في العالم".
السعودية توحّد عالم الجولف
أنشأت السعودية في عام 2022 بطولة ليف غولف (LIV Golf) برعاية صندوق الاستثمارات العامة السعودي، واستقطبت نجوم اللعبة، على رأسهم بطل العالم السابق الأسترالي كريغ نورمان، إذ جذبت الجوائز الباهظة البالغة 200 مليون دولار، أسماء لامعة، منهم 16 لاعباً من المائة الأوائل في تصنيف الاتحاد الدولي للغولف. بيد أن ذلك لم يرُق لمسؤولي اللعبة في أميركا وأوروبا، فقد قاطعوا ليف جولف مُعلنين أنها خارجة عن الإطار التنظيمي لرابطة لاعبي الجولف المحترفين (PGA Tour)، وبالفعل وُقّعت عقوبات مغلّظة بالحظر والغرامات، تجاه اللاعبين المنضمين إلى المسابقة السعودية.
لكن، بعد أشهر متواصلة من الجدال والمساءلات القانونية، اتفقت السعودية في 7 يونيو/حزيران 2023 مع رابطة لاعبي الجولف المحترفين وجولة موانئ دبي العالمية (DP World Tour)، على تدشين كيان موحّد لدمج عملياتهم، وتكوين اتحاد جديد للعبة هو الأضخم في تاريخ الغولف، بحسب بيان صندوق الاستثمارات العامة السعودي الذي قال إن "الكيان الجديد سيضمن الربح والاستفادة لجميع أطراف المصلحة". كما تم الاتفاق على التنازل عن كل القضايا المرفوعة، لتطوي السعودية صفحة الخلاف مع أصحاب القرار في لعبة الجولف، وتبدأ عصراً جديداً.