هل تدير الروبوتات أموالك؟ ستكون الإجابة نعم بالنسبة للكثير منا؛ فمن السهل في هذه الأيام الحصول على المشورة المعتمدة على الخوارزميات عبر الإنترنت في المجال المالي والاستثمار، وعادة ما يكون الأمر تحت مسمى خدمات "الاستشارة الآلية". أطلقت بعض الشركات الناشئة مثل ويلث فرونت (Wealthfront) وبيرسونال كابيتال (Personal Capital) وبترمنت (Betterment) خدمات استشارة آلية كابتكارات مزعزعة للمجال، كما شاركت الشركات الكبيرة الناجحة في هذا المجال مثل المستشار الذكي (Intelligent Advisor) الخاص بشركة شواب (Schwab) وخدمات الاستشارة الشخصية (Personal Advisor Services) التي تقدمها شركة فانغارد (Vanguard) ومثل شركة مورغان ستاينلي، وبلاك روك التي شاركت في هذه التجربة بتقديم حلولها الهجينة الخاصة بها التي تجمع بين المستشار البشري والآلة. من الواضح أنّ خدمات الاستشارة الآلية والذكاء الاصطناعي يلعبان دوراً متزايد الأهمية في مجال الخدمات المالية. ولكن يبقى السؤال: هل ستسبب خدمات الاستشارة الآلية زعزعة في تخصيص رؤوس أموال الشركات بالطريقة نفسها التي أحدثت فيها زعزعة في تخصيص رؤوس الأموال الشخصية؟ وهل ستحدث تعديلاً جذرياً في مجال تقديم الاستشارات والنصائح للشركات والذي يقدر بتريليونات الدولارات؟
تلتهم الاستشارة الآلية، والتي تم استحداثها في العام 2008، الحصة السوقية من نظرائها البشر بثبات، كما فعلت أمازون ونتفليكس تماماً مع وول مارت وريغال سينيماز (Regal Cinemas).
قدّرت دراسة أجرتها شركة ديلويت نمو "الأصول المدارة آلياً" (بما في ذلك العروض الهجينة) في الولايات المتحدة إلى 5 تريليون دولار أميركي ويصل الرقم إلى 7 تريليون دولار أميركي بحلول العام 2025 صعوداً من قيمتها التي تبلغ 300 مليار دولار أميركي اليوم. وهذا يمثل 10 إلى 15% تقريباً من مجمل الأصول المالية المدارة على مستوى التجزئة. وفي نهاية العام 2016، قدّرت وكالة فيتش للتصنيفات (Fitch Ratings) قيمة الأصول المدارة آلياً لتكون 100 مليار دولار أميركي وتتوقع نمواً بمعدل عشري للأصول المدارة على مدى الأعوام القادمة. وأخيراً، تتنبأ شركة أيه تي كيرني (A.T. Kearney) أنّ الأصول المدارة آلياً ستبلغ قيمتها 2.2 تريليون دولار بحلول العام 2021.
إذا كان يمكن للاستثمار الموجّه بالذكاء الاصطناعي أن يخدم الأفراد، هل يمكن أن يخدم الشركات أيضاً؟ تقوم الشركات بشراء وتوظيف الاستشارات البشرية التي يقدمها المستشارون الحكماء (مستشارون ومحامون ومصرفيّو البنوك الاستثمارية) بالطريقة ذاتها التي اتبعها المستثمرون سابقاً. إنّ استراتيجية الشركات معقدة والاستشارة مكلفة. على أي حال عادة ما تكون الطرق التي يتبعها المستشارون مبنية على البيانات وموجّهة بالخبرات السابقة، وهذا هو النوع المناسب تماماً من المشاكل التي يمكنها أن تستفيد من ذكاء الآلة.
