إنّ أيّ شركة معرضة بدرجة كبيرة للتأثر بالبريكست، ولم تضع بعد خطط طوارئ للتعامل مع مجموعة من النتائج المرتقبة لذلك، بما فيها النتائج السلبية للغاية، هي خارج المسار الصحيح، شأنها في ذلك شأن الحكومة البريطانية الحالية.
بعد النتيجة المفاجئة للانتخابات البرلمانية، تحوم الشكوك حول كيفية تعامل المملكة المتحدة مع مفاوضات البريكست المرتقبة. يرى البعض أنه لو فاز المحافظون بالأغلبية الساحقة التي كانوا يتوقعونها، لتمكنت تيريزا ماي، رئيسة الوزراء البريطانية، من تبنّي خيار أكثر لينا من "بريكست قاس"، لأنها لن تضطر للقلق بشأن إبقاء أعضاء الحزب المتطرفين والمناهضين للاتحاد الأوروبي إلى جانبها. ولكن يبدو أيضاً أن بريكست قاس لا يحظى بدعم واسع النطاق من أعضاء البرلمان.
بصرف النظر عن وضع تنبؤات فردية حول هذه الأحداث المتراكمة، فما الذي يمكن أن نقوله حول ما تعلمناه من الانتخابات العامة البريطانية الأخيرة، وعما ينبغي أن تفعله الشركات لكي تستعد جيداً؟
احتلال القوى الاجتماعية السياسية لمكانة جديدة في استراتيجية السوق. أولاً، كما أشار مارتن ريفز من "بوسطن كونسلتينغ جروب"، "في كثير من الحالات، تكون تأثيرات العوامل السياسية وعوامل الاقتصاد الكلي أكبر في نظر الشركات من تأثيرات الاعتبارات التنافسية". تشمل العوامل المتعلقة بالبريكست -التي أشار إليها- تقلبات سعر الصرف، وتغيرات أسعار الأسهم تبعاً للإعلانات السياسة، وتكلفة تعديل خطط الاستثمار في ضوء التحولات المتوقعة في السياسة التجارية. يمكن أيضاً من منظور أكثر شمولية تعزيز هذه القائمة بارتقاء المنظمات غير الحكومية، وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي تساعد على ظهور الحركات الاجتماعية، وازدياد المشاعر المناهضة للعولمة.
الاستراتيجية غير السوقية، أي الطريقة التي تدير بها الشركات علاقاتها مع الحكومات، والمنظمات غير الحكومية، ووسائل الإعلام، والمجتمع عموماً، عادة ما تحتل المستوى الثاني من استراتيجية السوق، وذلك وفقاً للإجراءات المعتادة المتمثلة في إعداد استراتيجية السوق أولاً ثم تحديد القوى الاجتماعية والسياسية وغيرها من القوى التي يجب استغلالها أو تجنبها أو مواجهتها بطريقة معينة حتى يتم تفعيل الاستراتيجية. لكن يجب أن يتغير هذا، على الأقل في الوقت الراهن.
تحديد الاستقرار وسط حالة عدم اليقين المستمرة. ثانياً، يؤدي استمرار مستويات عدم اليقين المرتفعة إلى عرقلة التوصيات التقليدية حول كيفية تصرف الشركات في مثل هذه الحالات. الافتراض المعتاد هو أن عدم اليقين الناجم عن الأحداث السياسية أو الاقتصادية سيتضاءل مع مرور الوقت، إنها مجرد مسألة وقت. ولكن لا يمكن معالجة مسألة استمرار تتابع الأحداث السياسة بهذه الطريقة.
سيتم التطرق في مقالي القادم المزمع صدوره في هارفارد بزنس ريفيو، بعنوان "العولمة في عصر ترامب"، لأحد الأساليب المستخدمة في مثل هذه الظروف، وهو البحث عن نماذج منتظمة يحتمل أن تستمر في الصمود ثم يتم الاعتماد عليها في صياغة الاستراتيجيات. جيف بيزوس، الرئيس التنفيذي لشركة أمازون، وصفها ذات مرة قائلاً:
عندما أتحدث مع أشخاص من خارج الشركة، عادة ما يتم طرح هذا السؤال: "ما الذي سيتغير خلال السنوات الخمس إلى العشر القادمة؟" لكنني نادراً ما يتم سؤالي "ما الذي لن يتغير في السنوات الخمس إلى العشر القادمة؟" في شركة أمازون، نحاول دائماً تحديد ذلك، لأنه يمكنك حقاً تبني استراتيجية الشركة حول هذه الأشياء.
سواء أكنت موافقاً على هذا الأسلوب أم لا، فمن الواضح أن هناك حاجة لبعض الأساليب الجديدة.
فهم قانون المسافة. ثالثاً، من بين الأمور المنتظمة التي أركز عليها في عملي، والتي تمثل الطريقة الأكثر فعالية في التفكير طويل الأجل هي قانون المسافة، وهو الإطار المحدد عبر البلدان، والصناعات، والوقت، والذي تتضاءل فيه التفاعلات الدولية بفعل المسافة الموجودة بين الأبعاد الثقافية، والإدارية، والجغرافية، وفي كثير من الأحيان الاقتصادية. يتمثل المعنى الضمنى لهذا في أنّ بريطانيا والاتحاد الأوروبي سيصبحان شريكان تجاريان عاديان بحلول نهاية يناير/ كانون الثاني 2020، وهو التاريخ الذي يعدّ الموعد النهائي الذي سيتم فيه البريكست بغض النظر عن طريقة حدوث ذلك.
