لعّل أكثر عبارة ستسمعها في شهر رمضان داخل أي مصلحة إدارية عربية هي "بعد العيد إن شاء الله"، أو "نفطر والأمور بيد الله"، وإن كان رمضان في فصل الصيف، فالأكثر تداولاً هي "نشرب المياه إن شاء الله ثم نقضي مصلحتك"، طبعاً مع اختلاف بسيط في اللهجة بحسب كل بلد عربي، ومردُ هذا التأخير حسب هؤلاء هو الصيام، على الرغم من أن هذا غير صحيح لا علمياً ولا عقائدياً، فالعديد من الدراسات الحديثة أكّدت أن الصيام يساعد على التحكم بالوزن، وتحسين المزاج، وتعزيز التركيز، ورفع مستوى الطاقة، وتحسين جودة النوم، والعيش لفترة أطول؛ أما عقائدياً فالنصوص المقدسّة التي تبيّن فضل الصيام كثيرة، ولا يوجد نص واحد يعلّل انخفاض إنتاجية الصائم، بالإضافة إلى مقاصد الصيام الاجتماعية مثل تحقيق التكافل ومساعدة الغير وتهذيب النفس والتحكم فيها؛ وبالتالي الصيام بريء من كل السلوكيات المهنية السلبية، والمشكل الحقيقي هو في العقليات نفسها والعادات الراسخة.
في استطلاع أجرته منصة بيت.كوم عام 2022، أكّد أكثر من 75% من المستجوبين أن معنوياتهم ترتفع في شهر رمضان، مع ذلك فإن إنتاجية الموظف العربي تنخفض بنحو 35% إلى 50% في الشهر الفضيل، وجزء من هذا الانخفاض بسبب تخفيض ساعات العمل الرسمية، لذلك وفي ظل الانتعاش الاقتصادي الذي تشهده المنطقة العربية، فقد حان الوقت لتغيير العقليات السلبية السائدة التي تعطّل مصالح الناس وتضر بأهداف الشركات وحتى باقتصاد الدول، ويتطلب تغيير العقليات بناء عادات جديدة تساعد على رفع الإنتاجية خلال رمضان وليس الحفاظ عليها فحسب، لا سيما أن بناء عادة جديدة يستغرق 18 يوماً على الأقل. يؤكد مؤلف كتاب "العادات الذرية" جيمس كلير أن بناء عادات جديدة يتطلب تغيير صنفين من العادات (كلاهما يتأثر برمضان): الفئة الأولى عادات شحذ الطاقة إذا اكتسبها الإنسان كان في موقف أفضل لاكتساب كلّ ما سِواها من عادات، ومن أمثلتها النوم الباكر والأكل الصحّي وممارسة الرياضة؛ والفئة الثانية، هي "عادات الانتباه"، وتتكّون نتيجة لما نُخصص له انتباهنا، لذلك، فإن ما تقرأه وما تستهلكه غالباً ما يكون مؤشراً على الأفكار التي تدور بخلدك، أو على الأفكار الإبداعية أو المبتكرة التي تتوصل إليها، وتتجلى هذه الفئة بوضوح في النصوص المقدسة التي تحثّ على الانتباه والتركيز كحديث النبي محمد (صلى الله عليه وسلم): "مَن لم يَدَعْ قول الزُّور والعملَ به والجهلَ، فليس للهِ حاجةٌ أن يَدَعَ طعامه وشرابه".
