وفقاً لبحث صدر مؤخراً، يقضي الرؤساء التنفيذيون في المملكة المتحدة أكثر من ساعة ونصف الساعة كل أسبوع في التخطيط لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أو ما يسمى "بريكست" (Brexit). أما رؤساء الشؤون المالية فيمضون أكثر من ساعتين أسبوعياً. ويبلغ إجمالي الوقت الذي يمضيه التنفيذيون بهذين المنصبين في المملكة المتحدة للاستعداد للبريكست حوالي 200 ساعة وسطياً في العام. يمثل ذلك تخصيص أسبوع ونصف الأسبوع في العام للتخطيط للبريكست بالنسبة للرؤساء التنفيذيين، ولكن لم يتضح بعد ما يخططون له بالتحديد.
بعد مرور أكثر من 3 أعوام على الاستفتاء، لا تزال نتائج مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مجهولة بالنسبة للشركات، وهذا يعني أنها تستعد لمجموعة لا تحصى من الاحتمالات بشأن كل شيء، بدءاً من شروط التجارة مع الدول الأوروبية، مروراً بقوانين الهجرة وصولاً إلى القوانين المحلية.
تتوقع النظرية الاقتصادية أن مواجهة مستقبل شديد الغموض ستدفع الشركات إلى تأجيل الاستثمارات والتوظيف والقرارات. وتشير دراستان حديثتان أن هذا تحديداً ما كان يحصل في المملكة المتحدة على مدى الأعوام الثلاثة الماضية، والذي تسبب بضرر كبير في اقتصادها.
ومن أجل قياس تأثير البريكست على اقتصاد المملكة المتحدة حتى الآن، أجرى اقتصاديون من جامعة "ستانفورد"، وبنك إنجلترا، وجامعة "نوتنغهام" وكلية لندن للاقتصاد، استبانات طرحوا فيها أسئلة على أكثر من 7,000 تنفيذي ضمن المملكة المتحدة عن أثر البريكست على شركاتهم. تضمنت الاستبانات أسئلة عن مقدار الوقت الذي يقضيه التنفيذيون في التحضير للبريكست، فنتجت عنها التقديرات التي ذكرناها آنفاً. كما سأل الباحثون التنفيذيون عن مقدار الغموض الذي ولده التصويت لصالح البريكست بالنسبة لشركاتهم. فحسبوا النسب المئوية للمشاركين الذين صنفوا خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي على أنها واحدة من أهم 3 مصادر للغموض في الأعمال واستخدموا هذا الرقم لإنشاء "مؤشر غموض البريكست". وفي تحليل سابق، وضح الباحثون أن غموض البريكست استمر بالارتفاع على مدى الأعوام الثلاثة الماضية ولم يتراجع مطلقاً.
كما ربط أحدث بحث لهم، والذي نُشر في شهر أغسطس/آب، إجابات هذه الاستبانات ببيانات أداء الشركات. وأشار إلى العلاقة العكسية بين تصنيف التنفيذيين للبريكست على أنه مصدر للغموض ونمو شركاتهم على مدى الأعوام التي تلت الاستفتاء، فكلما ارتفع التصنيف تناقص النمو وبالعكس. وبمقارنة نمو الشركات قبل استفتاء البريكست وبعده، تمكن الباحثون من تقدير آثار البريكست الكبيرة على الشركات، واستخدموا هذه التقديرات من أجل تقدير الأثر الكلي للتصويت على انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي على الاقتصاد في المملكة المتحدة.
يبين الباحثون أن التقديرات تشير إلى أن البريكست أدى إلى تخفيض الاستثمار تدريجياً بنحو 11% على مدى الأعوام الثلاثة التي تلت التصويت في يونيو/حزيران 2016. كما قدروا أن الإنتاجية في المملكة المتحدة تناقصت بنسبة تتراوح بين 2% و5%. (وقدروا أن هناك آثاراً سلبية للبريكست على العمالة أيضاً، ولكنها لم تكن كبيرة إحصائياً).
وتتوافق هذه الأرقام مع العناوين الرئيسة التي انتشرت مؤخراً، ففي أواخر عام 2018، نشرت صحيفة "الغارديان" تقريراً مفاده أن استثمارات الشركات في المملكة المتحدة تراجعت إلى أدنى مستوى لها منذ الركود العظيم، وأن الاقتصاد قد تراجع في الربع الثاني من عام 2019، الأمر الذي ذكرت صحيفة "فايننشال تايمز" أن جزءاً من أسبابه يعود إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وأثره على الاستثمار.
هل الغموض السياسي هو المسؤول حقاً عن كل هذا؟ أم أن مغادرة الاتحاد الأوروبي ستلحق ضرراً كبيراً بالمملكة المتحدة لدرجة تدفع الشركات للتراجع تحسباً لذلك؟ من الصعب التمييز بين هاتين الفكرتين، نظرياً وفعلياً على حد سواء. ولكن تعتمد إحدى المحاولات المهمة للقيام بذلك على بحث يحلل نصوص مكالمات الأرباح، حيث وجِد أن الغموض لعب دوراً رئيسياً.
وفي بحث سيصدر قريباً، درس أخصائي في الاقتصاد من جامعة "بوسطن"، وهو طارق حسان، مع زملائه نصوص 85 ألف مكالمة أرباح من الشركات العامة المدرجة بين عامي 2015 و2019، لمعرفة طريقة تحدثها عن البريكست، حيث ترافق ذكر البريكست في هذه الاتصالات مع انخفاض المبيعات والعمالة والربحية خلال تلك المدة العام. ولكن الأثر السلبي كان قوياً جداً خصوصاً عندما ورد ذكر بريكست برفقة كلمات تشير إلى الخطورة والغموض، ما يدل على أن الضرر قد وقع بسبب الغموض نفسه بالإضافة إلى احتمالات تراجع العمليات التجارية.
توضح هذه الدراسات مجتمعة كيف يمكن للغموض السياسي أن يوقع ضرراً كبيراً على الشركات والأنظمة الاقتصادية، وتتعدى عواقبه الدول الأوروبية. إذ يتزايد الغموض السياسي في العالم أجمع وفقاً لمؤشر غموض السياسات الاقتصادية الذي يتتبع الغموض بناء على تقارير الصحف. وهناك عدة عوامل تحرك هذا التزايد، وأهمها هو النزاع التجاري بين الولايات المتحدة والصين الذي يزعزع العلاقات التجارية في العالم. وفي هذا السياق، يقول نيكولاس بلوم، متخصص في الاقتصاد من جامعة "ستانفورد"، وهو مؤلف مشارك في البحث الأول: "إن بريكست هو إشارة تحذير للحركات المناهضة للتجارة".
إنه درس على قدر من الأهمية للشركات والسياسيين على حد سواء. يمكن أن يسبب الانسحاب من التجارة العالمية ضرراً اقتصادياً كبيراً، بما في ذلك انخفاض الإنتاجية وانخفاض الهجرة، إلا أن الطريقة المتبعة لتنفيذ هذا الانسحاب مهمة أيضاً. وإذا اتخذت الحركات المناهضة للتجارة إجراءات عشوائية وغير متوقعة، فستكون الآثار أسوأ من ذلك بكثير.