تخيل نفسك في ملعب التدريب بمدينة سانتا كلارا في ولاية كاليفورنيا؛ في ربيع عام 2019، تتابع تدريب لاعبات المنتخب الأميركي لكرة القدم للسيدات استعداداً للمشاركة في كأس العالم، فتشاهد نجمات المنتخب كارلي لويد وميغان رابينو وأليكس مورغان وجولي إرتز يقطعن الملعب جيئة وذهاباً، ويخطئن أحياناً في تمرير الكرة أو تسديد الهدف. ثم تسمعهّن بعد ضياع التمريرة أو التسديدة يصرخن بعبارة غريبة: "لنضعها في الصندوق الأسود".
ماذا يقصدن؟ بالإضافة إلى التدريب على التمرير والتسديد والدفاع، كنّ يتدرّبن أيضاً على مهارة مهمة هي مهارة عزل الأخطاء؛ إذ كنّ يضعنها في صندوق أسود خيالي. هذه الاستراتيجية المعروفة باسم "التخزين في الصندوق الأسود" تمثّل أحد الأساليب التي استخدمناها لتدريب أفضل الرياضيين وقادة الشركات والعسكريين والمسعفين في العالم على مدى مسارنا المهني.
أحد كاتبَي هذا المقال مختص في علم النفس السريري والأداء (إريك)، والثاني مستشار في التواصل التنفيذي (آلان). طوال 3 عقود من العمل مع القوى العاملة ساعدنا العديد من أصحاب الأداء العالي في تخصصات وقطاعات مختلفة، بدءاً بجنود البحرية الأميركية وصولاً إلى المدراء التنفيذيين في شركة جوجل. وأظهرت خبرتنا المشتركة أن ما يميز نخبة أصحاب الأداء العالي عن الآخرين ليس عدم ارتكاب الأخطاء، فالناس جميعاً يخطئون بمن في ذلك النجوم. إن ما يميّزهم فعلاً هو كيفية تفاعلهم مع هذه الأخطاء. تعلّم أصحاب الأداء المتميز مجموعة من القواعد الذهنية التي تسمح لهم بتقديم أفضل ما لديهم في الظروف كلّها، وفي بيئة العمل المهني تبدو تقنية "تخزين الأخطاء في الصندوق الأسود" نهجاً مفيداً جداً، يستطيع أيّ شخص استخدامه لرفع مستوى أدائه.
كيف تخزّن أخطاءك في الصندوق الأسود؟
ترتكز تقنية "تخزين الأخطاء في الصندوق الأسود" على القوة الذهنية، أو القدرة على التحكم بالاستجابة الغريزية المتمثلة بالمواجهة أو الهرب بعد ارتكاب خطأ في العمل.
لقد مررنا جميعاً بمواقف مماثلة من خلال تجارب عديدة، مثل الفشل عند محاولة الإجابة بشجاعة عن سؤال في اجتماع مهم، أو التعرض لخطأ تقني أوقف استعراض المواد التي عملنا ساعات لإنجازها من أجل عرض تقديمي مهم. عندما تحدث هذه المواقف نجد أنفسنا في مفترق طرق صعب أمام خيارين:
الخيار الأول: أن نسمح لاستجابة المواجهة أو الهرب بالسيطرة علينا، فيبدأ التعرق المفاجئ ولوم النفس على ارتكاب الخطأ، ويرتفع معدل ضربات القلب وإيقاع التنفس، وتصبح حواسنا أكثر حدّة، والأهم من ذلك أن قدراتنا على حل المشكلات والتمييز واتخاذ القرار تصبح ضعيفة.
الخيار 2: أن نأخذ نفساً عميقاً ونترك المشكلة جانباً ونوجه تركيزنا من جديد نحو إنجاز المهمة التي بين أيدينا.
نظرياً ندرك أن أفضل ما يمكن فعله هو ترك المشكلة جانباً والعودة إلى إنجاز مهمتنا، لكن عملياً يبدو قول ذلك أسهل من تطبيقه، وهنا تكمن فائدة تقنية الصندوق الأسود.
إذا شعرت بسيطرة استجابة المواجهة أو الهرب عليك، فتمهل قليلاً وتخيّل صورة صندوق أسود في ذهنك. خذ نفساً عميقاً، وقل في نفسك: "ليس هذا وقت التفكير في الخطأ"، ثم تخيّل أنك تضع سبب تعثّرك داخل ذلك الصندوق الأسود. وتأمّله كأنه يدخل فعلاً إلى ذلك الصندوق. وإذا كنت تعمل ضمن فريق فقل لزملائك: "لنضع ما حدث في الصندوق الأسود"، ثم احرص على إعادة توجيه تركيزك نحو المهمة أو العمل الذي بين يديك.
