ستزداد حصة المملكة العربية السعودية في الاقتصاد العالمي أكثر، ليس بالضرورة على حساب الدول الأخرى، إذ ستكون المملكة نفسها مصدراً مهماً ومحرِّكاً للنشاط الاقتصادي الجديد.
وسيؤدي استقطاب السعودية المقرات الإقليمية للشركات العالمية إلى تغيير في مراكز الأعمال والثروة عالمياً، ومن المتوقع ارتفاع مشاركة المملكة في الناتج العالمي إلى ما يقارب 1.5% بدلاً من نسبة مشاركتها الحالية 1%، وستكون المملكة في المرتبة الخامسة عشرة، وفقاً للمستشار الاقتصادي وعضو جمعية الاقتصاد السعودية، سليمان العساف.
المقرات الإقليمية
يأتي ذلك في أعقاب قرار المملكة السعودية في عام 2021 بوقف تعاقد الحكومة مع أي شركة أو مؤسسة تجارية أجنبية لها مقر إقليمي في دولة غير السعودية، ابتداءً من 1 يناير/كانون الثاني 2024. ويهدف القرار إلى تطويع أعمال الشركات والمؤسسات الأجنبية التي لها تعاملات مع حكومة المملكة والهيئات والمؤسسات والصناديق التابعة للحكومة، أو أي من أجهزتها، وضمان أن المنتجات والخدمات الرئيسية التي تُشترى من قبل الأجهزة الحكومية المختلفة تُنفذ على أرض المملكة، بجانب توفير الوظائف ورفع كفاءة الإنفاق.
وقالت الهيئة الملكية لمدينة الرياض، إنها تطمح إلى استقطاب من 400 إلى 500 شركة أجنبية خلال الأعوام العشرة المقبلة، لتتخذ من عاصمة المملكة مقراً إقليمياً لها، إذ إن اقتصاد السعودية يليق بمكانتها أن تكون مركزاً وعاصمة للمقرات الإقليمية والاستثمارات الأجنبية في المنطقة.
ومن الخطوات التي اتخذتها المملكة لتنفيذ هذا القرار، إطلاق ولي العهد الأمير محمد بن سلمان المبادرة الوطنية لسلاسل الإمداد العالمية في أكتوبر/تشرين الأول 2022، التي تهدف إلى تعزيز موقع المملكة لتكون مركزاً رئيسياً وحلقة وصل حيوية في سلاسل الإمداد العالمية.
وتهدف تلك المبادرة إلى تمكين المستثمرين من الاستفادة من موارد المملكة وقدراتها لدعم هذه السلاسل وتنميتها، وبناء استثمارات ناجحة، وفقاً لولي العهد السعودي، الذي أشار إلى أن ذلك سيعطي مرونة أكبر للاقتصادات والمستهلكين في جميع أنحاء العالم، ويضمن توفير وصول سلاسل الإمداد واستدامتها لكل أنحاء العالم بفعالية وبمزايا تنافسية عالية. بجانب المساهمة في تمكين المملكة من تحقيق طموحات رؤيتها وتطلعاتها، التي تشمل تنمية موارد الاقتصاد الوطني وتنويعها، وتعزيز مكانتها الاقتصادية لتصبح ضمن أكبر 15 اقتصاداً عالمياً بحلول عام 2030.
وتعمل المبادرة على حصر الفرص الاستثمارية وتطويرها وعرضها على المستثمرين، وإنشاء عدد من المناطق الاقتصادية الخاصة، التي يمكن من خلالها إيجاد بيئة جاذبة للمستثمرين، بالإضافة إلى جذب المقرات الإقليمية للشركات العالمية إلى المملكة.
وقد أشار ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، إلى إن المملكة تسعى إلى جعل الرياض واحدة من أكبر 10 اقتصادات في العالم، بعد أن كانت تحتل المرتبة 40 في قائمة المدن الأكبر اقتصادياً على مستوى العالم.