يتطلب تعزيز الإنتاجية في شهر رمضان الانتباه لأمر أساسي هو التركيز على إدارة جُهدك، لا وقتك، فالوقت مورد محدود لا يمكنك توليده، أما الجهد أو الطاقة فهي موضوع مختلف تماماً. من زاوية علمية، فالطاقة معناها القدرة على إنجاز شيء ما. يمكن حصر مصادر الطاقة لدى البشر في أربعة منابع رئيسية هي: الجسم والعواطف والعقل والروح. ويمكن زيادة تدفق الطاقة من كلّ منبع من هذه المنابع وتجديدها بانتظام عبر إنشاء طقوس محددة السلوكيات يتم ممارستها عمداً وفق مواعيد دقيقة حتى تتحول إلى طقوس تلقائية وعفوية في أسرع وقت ممكن. رمضان فرصة ممتازة لخلق هذه الطقوس، نظراً لأن الصائم ملتزم بمواعيد ثابتة للإفطار والإمساك والصلاة. يمكن توليد الطاقة من هذه المنابع الأربعة كما يلي:
1. منبع الطاقة الجسدي
يتعلق أساساً بجودة النوم والأكل:
- النوم: لا شك في أن الحصول على قسط وافر من النوم نصيحة سديدة، ولكن دعونا نواجه الأمر على حقيقته، فليس بالإمكان دائماً الحصول على نوم "عالي الجودة" في رمضان، لا سيما مع العبادات الليلية وتغير نمط الحياة، وقد يؤدي العمل تحت تأثير الحرمان من النوم إلى إضعاف قدرة الإنسان على الإدراك، وبالتالي يصير أكثر عرضة لارتكاب الأخطاء وانخفاض جودة إنتاجيته، لذا قد يكون تأجيل العمل حتى تحصل على قسط أوفر من الراحة هو أفضل قرار ممكن، وإذا لم تتمكن من الحصول على قسط كاف من النوم، فحاول على الأقل أن تأخذ قيلولة لأن الراحة، ولو لمدة قصيرة لا تتجاوز 20 دقيقة، يمكن أن تحدث فرقاً كبيراً في فعاليتك لبقية اليوم. في حال كنت في موقف لا يسمح بالانتظار والتوقف عن العمل حتى تحصل على قسط أوفر من الراحة، فأفضل فكرة في هذه الحالة هي أن تنتقي المهمات التي يمكن أن تؤديها وأنت محروم من النوم. وقد أثبتت الأبحاث أن الحرمان من النوم يكون أكثر ضرراً للمهمات الجديدة، أو تلك التي تتطلب الإبداع والابتكار، أما المهمات الروتينية التي لا تتطلب الإبداع فهي أقل عرضة لأضرار الحرمان من النوم، في الواقع تشكل عبارة "يمكنني القيام بذلك وأنا نائم" مفهوماً مفيداً لمساعدتك على تحديد المهمات التي يجب عليك أداءها ومتى، ويجب أن تتحاشى في المقابل المهمات ذات العواقب الخطيرة وأنت تشعر بالنعاس، نظراً لارتفاع مخاطر الأخطاء الكامنة في العمل تحت تأثير الحرمان من النوم، وحاول تأجيلها إلى ما بعد نيل قسط من الراحة.
- الأكل: مصدر الطاقة الثاني هو الأكل، وهنا قد تكون توصيات منظمة الصحة العالمية مفيدة، إذ توصي تجنب تناول كميات كبيرة من الحلويات عقب وجبة الإفطار، حيث تتضمن الحلويات التي يتناولها الناس عادةً في شهر رمضان كميات كبيرة من شراب السكر. ويجب أن يحدّ الشخص من تناول الأطعمة الغنية بالدهون، خاصة اللحوم الغنية بالدهون، والأطعمة التي تحتوي على كميات كبيرة من الملح، مثل اللحوم المُصنعة. والأهم من ذلك تناول الطعام ببطء بكميات مناسبة لاحتياجاتك فقط والحرص على وجبة السحور، وتفادي الهدر قدر الإمكان، إذ تؤكد منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو) إن الفرد في المنطقة العربية يهدر متوسط 250 كيلوغراماً سنوياً من الغذاء، وإن هذا الهدر يزيد في شهر رمضان ليصل إلى 350 كيلو غراماً.
