عندما نتخيّل المسار الذي يجب علينا اتباعه لنصبح روّاد أعمال، غالباً ما نتصور مساراً خطياً يتمثّل في التخلي عن وظائفنا الحالية وتأسيس شركة. وعادة ما نظن أن ريادة الأعمال تعني الالتزام الكامل بعملنا الجديد، إلا أن هذا الاعتقاد خاطئ، ذلك أن الطريق إلى ريادة الأعمال قد يكون متعرجاً وعَرَضياً، مثله مثل العديد من الأمور في الحياة.
وهذا ما وجدته عند إجراء مقابلة مع 63 رائداً من رواد الأعمال في قطاع الطهي الذين ابتكروا فكرة المطاعم المنزلية، بمعنى إعداد مطاعم في منازل الناس. وتسمى هذه المطاعم أحياناً بالمطاعم المؤقتة أو نوادي العشاء، وعادة ما تكون هذه المطاعم عَرَضية، وتحدث مرة واحدة أو مرتين في الشهر فقط، وهو ما يجعلها تنال إعجاب روّاد المطاعم. ونظراً إلى قلة أعداد هذه المطاعم المنزلية، لا يمكن للأفراد إدارتها على أساس دوام كامل. بدلاً من ذلك، يُدير الطهاة أو هواة الطهي هذه المطاعم المؤقتة في النهار إلى جانب العمل على وظائفهم اليومية التي قد تكون في مجالات مختلفة تماماً، مثل المحاماة أو الإدارة. وفي حال أصبح المطعم المنزلي مشهوراً بما فيه الكفاية، فقد ينتقل الطاهي إلى العمل في مطعم تقليدي رسمي أو شركة لإعداد الطعام، أو العمل بصفته طاه خاص. من جهة أخرى، لن يخسر هؤلاء الطهاة الطموحون أي شيء في حال فشل المطعم، بصرف النظر عن الاستثمار الأولي الذي قد يتكبّدونه في شراء عدد قليل من الطاولات والكراسي، وتجهيزات المطبخ اللازمة لإعداد مطاعم في غرف معيشتهم. باختصار، تُعتبر المطاعم المنزلية شركات ناشئة رشيقة تعتمد على التمويل الذاتي في قطاع الطهي، ذلك أن تكلفة إعدادها الأولية رخيصة وتتوافق مع مهن الأفراد اليومية.
وقد تبدو تجربة المطاعم المنزلية ثمرة الهوس بالطعام الذي يجتاح عالمنا، في حين أن تجربة ريادة الأعمال بدوام جزئي هي تجربة مختلفة يختبرها عدد متزايد من الأشخاص من خلال الانخراط في أعمال تجارية إضافية إلى جانب وظائفهم اليومية. ومع تداخل الخطوط الفاصلة بين العمل والترفيه، أصبحت ريادة الأعمال بدوام جزئي وسيلة جاذبة للأشخاص الذين يسعون إلى تحويل شغفهم إلى مشاريع مربحة. وساعدت المنصات عبر الإنترنت على تمكين هذه الخطوة لروّاد الأعمال العاملين بدوام جزئي. تأمل على سبيل المثال شعبية متجر "إتسي" (Etsy) للبيع بالتجزئة عبر الإنترنت الذي يوفر مساحة "افعلها بنفسك" لأصحاب الحرف اليدوية ورواد الأعمال الحرفيين. وبالمثل، تسمح المدونات ومنصات الفيديو، مثل "يوتيوب" أو "تيك توك" للعاملين في المجالات الفنية الوصول إلى الجماهير مباشرة من غرف معيشتهم. وبالتالي، أصبح "اتباع الشغف" أسهل من أي وقت مضى مع هذه التطورات التكنولوجية.
كما أنه أصبح شعاراً أساسياً اعتنقه الطهاة في المطاعم المنزلية، ذلك أنه يُتيح لهم شرح دوافعهم لإدارة مطعم بدوام جزئي في عطلات نهاية الأسبوع. وغالباً ما يصف هؤلاء الطهاة عملهم بدوام جزئي أنه "عمل نابع من القلب"، بمعنى مشروع قائم على الشغف، ووسيلة لتجربة هواياتهم في الطهي. في البداية، لم يكن لدى هؤلاء الطهاة الهواة خطة تذكر لتنمية مشاريعهم. وأعرب عدد قليل منهم عن رغبتهم في أن يصبحوا طهاة محترفين وعن استعدادهم لفتح مطاعمهم الخاصة في نهاية المطاف.
