منذ عام 2013، وضعت الإمارات معالم حكومة ذكية "تسهل حياة الناس وتحقق لهم السعادة"، من بين خصائصها أنها "مضيافة كالفنادق" و"لا تنام" و"تعمل 24 ساعة في اليوم" و"7 أيّام في الأسبوع". وقطعت البلاد بين ذلك التاريخ ويومنا هذا أشواطاً فارقة في تحويل هذه الرؤية إلى واقع. ولسائل أن يسأل: ما الحاجة إلى إرساء حكومة رقمية؟ حسب البنك الدولي، تسد الحكومة الرقمية حاجات جمة، ليس أقلها تحسين الخدمات الحكومية المقدمة للمواطنين والشركات وتبادل المعلومات بين القطاعات الحكومية وتمكين المواطنين من الوصول إلى المعلومات. وتسهم بذلك في تقليص الفساد ورفع مستويات الشفافية وزيادة النمو وتقليص بعض النفقات.
وعلى مدى الأعوام الماضية، حولت الإمارات الخدمات الحكومية الإلكترونية إلى خدمات ذكية انطلقت فيها من عقلية تبوِّئ المتعاملين مع الإدارات الحكومية مكانة الصدارة وتسعى إلى نيل رضاهم بل إسعادهم. واستلهمت الحكومة الذكية بالإمارات مبادئ عمل الفنادق في التعامل مع الزبائن وسخّرت التكنولوجيا لتقديم خدمات سريعة وفعالة.
يقول يوسف محمد الشيبة، من دائرة البلدية والتخطيط بعجمان، في مقابلة معي ضمن كتاب "الأمة الرقمية"، الذي ألفتُه بشكل مشترك مع رانجيت راجان: "أذكر أن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد قال إننا نحتاج إلى أن نكون مثل القطاع الخاص، وأن نعمل بصورة أسرع، ونقلّص الوقت الذي تستغرقه المعاملات، وتقديم الخدمات في مراكزنا مثل فندق خمس نجوم".
وحلت الإمارات العربية المتحدة ضمن الدول الخمس عشرة الأولى الرائدة في العالم بمؤشر تنمية الحكومة الإلكترونية (EGDI) الصادر في 2022، وهو مؤشر تصدره إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية التابعة للأمم المتحدة.
حكومة تعمل بلا توقف
هذه النقلة الكبرى التي حققتها الإمارات في تحسين خدمات القطاعات الحكومية للمواطنين هي ثمرة رؤية مدروسة لفلسفة قيادة الدولة وسلسلة من الخدمات الرقمية الجديدة التي مكّنت البلاد من الذهاب بعيداً في هذا المضمار.
ويشرح يوسف الشيبة كيف يسهم الذكاء الاصطناعي في تحقيق مفهوم "حكومة تعمل بلا توقف"، قائلاً: "رؤيتنا تكمن في حكومة تعمل من دون توقف. وهنا؛ لا بد أن نتساءل كيف سنقوم بتقديم خدماتنا كافة على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع من دون أي تدخل، أو أي أخطاء بشرية؟ الإجابة تكمن في الذكاء الاصطناعي الذي يجب أن يكون في صميم أنظمتنا الآن".
ومن شأن عملية توسيع نطاق العمليات الحكومية، وزيادة عدد الموظفين، وتوفير البنية التحتية اللازمة لتقديم خدمات بلا توقف، أن تكون مكلفة للغاية. لكن بفضل التقنيات مثل الذكاء الاصطناعي، أصبح بالإمكان تقديم خدمات مخصصة أكثر، وذات جودة عالية على نطاق أوسع.
تطبيق الهوية الرقمية
تطبيق الهوية الرقمية "حلٌّ موحد للهوية الوطنية الرقمية والتوقيع الرقمي" يسمح بوصول المستخدمين بشكل آمن إلى خدمات مزوّدي الخدمات عبر الهواتف الذكية من دون الحاجة إلى كلمة سر، أو اسم مستخدم.
وربط هذا التطبيق الذي أطلقته دبي الذكية عام 2018 في إطار الشراكة مع الهيئة العامة لتنظيم قطاع الاتصالات، وبالتعاون مع هيئة أبوظبي الرقمية، ومركز دبي للأمن الإلكتروني، والهيئة الاتحادية للهوية والجنسية، بين 7 جهات حكومية رائدة آنذاك. واليوم، وصل عدد الجهات إلى ما يزيد على 90 جهة حكومية.
ويقول يوسف محمد الشيبة: "إن الرؤية تشكّل تحولاً كلياً في الطريقة التي كنا نعمل بها في الماضي. في الواقع لقد أحدثت أثراً إيجابياً كبيراً جداً في الأداء الحكومي والقيمة التي توفرها الحكومة".
دبي: قائدة السرب
تقود دبي الرقمية رحلة التحول الرقمي التي تخوضها حكومة دبي. وأصبحت المؤسسة في عام 2015 تُعرف باسم دبي الذكية، بعد إطلاقها في عام 2000 تحت اسم "حكومة دبي الإلكترونية". ولا تهدف إلى تقديم خدمات ذكية للمقيمين والزوار فقط. إنما تحويل دبي إلى المدينة الأذكى والأسعد في العالم.
ولتحقيق هذه الغاية، أمضت الإمارة سنوات طويلة في تحطيم النهج الانعزالي الذي كان سائداً، وتشجيع التعاون بين مؤسسات القطاع العام، وبناء الشراكات مع مؤسسات من القطاع الخاص.