هذا يجعل من استراتيجية الشركات غنيمة كبيرة وغير مُستفاد منها بالنسبة للاستشارات "الآلية" المتخصصة و"المعتمدة على الذكاء الاصطناعي" عبر المؤسسة بأكملها؛ وتُعتبر هذه السوق جاهزة للزعزعة تماماً كما كان الاستثمار المالي في العام 2008. إنّ التسويق والمبيعات والتصنيع والتوظيف (بما في ذلك تقييم الناس) وخدمة العملاء والدعم كلها مجالات يمكن أن تستفيد من الذكاء الاصطناعي وفقاً لبحث أعدّته شركة ماكنزي مؤخراً. إذ أنه هنالك العديد من الأسباب وراء هذه الزعزعة المحتمَلة:
- هناك تفجر في كمية البيانات المؤسسية. في الواقع، تتضاعف هذه الكمية كل 14 شهراً وستصل إلى 10.5 زيتابايت بحلول العام 2020. هذه البيانات مالية (الإيرادات والأرباح والنمو) وغير مالية أيضاً (إحساس العملاء وانخراط الموظف وفعالية التسويق والتعليقات حول المنتج والنظم الإيكولوجية الشريكة). ويخلق توافر هذه البيانات مجالاً خصباً لخدمات الاستشارة الآلية لتقديم رؤى وتوصيات خوارزمية تقدم استشارات ذات تنبؤية عالية ومقاومة للأخطاء ومنخفضة التكاليف.
- تعدُ الشركات مشغِّلاً ومستثمراً في الوقت نفسه. يظهر البحث الذي أعدّته شركة ماكنزي أنّ شركات الولايات المتحدة تخصّص حوالي 650 مليار دولار سنوياً لجميع أنشطتها، سواء كانت مالية أو بدنية أو بشرية أو فكرية أو خاصة برؤوس أموال العملاء. ولكن هذه الشركات لا تملك أدوات أو ممارسات لتخصيص رأس المال بأفضل شكل ممكن، وكنتيجة فإنّ 92% من الشركات تخصص رأس مالها بالطريقة ذاتها عاماً بعد عام. يمكن لمعظم المؤسسات أن تتلقى بعض المساعدة في اتخاذ قرارات استثمارية حكيمة مثل المستثمرين الأفراد تماماً.
- ينمو الذكاء الاصطناعي بسرعة فائقة في المؤسسات. (بكل المقاييس تقريباً)، تستثمر الشركات الرقمية مثل جوجل وفيسبوك ومايكروسوفت مبالغاً ضخمة في الذكاء الاصطناعي (ما بين 20 و30 مليار دولار فقط في عام 2016). كما توظف العديد من الشركات الراسخة، والتي تبلغ نسبتها 20% بحسب استبيان شركة ديلويت في عام 2017 استثمارات كبيرة في الذكاء الاصطناعي كذلك. كما أنّ أصحاب رؤوس الأموال الاستثمارية شاركوا بحماس أيضاً؛ إذ تم استثمار 4 إلى 5 مليارات دولار من قبل أصحاب رؤوس الأموال في العام 2016. وأخيراً، استثمرت شركات الأسهم الخاصة مليار إلى 3 مليارات دولار. تمثل هذه الأرقام أكثر من ثلاثة أضعاف ما تم استثماره في العام 2013.
- تكاليف الأدوات المعتمدة على الذكاء الاصطناعي في انخفاض مع ازدياد توافرها. إنّ الأدوات ذات الملكية مثل جهاز واتسون من آي بي إم، وكذلك الأدوات مفتوحة المصدر من شركات مثل جوجل ومايكروسوفت وأمازون، متوافرة بشكل واسع. كما أنّ العتاد المعتمد على التقنيات السحابية متوافر لأي شركة بشكل متزايد وبتكلفة منخفضة.
- يمكن للشركات في جميع المجالات أن تستفيد من اتخاذ قرارات مبنية على الخوارزميات والبيانات في مجال العمليات الداخلية والمالية؛ وهذا بسبب ازدياد استخدام التحليلات في كل وظيفة ومجال، وتُعد الاستشارة الآلية امتداداً واسعاً لهذه الأدوات التحليلية.