وحصلت شركات كثيرة بالفعل على تراخيص مقراتها الإقليمية لمزاولة نشاطها من الرياض، كان من بينها سامسونج، وبيبسيكو، وديلويت، وجونسون كونترولز، وديدي، وفيليبس، ويونيليفر، وسيستم إير، و500 ستارت أبس، وبيكر هيوز، وبات، وساب، وليلي، وجليدز، وبي دبليو سي. وتنوعت أعمال هذه الشركات بين تقديم خدمات التكنولوجيا والأغذية والمشروبات والاستشارات والتشييد.
البرنامج السعودي
وفي مارس/آذار 2023، أصدر مجلس الوزراء السعودي قرار إنشاء البرنامج السعودي لجذب المقرات الإقليمية للشركات العالمية، على أن يكون تحت إشراف مجلس إدارة الهيئة الملكية لمدينة الرياض، وذلك ضمن مبادرات الاستراتيجية الوطنية للاستثمار التي أطلقها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وتهدف بالأساس إلى تنمية الاقتصاد الوطني وتنويع مصادره، ما سيحقق العديد من أهداف رؤية المملكة 2030، بما في ذلك تعزيز الاستثمار الأجنبي المباشر لتصل إسهاماته إلى 5.7% من الناتج المحلي الإجمالي.
يوفر البرنامج العديد من الخدمات منها توفير مكاتب مؤقتة وشقق أو فيلات وتوظيف محلّي وخدمات أخرى لتسهيل الانتقال، بجانب الخدمات العملية مثل الحجوزات وتنظيم الأنشطة والرياضة واللياقة البدنية وتوفير مساعد شخصي. أيضاً خدمات أخرى خاصة بالمدارس ووكالات استقدام العاملين والعاملات في الخدمة المنزلية، وهناك خدمات مهنية مثل الاستشارات في الشؤون الضريبية وخدمات مسؤول العلاقات الحكومية وفتح حسابات مصرفية.
وفي أبريل/نيسان 2023، أعلن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عن إطلاق أربع مناطق اقتصادية خاصة، في مسعى لتعزيز مكانة المملكة لتكون وجهة استثمارية عالمية، إذ إن المناطق الاقتصادية الخاصة ستفتح آفاقاً جديدة للتنمية.
مركز الثقل العالمي
وأشار العساف في تصريحه لمنصة هارفارد بزنس ريفيو إلى أن دول أوروبا وأميركا تواجه حالة عدم يقين بالاقتصاد، فهناك تضخم عالمي ومشاكل اقتصادية، وتمر تلك الدول بالركود التضخمي، كل ذلك يؤثر تأثيراً كبيراً على الاقتصاد العالمي، فأوروبا أصبحت طاردة، والصين بوصفها قوة اقتصادية تعاني حالياً، وتوقعات النمو فيها انخفضت من 6.8 إلى 6.1 ثم إلى 5.5 وأخيراً إلى 5.2.
والركود التضخمي عبارة عن فترة اقتصادية تتسم بارتفاع ملحوظ في التضخم، وكذلك معدل بطالة مرتفع مصحوب بنمو اقتصادي متباطئ.
لذا يرى العساف أن قرار المملكة باستقطاب المقرات الإقليمية للشركات العالمية يسهم في جعلها مركزاً للثقل العالمي سواء للأعمال أو المشاريع أو السيولة النقدية، وسيساعد ذلك المملكة في جلب الخبرات والمعرفة، وتوطين الصناعة وخلق الوظائف، وتدريب السعوديين على المشاريع الجديدة، وجعل السعودية مركزاً عالمياً للصناعات والخدمات العالمية، بجانب توطين التقنية من خلال استقطاب الشركات التكنولوجية.
وأضاف العساف أن هناك قطاعات ستحقق نمواً أكبر من خلال هذا القرار، منها قطاع الإنشاءات والخدمات والنقل، والقطاع البنكي، ما يؤدي إلى ارتفاع مرتبة المملكة ضمن قائمة الدول المساهمة في الناتج العالمي إلى المرتبة الخامسة عشرة عام 2030.