وبعد إنشاء منصة موحدة للخدمات عبر الهاتف الذكي، تمثّلت الخطوة التالية في تمكين "مسارات المتعاملين"، حيث يمكن للمتعاملين تنفيذ معاملاتهم كافة والمرتبطة بمسارات حياتهم، مثل الحصول على الخدمات المتعلّقة بمسارات، مثل "القيادة"، أو "تملك منزل" من خلال نافذة واحدة، من دون الاضطرار إلى التعامل مع المؤسسات الفردية من القطاعين العام، أو الخاص.
ولا يقتصر التحول على خدمات المواطنين والمقيمن، إذ أُطلقت مبادرات مماثلة لتوفير الخدمات الرقمية للشركات أيضاً. وفي هذا السياق، عمدت دائرة التنمية الاقتصادية بدبي، المسؤولة عن تحسين سهولة ممارسة أنشطة الأعمال في الإمارة إلى تحويل خدماتها بسرعة.
"نقوم باستحداث دبي افتراضية"
يقول المدير التنفيذي لقطاع الشؤون الاستراتيجية المؤسسية في دائرة التنمية الاقتصادية بدبي محمد شاعل السعدي: "إن ما نقوم به اليوم هو استحداث دبي الرقمية، أو دبي الافتراضية، إضافة إلى الإمارة الفعلية، إذ نعمل على استحداث نموذجين للإمارة، وسيحصل الجميع في دبي على كيانين، أحدهما فعلي والآخر رقمي، على أن يتيح الكيان الرقمي فرصة استخدام الموارد المتاحة كلها في المدينة".
إن الالتزام بتسخير التقنيات المزعزعة، مثل الذكاء الاصطناعي وتقنية بلوك تشين لتلبية الاحتياجات يفسح المجال أمام تحقيق التحول. وتعد تقنية بلوك تشين أحد العناصر المهمة ضمن العديد من مبادرات دبي الذكية.
وتستحدث هذه التقنية قاعدة بيانات لا مركزية تكاد تكون غير قابلة للاختراق، تتضمن نظاماً مشتركاً للسجلات، ما يلغي الحاجة إلى تسويات دفتر الأستاذ المختلفة، ما يعزز الثقة والشفافية على حد سواء. ويتم تشجيع استخدام هذه التقنية على نطاق واسع، في ظل سعي دبي الذكية إلى إجراء المعاملات الحكومية القابلة للتطبيق كافة بواسطة تقنية بلوك تشين، ما يجعل دبي معياراً ومرجعاً عالمياً لتنفيذ هذه التقنية.
بلوك تشين دبي: أزيد من 6 مليارات معاملة سنوياً
بعد إطلاق نظام "سداد دبي" للتسوية والمطابقة عبر تقنية بلوك تشين، عملت دبي الذكية بالتعاون مع "آي بي إم" على إطلاق منصة بلوك تشين دبي.
وكان من شأن هذه المنصة القادرة على إجراء أكثر من 6.2 مليارات معاملة إلكترونية سنوياً أن تشكل نقطة انطلاق لتمكين المؤسسات الحكومية من إحداث تحول في اختباراتها لتقنية بلوك تشين وتطويرها إلى مرحلة الإنتاج الكامل، ومن ثم تحويل ورقمنة العمليات والخدمات الحكومية المتوافقة المقدمة للجمهور. ويعد نظام "سداد دبي" للتسوية والمطابقة عبر تقنية بلوك تشين من بين المشروعات الأولى التي ستنتقل إلى المنصة.
وقد تمكنت 6 جهات حكومية في دبي شاركت في المرحلة الأولى من استراتيجية دبي للمعاملات اللاورقية، من خفض استخدامها للورق بنسبة 57% في شهر يناير/كانون الثاني 2019، كما بدأت غالبية مؤسسات القطاع العام في الإمارات باختبار تقنيات الذكاء الاصطناعي وتجربتها، والاستفادة منها في خدمة المتعاملين وأتمتة المهام البسيطة.
وأطلقت دبي الذكية مستشار المدينة الذكي في البداية تحت اسم "سعد" ولاحقاً أطلقت عليه اسم "راشد" تكريماً للراحل الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم. ويكمن في قلب هذه المبادرات كلها إدراك أن الذكاء الاصطناعي قد يسهم في تنمية القدرات البشرية بشكل ملحوظ، ويشمل ذلك تعزيز مشاركة المتعاملين، وأتمتة أعباء العمل وتحسين التحليلات، وزيادة الإنتاجية في مكان العمل.
منصة "تم"
على نحو متصل، تولت هيئة أبوظبي الرقمية مسؤولية تنفيذ الخدمات الحكومية الرقمية في العاصمة الإماراتية، في الوقت الذي أحرزت فيه دبي الذكية تقدماً ملحوظاً في عملية رقمنة إمارة دبي. وجرى توفير هذه الخدمات عبر منصة "تم" التي تهدف إلى توفير الخدمات الحكومية كافة للمقيمين والزائرين على حد سواء. وجمعها تحت سقف واحد بحلول عام 2021.
وإلى الآن تتوافر ما يزيد على 200 خدمة عبر المنصة، من بينها خدمات تقدمها حكومة أبوظبي المحلية، والحكومة الاتحادية، وشركات من القطاع الخاص وجهات حكومية من الإمارات الأخرى.
وأُطلقت أيضاً، الخدمات المتوائمة مع مسارات المتعاملين في أبوظبي. فعلى سبيل المثال، توفر الخدمة الإلكترونية "مبروك ما ياك" التي أطلقتها دائرة الصحة في أبوظبي لتهنئة الوالدين بمولودهما الجديد، باقة من الخدمات المتكاملة، تشمل استخراج شهادة ميلاد، وبطاقة هوية، وجواز سفر، على أن تتم إضافته في خلاصة القيد وتسجيله بالسجل السكاني. وتهدف هذه الخدمة إلى تقليل عدد زيارات المتعاملين إلى الجهات الحكومية من 7 إلى زيارة واحدة فقط.