أصبحنا أكثر راحة تجاه تلقي المشورة من الروبوتات في جميع المواقف من اختيار فيلم لمشاهدته إلى تخطيط أموال التقاعد. وبالنظر إلى الأساس الذي تم وضعه للذكاء الاصطناعي في الشركات، لن يتعدى الأمر كونه مسألة وقت قبل أن يتعرض مجال الاستشارات الذي يبلغ 60 مليار دولار للزعزعة من قبل الاستشارة الآلية. هنالك 3 استراتيجيات يمكن اتباعها لمن يريد أن يبقى في الطليعة:
بناء حلول أحادية النشاط: بدأت العديد من شركات خدمات الاستشارة الآلية عروضها بتقديم استشارات تعتمد على الآلة فقط. كان هدفها تحقيق أقل سعر ممكن واستمالة عملاء الجيل الرقمي. ولكن مع نمو الشركات التي تقدم استشارات هجينة بشكل سريع، تحافظ الآن معظم الشركات الناشئة على تقديم الاستشارة البشرية أيضاً، مقابل أجر أعلى. إلا أنّ شركة ويلث فرونت وحدها استمرت بالاقتصار على تقديم استشارات آلية تعتمد على الآلة فقط. هذا يشير إلى أنه ينبغي على مزودي خدمات الاستشارات الآلية التفكير بعناية قبل التخلي عن العنصر البشري تماماً. وفي شركة فانغارد، تقدم "خدمة الاستشارة الشخصية" المستشارين على أنهم "مدربو استثمار" قادرون على الإجابة عن أسئلة المستثمرين والتشجيع على السلوك المالي الصحي و"ألا يتأثروا بالمشاعر" على حد تعبير شركة فانغارد ليستمروا في اتباع خططهم. من المرجح أن يكون هنالك ما يعادل هذه الوظائف في الشركات.
اصنع خدمة استشارة آلية خاصة بك: يمكن للشركات أن تطور خدمات استشارة آلية أو شبه آلية لاستخدامها في مجال القرارات الرئيسية. وهذا ما تحاول مستشفيات علاج السرطان على سبيل المثال أن تفعله باستخدام جهاز واتسون من آي بي إم في مجال رعاية مرضى السرطان، وهو أيضاً ما يفعله عملاء منصات التعلم الآلي شبه المؤتمتة في مجال صناعة القرارات الكمية (منصة داتاروبوت DataRobot هي أحد الأمثلة، وكذلك خدمة أوتو إم إل AutoML المقدمة من جوجل). على أي حال، فإنّ تطوير خدمة استشارات آلية خاصة بالاستخدام الداخلي للشركة قد يكون أكثر صعوبة وتكلفة مما قد تكون هذه الشركات على استعداد للمجازفة فيه. بالإضافة إلى أنّ هذا الأمر حتماً خارج مجال اختصاص معظم الشركات الراسخة، ما يقودنا إلى الخيار الثالث.
مشاركة إحدى الشركات المزودة لمثل هذه الخدمات أو الاستحواذ عليها: في مجال الاستشارات الآلية المالية، تحاول الشركات التي لم تدخل إلى السوق مبكراً أن تتحرك بسرعة إما بهدف مشاركة شركة ناشئة أو الاستحواذ على إحداها. على سبيل المثال: شركة بلاك روك التي استحوذت مؤخراً على شركة فيوتشر أدفايزر (FutureAdvisor) مقابل 150 إلى 200 مليون دولار معلن عنها؛ وشراكة شركة جيه بي مورغان (JPMorgan) مؤخراً مع موتيف إنفستينغ (Motif Investing)، واستثمار يو بي إس (UBS) في أسهم سيغ فيغ (SigFig). من المرجح أن يصبح هنالك العديد من موردي خدمات الاستشارة الآلية المؤسسية، على الرغم من أنها ليست متوافرة على نطاق واسع حالياً.
بغض النظر عن الاستراتيجية التي تتبعها، يبدو أنّ الاستشارة الآلية في الشركات تقتحم عدة أجزاء داخل المؤسسة، بالطريقة ذاتها التي انتشرت فيها البرمجيات عبر سلسلة القيمة على مدى العقدَين السابقين. إنّ خدمات الاستشارة الآلية لديها القدرة على تقديم مجموعة واسعة من الاستشارات، وقد يكون هنالك مجموعة من الأدوات المتخصصة أيضاً في مجالات قرارات معينة. وقد يتم استخدام هذه الخدمات الآلية في أتمتة بعض جوانب إدارة المخاطر وتقديم قرارات أخلاقية ومتوافقة مع الأنظمة. في المجالات كثيفة البيانات مثل التسويق وإدارة سلسلة التوريد، من المرجح أن تكون النتائج والقرارات التي تقدمها الخوارزميات الآلية أكثر دقة من تلك الناتجة عن الحدس البشري.