ومع تلقّيهم المديح من رواد المطاعم ووسائل الإعلام، بدأ تقديرهم لذواتهم يتغير، وأصبح احتمال تأسيس مشروع رسمي اقتراحاً واقعياً. وقد استغرقت هذه العملية بالنسبة إلى البعض منهم فترة زمنية طويلة، ووصلت إلى سبع سنوات في إحدى الحالات. إن تجربة ريادة الأعمال بدوام جزئي منح هؤلاء الأفراد فرصة اختبار الآمال التطلعية للطهاة وأصحاب المشاريع بأمان وبطء. ويمكن للطهاة تأسيس مطاعمهم الخاصة عند إدراكهم أن الوقت قد حان للانتقال، وعادة ما يتّخذ الطهاة هذه الخطوة بتأييد من مجموعة مخلصة من رواد المطاعم الذين استطاعوا تنميتهم بمرور الوقت أو من خلال عروض الاستثمار. وبمجرد أن ينتقل الطهاة إلى مشروع عمل بدوام كامل، سيتغير تقديرهم لذواتهم إلى ما كنا نتوقعه منذ البداية، بمعنى أنهم أصبحوا يعتبرون أنفسهم روّاد أعمال وليس أصحاب هوايات.
لنتأمل مثال كرم الذي كان محامياً في النهار وحوّل مشروع الطهي بدوام جزئي إلى مطعم فاخر. عندما أجرينا مقابلة معه، أكدّ أن فكرة الطهي كانت "للمتعة فقط" في البداية. وبعد حوالي عام من إعداد وجبات العشاء في عطلة نهاية الأسبوع في غرفة معيشته، بدأ روّاد المطاعم يتساءلون عن موعد افتتاح مطعمه الخاص، حتى أن البعض منهم عرض الاستثمار معه في مشروع مستقبلي. لم يأخذ كرم هذه العروض على محمل الجد في البداية. ولكن بعد تلقّيه دعماً متكرراً من مرتادي مطعمه، سرعان ما أصبح الهدف طويل المدى هدفاً قصير المدى. وأدرك ذلك أخيراً بقوله: "أمارس الطهي اليوم باعتباره عملي وليس مجرد هواية". وهو يدير اليوم مطعماً شعبياً في خليج ولاية سان فرانسيسكو.
وتشير هذه النتائج إلى الفوائد العديدة لريادة الأعمال بدوام جزئي، فهي تخلق أولاً مساحة آمنة ومخصصة للأفراد لممارسة طموحاتهم وتحقيقها. وتنطوي أهمية هذه الميزة في أنها تساعد الأفراد في تطوير الثقة اللازمة التي سيحتاجون إليها للتواصل مع أصحاب المصلحة الخارجيين، مثل المستثمرين، بمجرد أن يصبحوا رواد أعمال بدوام كامل. ثانياً، إن وجود مشروع عمل إضافي يمكّن رواد الأعمال من التعرف تدريجياً على مهنيين آخرين في مجال عملهم، وهو ما يساعدهم في جعل أنشطتهم مشروعة أمام الآخرين. وبالنسبة إلى الطهاة الذين تحدثت إليهم وكانوا يعملون في وظائف في مجالات بعيدة عن عالم الطهي في النهار، كان حصولهم على قبول من أقرانهم في عالم الطهي أمراً بالغ الأهمية. وتوضح هذه الفوائد أن ممارسة الأفراد العمل الحر بصفتهم روّاد أعمال قد تزيد من احتمالات نجاح أعمالهم التجارية بمجرد انتقالهم إلى مشروع بدوام كامل.
ويُبيّن لنا طهاة المطاعم المنزلية أنه يوجد مسار آخر لريادة الأعمال، بدلاً من اتباع النهج التقليدي الذي ينطوي على ترك وظائفهم وكتابة خطة عمل وتوظيف عاملين والحصول على استثمار. ولا بدّ من تذكير رواد الأعمال الطموحين أنه لا يوجد نهج واحد يناسب الجميع لتأسيس مشروع، وإنما يوجد العديد من المسارات المختلفة لملكية الأعمال التجارية، ويحصل بعضها بمحض الصدفة أحياناً. ففي كثير من الأحيان، قد يكون الأفراد في طريقهم إلى تحقيق حلم ما عندما تتبلور هواياتهم وتنمّي فيهم روح ريادة الأعمال بمرور الوقت.