اقرأ أيضاً: نصائح للتغلب على اضطرابات النوم في رمضان
اقرأ أيضاً: كيف أحافظ على وزني في رمضان؟
اقرأ أيضاً: وجبة السحور في رمضان: ما يمكن تناوله وما يجب تجنبه
2. منبع الطاقة العاطفي
ويبرز هنا مفهوم "التعاطف مع الذات" (Self Compassion)، ويشمل:
- التلطف مع الذات (Self-Kindness): يعني معاملتها بلطف وتفهم عندما يواجه الفرد إخفاقات شخصية بدلاً من تجاهل ألمه، أو الحكم على نفسه وانتقادها لما فيها من عيوب. يدرك الأشخاص المتعاطفون مع ذواتهم أن الفشل وصعوبات الحياة أمر لا مفر منه، فيواجهون تجاربهم المؤلمة بلطف بدلاً من الغضب والشعور بالإحباط وانتقاد الذات، ما يحقق لهم قدر أكبر من الاتزان العاطفي.
- الإنسانية المشتركة (Common Humanity): يعني تقبُل الشخص لحقيقة أنه ليس الوحيد الذي يعاني أو يرتكب الأخطاء، وإدراكه أن المعاناة والقصور جزء من التجربة الإنسانية المشتركة.
3. منبع الطاقة العقلي
يرتبط هذا المنبع بتنمية عقل الإنسان، وهنا تبرز "عقلية النمو"، ومعناها ببساطة الاعتقاد بأن الإنسان قادر على تغيير كفاءاته وقدراته وذكائه؛. توصلت أبحاث استمرت على مدى عقود من الزمن أن من يتمتع بعقلية النمو لديه استعداد أكبر من الناحية الذهنية للتعامل مع التحديات ومواجهتها والاستفادة من التقييمات وتبني استراتيجيات أكثر فعالية لحل المشكلات، ويمكن تطوير عقلية النمو بتطبيق هذه المبادئ:
- التواصل مع أشخاص محترفين في المجال نفسه وتبادل المعرفة معهم.
- قراءة المقالات والكتب حول الموضوعات التي تثير اهتمامك.
- تبادل الأفكار وحل المشكلات مع الآخرين لاكتساب وجهات نظر جديدة.
- الالتحاق بالدورات التدريبية لتعلم مهارات جديدة.
4. منبع الطاقة الروحي
ويشمل جميع الممارسات التي يخصص فيها الفرد قدراً من الوقت والجهد ليكون يقظاً وواعياً قدر الإمكان عندما يمارس شعائره الدينية، ومن أمثلتها في شهر رمضان الصلاة والتدبُر. وتعدّ الشعائر الدينية (أو الروحية) مصدرا للطاقة لأن لديها هذه الفوائد:
- زيادة المرونة: تُسهم الشعائر الدينية في التقليل من القلق الذي يُصيب الإنسان، وهو ما يعزّز المرونة في مواجهة الظروف الصعبة، كما يمكن أن تحسّن أداء الموظَف عندما يكون معرّضاً للضغوط.
- تعزيز الذكاء العاطفي: إذ تشير الأبحاث التي أجريت على الدماغ باستخدام تقنيات التصوير المغناطيسي بأن اليقظة الذهنية (التي هي مقابل لبعض الشعائر الدينية لدى المسلمين) يمكن أن تساعد في تعزيز قدرتنا على تنظيم عواطفنا.
- تحسين العلاقات بالآخرين: إذ تُسهم الشعائر الدينية، خاصة في رمضان، في تحسين المزاج، وزيادة الإحساس بالتآلف مع الآخرين، وقد يجعل من الفرد شخصاً ألطف وأكثر نشاطاً في مساعدة الآخرين.
- تعزيز التركيز: إذ يمكن أن تساعد الشعائر الدينية في التقليل من ميلنا نحو التشتت، ذلك أنها تعزّز قدرتنا على المحافظة على تركيزنا بل تقوّي ذاكرتنا أيضاً.
شهر رمضان الذي يصوم فيه مئات الملايين في البلدان العربية يمثل فرصة ذهبية لـ "زعزعة النفس"، لأنه ببساطة يدفع لتغييرات بسيطة في أسلوب الحياة، مثل مواعيد النوم والأكل ونوعية العلاقات الاجتماعية والعبادات الروحية، لكنها تُفضي إلى تغييرات عظيمة في النهاية.