قوة اقتصادية عظمى
أطلقت رؤية 2023 العنان لموجة من النشاط الاقتصادي والتجديد في جميع أنحاء المملكة العربية السعودية، والتحول الاقتصادي الذي يتكشّف حالياً من خلال الرغبة في تحقيق نمو مستدام بتجديد حقيقي للاقتصاد، وجزء من هذا الجهد هو برنامج استقطاب المقرات الإقليمية للشركات العالمية، وفقاً للشريك ورئيس قسم الأبحاث للشرق الأوسط في نايت فرانك (Knight Frank) المتخصصة في الخدمات الاستشارية ومقرها المملكة المتحدة، فيصل دوراني.
وأشار دوراني في حديثه مع هارفارد بزنس ريفيو، إلى أن المملكة بدأت رحلة التخلص من أغلال الاقتصاد المعتمد على النفط، وكل الخطوات التي اتخذتها بما فيها استقطاب الشركات العالمية يبشر بالنمو التحولي الذي وضع المملكة بالفعل على طريق ظهور قوة اقتصادية عالمية عظمى، بعد صعودها إلى قمة مجموعة العشرين.
وخلال 2022، سجَّل الاقتصاد السعودي نمواً في الناتج المحلي الإجمالي بلغ 8.7%، ليصبح أعلى معدلات النمو بين دول مجموعة العشرين.
وأضاف دوراني أنه نظراً لأن السعودية تُعدُّ نفسها لتكون اقتصاداً عالمياً مهماً غير نفطي، فإنها ستبدأ تلقائياً بجذب تدفقات أكبر من المواهب الدولية والتجارة العالمية والاستثمار الأجنبي المباشر والشركات الدولية، مفسراً ذلك بأن حصة المملكة العربية السعودية في الاقتصاد العالمي ستزداد أكثر، ليس بالضرورة على حساب الدول الأخرى، إذ ستكون المملكة نفسها مصدراً مهماً ومحرِّكاً للنشاط الاقتصادي الجديد بسبب رؤية 2030 وسكانها الشباب والمتعلمين تعليماً عالياً.
وارتفعت حصة الاقتصاد السعودي من الاقتصاد العالمي البالغ 100.22 تريليون دولار إلى 1.1% في 2022، مقابل 0.9% في 2021.
وتدرك الشركات العالمية الإمكانات الاقتصادية للمملكة، لذا تسعى إلى نقل المقرات الإقليمية إلى الرياض، أو توسيع بصماتها الحالية وزيادة عدد الموظفين في المملكة لتلبية الطلب المتزايد، ولأن تكون جزءاً من التحول الاقتصادي بالمملكة، وفقاً لدوراني.
ونتيجة لوجود مقرات إقليمية للشركات بالمملكة، فإن معدلات خلق الوظائف ستزداد أكثر مع جذب المواهب، بحسب دوراني، الذي يشير إلى أن المملكة شهدت زيادة بنحو 6 أضعاف في عدد الموظفين ذوي الياقات البيضاء إلى 1.2 مليون في 12 شهراً حتى نهاية سبتمبر/أيلول 2022، وهذا يحفز بالفعل ظهور مدينة مركزية عالمية أخرى في الرياض، التي يتجاوز عدد سكانها 8 ملايين اليوم.
من الواضح أن هذا المستوى المرتفع من النشاط الاقتصادي سيساعد في جعل الرياض المركز العالمي الثاني في المنطقة، بالإضافة إلى دبي، وفقاً لدوراني. مضيفاً أن التنويع الاقتصادي الذي تدفعه رؤية 2030 واضح في جميع مجالات الاقتصاد، وتميل الاقتصادات المتنوعة، ذات السكان الشباب على نحو استثنائي، إلى أن تكون الأكثر تنافسية والأكثر جاذبية أيضاً للمواهب والشركات العالمية. علاوة على ذلك، تميل هذه الاقتصادات أيضاً إلى أن تكون الأكثر مرونة في أوقات عدم اليقين أو ركود الاقتصاد العالمي.
تحول المملكة إلى مركز تجاري واقتصادي إقليمي
بدأت التغييرات في المشهد الاقتصادي تظهر ملامحها منذ فترة، وذلك بسبب المشاريع العملاقة التي أُعلن عنها في المملكة، وكذلك مشاريع التحول الرقمي التي خلقت فرصاً للعديد من الشركات العالمية، وفقاً للمستشار المالي المعتمَد من قِبل وزارة التجارة السعودية، فادي العوامي.