قد يبدو هذا التمرين سخيفاً أو مبتذلاً، أليس كذلك؟ لكنه ناجح. لقد نجح مع جنود البحرية الأميركية الذين تعلموا أن يخزّنوا أخطاءهم في الصندوق الأسود في إطار تدريبات تعزيز القوة الذهنية. وقد نجح التمرين أيضاً مع لاعبات المنتخب الوطني الأميركي لكرة القدم، إذ تدرّبن عليه طوال فترة الاستعداد لبطولة كأس العالم سنة 2019. كما أثبت نجاحه مع كبار المنتجين في شركة لوكتون (Lockton) لوساطة التأمين، ومع آلاف الأشخاص من أصحاب الأداء العالي الذين يستخدمون هذا التمرين لإيقاف الاستجابة الطبيعية للضغط واستعادة التركيز.
على الرغم من ذلك فإن التميز يتطلب التدريب، ولا يمتلك معظم الناس رفاهية ارتكاب العديد من الأخطاء البارزة ثم تجنّب الوقوع فيها مجدداً. لذا؛ إذا أردت أن تجيد تقنية تخزين الأخطاء في الصندوق الأسود، فحاول أن تطبقها على أخطائك الصغيرة في حياتك اليومية. إذا أحرقت طعام العشاء عند طهوه فضع هذا الخطأ في الصندوق الأسود. وإذا تجاوزت الشارع الذي يجب أن تنعطف عنده في أثناء قيادة السيارة، فضع هذا الخطأ في الصندوق الأسود. وإذا قلت شيئاً محرجاً أمام شخص مهم، فضع هذا الخطأ في الصندوق الأسود. فالتدرّب على عزل الأخطاء الصغيرة سيساعدك على إتقان هذه المهارة التي ستحتاج إليها عندما ترتكب أخطاء كبيرة.
كيف تفرغ أخطاءك من الصندوق الأسود وتحلّلها؟
تخزين الأخطاء في الصندوق الأسود أمر جيد، لكنه ليس سوى المرحلة الأولى. بعد مرور الموقف الذي أخطأت فيه، وبمجرد أن تهدأ عاصفة العواطف عليك تفريغ الصندوق وتحليل ما فيه. تقبّل العواطف التي ولّدها الخطأ في تلك اللحظة ثم ضعها جانباً، واتّبع طريقة منهجية لتقييم ما حدث من منظور أكثر موضوعية.
يمكنك أن تفعل ذلك بمفردك أو مع زملائك. واسأل نفسك:
- "ما الذي حدث ولماذا؟"،
- "ما الذي يمكنني أن أتعلمه من هذا الحدث؟"،
- "وكيف يمكنني تطبيق ما تعلّمته لتحسين أدائي؟".
خذ مثلاً طريقة مدرب فريق ميامي هيت (Miami Heat) لكرة السلة إريك سبولسترا، يراجع هذا المدرب أداء فريقه مع اللاعبين باتباع نهج "المراجعة ما بعد العمل" عقب المباريات المهمة، لكن ليس بعد انتهائها مباشرة، بل ينتظر سبولسترا في بعض الأحيان بضعة أيام قبل عقد هذا الاجتماع. يتيح هذا الوقت الفرصة لتهدئة العواطف التي ولّدتها نتائج أداء اللاعبين ويساعد الجميع على مراجعة أحداث المباراة وفق رؤية واضحة.
يمكنك إذاً استخدام الاستراتيجية نفسها لتفريغ أخطائك في العمل وتحليلها، وتعلّم الدروس المفيدة منها.
إن تعلّم كيفية عزل الأخطاء من خلال تخزينها في هذا الصندوق الخيالي الأسود ثم تفريغه لاحقاً وتحليل ما فيه لاستخلاص الدروس وتحقيق التحسّن، هو مهارة يوظّفها الآلاف من أصحاب الأداء العالي عبر العالم. فهي توقف الاستجابة الطبيعية للضغوط وتساعدك على ضبط تركيزك وتوجيهه على العمل الأهم. لذا؛ عليك أن تبدأ فوراً.
أغلق عينيك، وتخيّل صندوقاً أسود في ذهنك. وإذا ارتكبت خطأ في المرة القادمة فضعه في هذا الصندوق. وحينها ستخطو خطوتك الأولى في مسار التميز.