شهدت نهاية عام 2022 أسبوعين شاقين على الباحثين والمتخصصين في مجال الإدارة؛ فقد شهدوا خلالهما كارثة انهيار منصة إف تي إكس (FTX) للعملات المشفرة التي كانت قصة افتقارها إلى الضوابط لا تُصدَّق، وكان وقعها أسوأ من كارثة إنرون، وفقاً للسلطة التنفيذية المعينة للإشراف عليها خلال عملية إشهار الإفلاس. ولم يكن استحواذ إيلون ماسك على تويتر أقل كارثية، بداية من أسلوبه الفوضوي في تسريح العاملين وصولاً إلى طرح منتجات عبثية ثم التراجع عنها، مروراً بتغريداته المستفزة. وختاماً، فقد تم إسدال الستار على قصة ثيرانوس، حيث صدر الحكم على إليزابيث هولمز بالسجن 11 عاماً.

ثمة قاسم مشترك بين هذه القصص؛ إذ يجمع كل منها بين أساليب القيادة العبقرية اللامعة مع التجاهل الصارخ لممارسات الإدارة الواقعية.

كانت المشكلات التي تكتنف انهيار منصة إف تي إكس أكثر من أن تُعد أو تُحصى، لكن المشكلة المركزية تمثلت في الافتقار التام لأي من أنوع الرقابة والمحاسبة، بحسب رواية مات ليفين. لن تجعلك المحاسبة تتصدّر غلاف مجلة فورتشن، ولكن فرض القدر المناسب من الرقابة على أنشطة الشركة ومالياتها يُعتبَر الركيزة الأساسية للإدارة الرشيدة. ويبدو أنهم قد أغفلوا هذا العنصر في شركة إف تي إكس. فكيف استطاعت الشركة تحقيق النمو بهذه المعدلات الهائلة في غياب أيٍّ من أشكال الأنظمة الإدارية الأساسية؟ ثمة حقيقة مأساوية مفادها أن المستثمرين والعملاء ربما افترضوا أن الشركة يمكن أن تدار بفاعلية اعتماداً على الشخصية الكاريزمية لفريقها القيادي “العبقري” ورؤيته.

وكانت قصة تويتر الملحمية أكثر إثارة للاهتمام، تتخللها تغريدات ماسك المستمرة، وطرح المنتجات وسحبها، وتسريح العاملين بصورة جماعية ثم إعادة تعيين موظفين جدد، وفرض الحظر على العمل عن بُعد ثم التراجع عنه خلال يوم واحد. كانت هذه قصة أخرى تعبّر عن سلوك رئيس تنفيذي يفخر بإغفاله التام لأساسيات الإدارة ويُظهِر إيمانه اللامتناهي بالتأثير السحري لأسلوبه القيادي وأفكاره العبقرية. ويبدو أيضاً أن مسؤولي شركة تويتر لا يُبدون الكثير من الاحترام لأساسيات إدارة الموارد البشرية تحت قيادة ماسك. فقد بذل ماسك جهوداً مضنية لتحفيز موظفيه واستبقائهم، وحتى إذا أغفلنا فكرة أنه كان يأمل تشجيع الموظفين على الاستقالة، فقد أدت تصريحاته إلى تثبيط همم الكثير من الموظفين الذين كان يأمل استبقاءهم.

ما الدروس المستفادة من تجربة هذه الشركات؟ يبدو للمتابعين حتى الآن أن هذه الشركات قد وقعت ضحية لاعتقاد شائع للغاية يفيد بأن قيادة “الأبطال الخارقين” تتفوق على الإدارة النمطية. وهذا خطأ، من ناحيتين على الأقل.

أولاً: ثمة دليل واضح على أن الإدارة النمطية تشكّل عنصراً مهماً وأنها تُعتبَر بمثابة ميزة تنافسية للشركات التي تأخذها على محمل الجد. فقد أثبت بحثي الذي أجريته بالتعاون مع زملائي أن ممارسات الإدارة تختلف بصورة جذرية من شركة لأخرى داخل القطاع نفسه وفي شتى أنحاء العالم، وأن الشركات ذات الإدارة الرشيدة تحقق أرباحاً أعلى بكثير. وقد أكدت الأبحاث التجريبية اللاحقة أن الإدارة الرشيدة تسهم في تحسين أداء الشركات.

ما مقوّمات الإدارة الرشيدة؟ لا توجد إجابة جامعة مانعة، لكننا نركز في أبحاثنا على 3 جوانب: تحديد الأهداف والحوافز والرقابة. تضع الشركات التي تعمل تحت إشراف إدارة رشيدة أهدافاً استراتيجية معقولة، وتهيئ موظفيها للإسهام في تحقيقها، وتقيس مستوى تقدمهم. قد يسميها البعض أساليب إدارية نمطية، لكنني أفضل تسميتها مناهج إدارية رشيدة.

ثمة مشكلة أخرى تعتري نظرية الأبطال الخارقين وتتمثل في أنها تبالغ في تبسيط مفهوم القيادة الرشيدة. ولك أن تنظر مثلاً إلى الجدل الحالي حول إيلون ماسك؛ إذا يرى معجبو ماسك أن نجاحه في شركات تيسلا (Tesla) وسبيس إكس (SpaceX) وباي بال (PayPal) يثبت أنه قائد فذ، في حين أن منتقديه يرون أن الفوضى التي تعم شركة تويتر تثبت عكس ذلك.