في مقابلته مع هارفارد بزنس ريفيو، أشار العوامي إلى أن حكومة المملكة متمثلة بالوزارات والهيئات المعنية، تسهّل إجراءات تأسيس الشركات وتحفز الشركات العالمية على الاستثمار المباشر داخل المملكة، ومع تفعيل قرار وقف التعاقد مع أي شركة أو مؤسسة تجارية أجنبية لها مقر إقليمي في دولة غير السعودية، لن يكون هناك بديل للشركات العاملة في المملكة التي ترغب في استمرار أعمالها وتعزيزها إلا أن تعمل على نقل مقراتها الإقليمية إلى المملكة.
وهذا بالتأكيد سيعمل على تعزيز مكانة المملكة الاقتصادية عالمياً، التي كان معظم تركيزها سابقاً في قطاع النفط ومشتقاته. لذلك من المتوقع توجه استثمارات كبيرة من عدة قطاعات للمملكة العربية السعودية، بحسب العوامي.
وأضاف العوامي: "سنرى أثر هذا القرار تدريجياً من ناحية ارتفاع الميزان التجاري في حال جرى نقل المصانع الإقليمية إلى السعودية، وكذلك جذب استثمارات ضخمة وزيادة حجم الإنفاق، ما سيؤثر تأثيراً إيجابياً على إجمالي الناتج المحلي، ويعزز مساهمة السعودية في الاقتصاد العالمي".
ويشير العوامي إلى أنه من المتوقع أن يسهم البرنامج في إضافة 67 مليار ريال (17.866 مليار دولار) إلى الاقتصاد العالمي، إلى جانب خلق نحو 30 ألف وظيفة للسعوديين، كذلك سيساعد على استقطاب المواهب والكفاءات المميزة عالمياً إلى السعودية، ما سيعمل على نقل هذه الخبرات إلى الشباب السعودي، من ناحية أخرى سيقلل ذلك من اعتماد السعودية على النفط نظراً لتحولها إلى مركز تجاري واقتصادي إقليمي.
وأوضح العوامي أن وجود شركات عالمية بالمملكة سيجذب استثمارات كبيرة من قِبل الشركات سواء من ناحية الأصول أو التدريب والتأهيل للكفاءات المحلية، وأضاف أن رؤية المملكة 2030 تهدف إلى المساهمة في الاستثمار الأجنبي المباشر للوصول إلى 5.8% من إجمالي الناتج المحلي، والمستهدف أن يصل إلى 6.4 تريليونات ريال، لذلك سيعزز برنامج استقطاب المقرات الإقليمية تحقيق هذا الهدف.
تضع الشركات العالمية ضمن استراتيجيتها التوسع في المناطق التي تتمتع بفرص تجارية، وتمتلك أيضاً اقتصادات قوية، وتشهد المنطقة نهضة اقتصادية تقودها السعودية، لذلك فمن المنطقي أن تعزز هذه الشركات أنشطتها في المنطقة لتستفيد من الفرص الكبيرة المطروحة أو التي ستُطرح في المستقبل القريب، وفقاً للعوامي.
وأضاف العوامي أن نقل التقنيات هو أحد أهداف أي حكومة وبالتحديد حكومة المملكة العربية السعودية، إذ اهتمت بذلك من خلال برنامج التحول الرقمي وعلى جميع الأصعدة، ووجود مقرات إقليمية لشركات التقنية الكبرى من شأنه العمل على نقل الخبرات العالمية إلى المملكة، وطرح برامج تدريبية تعزز إمكانات الكفاءات المحلية، وقد تكون أكاديمية مطوري آبل (Apple) بالشراكة بين أكاديمية طويق من أفضل الأمثلة على ذلك.
من جانب آخر، يقدِّم بعض الشركات التقنية برامج احتضان أو مسرِّعات لرواد الأعمال التقنيين، التي تعمل على تأهيل مشاريع ناشئة تقنية واعدة مدعومة من قِبل هذه الشركات، بحسب العوامي.