كما وصفت ذلك هنا، ليس هناك حل. على سبيل المثال، فإن دول الكومنولث (يتكون معظمها من مستعمرات بريطانية سابقة) تقترب من الاتحاد الأوروبي من حيث السوق المحتملة للشركات البريطانية. لذلك، أتوقع أن أرى على المدى الطويل نوعاً من المنافذ الخاصة ببريطانيا للوصول إلى سوق الاتحاد الأوروبي، بدلاً من مجرد العودة إلى قواعد منظمة التجارة العالمية التي لن تمنح بريطانيا أي امتيازات مقارنة بأي عضو آخر في نفس المنظمة للوصول إلى أسواق الاتحاد الأوروبي.
في مثال آخر ومن وجهة نظر الولايات المتحدة الأميركية، وحتى لو كانت هذه الأخيرة تستهدف المكسيك وكندا تجارياً (كما صرح الرئيس ترامب في أغسطس/آب أنه سيفعل)، فإنه من المرجح أن يبقى هذان البلدان ضمن أكبر الشركاء التجاريين للولايات المتحدة الأميركية، كما ستبقى صادراتهما معتمدة بشكل كبير على الولايات المتحدة الأميركية، وهذا بغض النظر عما يحدث في إطار اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية "نافتا"، ذلك أنه منذ أكثر من 100 عام، كانت الولايات المتحدة تحقق بالفعل بين 55% و60% من واردات المكسيك وبين 65% و75% من صادراتها، و استثمرت الشركات الأميركية في المكسيك في ذلك الوقت أكثر من أي بلد آخر بالرغم من النزعة القومية الاقتصادية المكسيكية.
لا يكفي الانتظار والمشاهدة. رابعاً، يبدو أن انتظار استعادة طبيعة الروابط الاقتصادية الوثيقة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي سيطول كثيراً من منظور الشركات المعرضة بشكل كبير للتأثر بالبريكست. في مقالاتي السابقة حول هذا الموضوع والتي تم نشرها في هارفارد بزنس ريفيو، تساءلت عما إذا كان من السابق لأوانه أن تتصرف الشركات. توصلت إلى أنه من الصعب تخيل أن دولة خبيرة بالكومنولث مثل المملكة المتحدة، ومع خدمة مدنية مرموقة مثل التي تتمتع بها، ستكون غير مستعدة بشكل كاف للشروع في مفاوضات مصيرية لمستقبلها الاقتصادي. لكن بالنظر إلى الطبيعة المزرية لعملية البريكست حتى الآن، لم أعد أعتبره أمراً مفروغاً منه، وأن الاتفاق سيمنع القطاعات الصناعية البريطانية الكبيرة مثل السيارات أو الخدمات المالية من الخروج من القارة. بمعنى آخر، وبالرغم من أننا لا نعرف حتى الآن ما سيحدث بالضبط، إلا أن العملية لا تدعو للتفاؤل إلى الآن.
نتيجة لذلك، بدأت العديد من الشركات في القطاعات الأكثر عرضة للتأثر بالبريكست في التحرك. بحلول أوائل شهر مايو/ أيار، أعلنت أكثر من ربع شركات الخدمات المالية في المملكة المتحدة البالغ عددها 222 شركة والتي يراقبها مركز "إي آي بريكست تراكر" (EY Brexit Tracker) أنها بصدد نقل بعض أنشطتها إلى خارج المملكة المتحدة، أو أنها ستعيد النظر في أماكن تواجدها نتيجة البريكست ابتداءً من يناير/كانون الثاني، كما راسل بنك إنجلترا الرؤساء التنفيذيين ومدراء الفروع في جميع الشركات التي لديها أنشطة عابرة للحدود بين المملكة المتحدة وبقية دول الاتحاد الأوروبي لطلب خطط طوارئ بحلول 14 يوليو/ تموز.
لم تظهر جلياً شركات صناعة السيارات الكبرى، ويرجع ذلك جزئياً لحقيقة أن وفورات الحجم في صناعة السيارات تتطلب قرارات صعبة وحازمة للمغادرة أو البقاء وليس قرارات تدريجية. وصفت ماري بارا، الرئيس التنفيذي لشركة جنرال موتورز، البريكست أنه أحد الأسباب التي تحتاجها الشركة من أجل بيع أنشطتها الأوروبية ذات الأداء الضعيف (تحت علامتي فوكسهول Vauxhall وأوبل) إلى شركة "بي إس أيه" PSA. هناك مخاوف من أن شركات صناعة السيارات مثل هوندا ونيسان وتويوتا قد تعيد توزيع أعمال التصنيع الجديدة لعملياتها خارج المملكة المتحدة. بالتطرق إلى مثال آخر، حذرت شركة "راين إير" (Ryanair) ومقرها دبلن، والتي تعمل خارج المملكة المتحدة بموجب اتفاقية الاتحاد الأوروبي المسماة "الأجواء المفتوحة"، من أنها قد تضطر إلى تعليق الرحلات الجوية البريطانية لمدة "أسابيع أو شهور" إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق مبكر على البريكست، وهذا بسبب برمجة مواعيد رحلاتها قبل 12 شهراً.
لتحقيق النجاح في هذه البيئة التي تتسم بعدم اليقين، ستحتاج الشركات إلى فرض نفسها بطرق جديدة. من الواضح أن خيار "العمل كما جرت العادة" لم يعد خياراً في أي قارة.