بيد أن هذا التحليل مفرط في التبسيط. فقد أثبتت الأبحاث أن الرؤساء التنفيذيين يشكّلون عنصراً مهماً لنجاح الشركات، لكن إسهاماتهم ترتبط بأشياء تتجاوز الرؤية والفكر، وتعتمد بشكل حاسم على السياق نفسه.

واستناداً إلى أبحاثي حول دور الرئيس التنفيذي، فإنني أنظر إلى إسهامات قادة الشركة من خلال 3 أبعاد. أولاً: البُعد الذي أسميه “التمايز الرأسي”، وهو البُعد الأكثر شيوعاً، وفيه يكون البعض أكثر ذكاءً أو أكثر قدرة على التفكير الاستراتيجي أو أكثر دراية أو يمتلك شخصية أكثر كاريزمية، ويلائم دوره الوظيفي على وجه العموم “أكثر” من غيره. على سبيل المثال، توصلت دراسة أُجريت على الرؤساء التنفيذيين السويديين إلى أن متوسط ذكاء رؤساء الشركات الكبيرة كان ضمن أعلى 17% من السكان. وربما كان هذا البُعد سبباً رئيسياً وراء المعارك التي نشبت عبر الإنترنت حول إيلون ماسك، وطرحت أسئلة جدلية من قبيل: هل هو عبقري يمتلك رؤية فذة أم شخص غير كفء؟ لكن ذلك ليس سوى جزء من المعادلة.

يتمايز الرؤساء التنفيذيون أفقياً أيضاً، وهذا يعني أنهم يمتلكون مجموعة متنوعة من المهارات والمعارف وأساليب القيادة المختلفة، التي قد تتناسب أو لا تتناسب مع سياق قطاع أو موقف معين. فقد يكون الجنرال السابق رائعاً في قيادة العمليات العسكرية، ولكنه غير مناسب لوظيفة الرئيس التنفيذي في شركة برمجيات ناشئة، والعكس صحيح. ويمكن اعتبار عودة بوب آيغر غير المتوقعة إلى ديزني دليلاً إضافياً على مدى أهمية “الملاءمة الوظيفية” للنجاح في المناصب العليا.

وأخيراً، هناك التعقيد الجمعي للقيمة المضافة التي يحققها الرئيس التنفيذي، ولا تشكّل مجرد وظيفة لما يفعله بشكل فردي، ولكنها تجسّد مدى قدرته على التأثير فيما يفعله الآخرون في الشركة؛ حيث يؤثر الرؤساء التنفيذيون الناجحون على فرقهم ويحفزونها، وهذه في الأساس مهارة اجتماعية وليست مسألة رؤية أو ذكاء. وقد وثّق بحثي الفكرة التي تفيد بأن توافر هذه المهارات الاجتماعية فيمن يشغلون المناصب التنفيذية العليا أمر مطلوب بشدة.

تبسِّط سردية الأبطال الخارقين كل المناقشات حول التمايز الرأسي، لأن الجدل حولها ممتع، كما أنها تشكّل قصة بسيطة يسهل على وسائل الإعلام روايتها وتغطيتها. أمّا العاملان الآخران، أي المهارات المرتبطة بالسياق والقدرة على التأثير في المؤسسة، فيصعب مناقشتهما ولن تؤدي الكتابة عنهما إلى حبك قصة ممتعة. ولكن عندما يولي الناس اهتماماً كبيراً للعامل الأول على حساب العاملين الآخرين، فإنهم يتخذون خيارات سيئة على مستوى التوظيف والمستوى الاستثماري.

كيف يختلف هذا التقييم المكون من 3 أجزاء عن قصة البطل الخارق فيما يتعلق بقصة إيلون ماسك وتويتر؟ سيؤدي ذلك إلى إحكام الجدل الذي يبدو أن كلاً من معجبيه ونقاده يخوضونه، وسيجعلهم بدلاً من ذلك يحللون العوامل الثلاثة المذكورة أعلاه. وبدلاً من الاكتفاء بالجدل حول ما إذا كان ماسك رئيسياً تنفيذياً جيداً على وجه العموم، يمكننا أن نسأل عما إذا كان يمتلك المهارات والخبرات اللازمة لإدارة منصة متخصصة في وسائل التواصل الاجتماعي وما إذا كان سيتمكن من تحفيز فريق العمل وإدارته. على سبيل المثال، من المنطقي تماماً التفكير في أن ماسك رئيس تنفيذي يمتلك مهارات أعلى من المتوسط، ولكنه قد لا يكون ملائماً لإدارة منصة متخصصة في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث أكّد سلوكه في الجولات التمهيدية للاستحواذ على تويتر أنه لن يكون قادراً على التأثير في الناس الذين يحتاج إليهم من أجل تحقيق النجاح.

يصعب الحديث عن هذه النظرية القيادية على أغلفة المجلات، وبالتالي غالباً ما يطويها النسيان، لكن تجاهل العلاقة المعقدة بين القادة ومؤسساتهم أمر يضر كلاً من المستثمرين والمستهلكين، وفي النهاية للمدراء والرؤساء التنفيذيين أيضاً.