وأخيراً، فقد أصبح من الواضح أنّ الشركات التي تتبنى الذكاء الاصطناعي بجدية وتتبع استراتيجيات استباقية بناء عليه، سوف تستفيد من هوامش الربح المرتفعة. في الواقع يشير استبيان شركة ماكنزي إلى أنّ الشركات المتصدرة أدلت بهوامش ربحية حالية أعلى بـ3 نقاط إلى 15 نقطة مئوية من المتوسط المعمول به في معظم قطاعات هذا المجال، كما أنهم يتوقعون نمو هذه الميزة في المستقبل. وفي الأعوام الثلاثة القادمة، تتوقع الشركات الرائدة في الذكاء الاصطناعي أن تزداد هوامشها لتصل إلى 7 نقاط مئوية أعلى من المتوسط.
من المستبعد أن يختفي المستشارون التقليديون وغيرهم من مزودي استشارات الشركات. كحال المستشارين البشر الذين ما زالوا مكمّلين للاستشارة الآلية في عالم الاستثمار، يمكنهم تقديم عدد من الوظائف الرئيسية. هنا نقدم عدة طرق يمكن من خلالها لمستشاري الشركات أن يكملوا عمل خدمات الاستشارة الآلية التي ستصبح شريكاً في المستقبل:
- دمج مصادر الاستشارات المختلفة عبر الإنترنت، ومساعدة العملاء وشركات الاستثمار على فهم الأنظمة التي يمكنهم استخدامها لأهداف معينة. يمكن للمستشارين البشر أيضاً، مثل مدراء صناديق التحوط، أن يحللوا نتائج القرارات المدروسة من قبل الآلة وتقديم المشورة للعملاء حول ما إذا كان هنالك تغييرات ضرورية في الخوارزميات والمنطق المستخدم في هذه الآلات.
- التحول إلى تقديم المشورة بشأن نماذج العمل، وعدم الاقتصار على الاستراتيجية والعمليات. أشرنا في مقال أصدر مؤخراً إلى أنه من شأن تعلم الآلة أن تعرّض المشورة المقدّمة من قبل نخبة المستشارين للخطر. ولكن بحثنا يشير أيضاً كما تشير أبحاث أخرى إلى إمكانية تركيز المستشارين على نماذج العمل الخاصة بعملائهم بدلاً من الاقتصار على الاستراتيجية والعمليات وأفضل الممارسات لضمان النمو المستقبلي والأهمية والنجاح.
- قدم التدريب السلوكي. بما أنّ المشورة المتعلقة باستراتيجية الشركات تتعرض للزعزعة من قبل الخوارزميات والذكاء الاصطناعي، يمكن لمستشاري الشركات أن يدرّبوا القادة على أفضل طريق للنجاح باستخدام مهاراتهم في الذكاء العاطفي. كما هو الحال مع المدربين السلوكيين في مجال الاستثمار الفردي، ويمكن أيضاً لمدربي الشركات على سبيل المثال أن يردعوا القادة ومجالس الإدارة عن شراء شركات تتصدر السوق أو عن البيع عند انهيار الأسواق. كما يمكن لهؤلاء المدربين أن يساعدوهم في إدارة التغيير بما أنّ الآلات الذكية تقدم رؤى جديدة بسرعة متزايدة.
وفي حين أنّ تفاصيل تبني المشورة المؤتمتة التي تقدمها خدمات الاستشارة الآلية ما تزال غير واضحة في جميع المجالات، ومن المحتمل أن نجد خدمات الاستشارة المؤتمتة في عدة مجالات في المستقبل. تُعتبر هذه الخدمات موجودة فعلاً في مجال الاستثمار الشخصي وأدوات الملاحة (مثل خرائط جوجل وتطبيق ويز Waze)، والمواقع التي تقوم بدور وسيط للتعارف (مثل موقع EHarmony وMatch.com)، والرعاية الصحية (موقع WebMD للتحقق من الأعراض والعلامات). ومن المنطقي أن تمتد لتصل إلى مجال استراتيجية الشركات والمجال المالي. لقد كانت شركات الخدمات المالية والمستشارين الماليين وعملائهم أول من عاين الزعزعة المستدامة، ولكنهم لن يكونوا آخر من يشهدها. ربما لن يتلاشى زمن المناقشات المباشرة بين العميل والمستشار كلياً ولكنها ستتحول من إجراء عمليات حسابية إلى تغيير السلوكيات وتنشئة العلاقات مع العملاء. كما قال إيان دود، مدير شركة التحليلات القانونية بريمونيشن (Premonition) إلى شبكة بي بي سي: "ستختفي الوظائف التي تحتاج إلى المعرفة وتبقى تلك التي تحتاج إلى الحكمة".