هل يمكن أن تدار حكومة الولايات المتحدة الأميركية كعمل تجاري؟

4 دقائق

خاض دونالد ترامب حملته الانتخابية بوعد إدارة الحكومة الأميركية كعمل تجاري. في الواقع، لقد أعلن أن صهره جاريد كوشنر سيرأس فريقاً للتدخل السريع (SWAT) مخصصاً لتحقيق ذلك.

يفترض ترامب كما يفعل الكثير من الأميركيين أن المشكلة الرئيسة للبلاد هي التدخل الحكومي المفرط. في نظري، لا تعاني الولايات المتحدة من تدخل حكومي مفرط بقدر ما تعاني من إفراط الحكومة كلها في ممارسة الأعمال التجارية. لقد جاء هذا الرئيس إلى المنصب لتحدي النخبة الحاكمة فقط من أجل إدماج النخبة الاقتصادية القوية بمكتبه، على حساب نخبة واشنطن السياسية الأضعف.

وهل يجوز أصلاً أن تدار الحكومة كعمل تجاري وأن يديرها رجال أعمال؟ بالطبع لا، مثلما لا ينبغي إدارة عمل تجاري بأسلوب الإدارة الحكومية من طرف موظفين مدنيين. فليبق كل منهما في موقعه، وشكراً للجميع. فالحكومات تواجه كل أنواع الضغوط التي لا يمكن تخيلها في الكثير من المؤسسات، وخاصة منها النوع الريادي الذي يديره ترامب.

لنأخذ بعين الاعتبار ما يلي: إن الأعمال لها صافي مبيعات مناسب يسمى "الربح" ويمكن قياسه بسهولة. إذاً، ما هو صافي مبيعات الإرهاب: عدد البلدان الموضوعة على قائمته، أم عدد المهاجرين المرحّلين أم عدد الجدران التي تم بناؤها؟ ماذا عن عدد الهجمات التي لم تقع؟ إن العديد من الأنشطة تندرج في اختصاص القطاع العام على وجه التحديد لأن نتائجها المعقدة صعبة القياس.

إدارة الحكومة كعمل تجاري أمر تمت تجربته مرات ومرات، ليفشل مرات ومرات. في الستينيات من القرن الماضي قدم روبرت ماكنامارا نظام التخطيط (البرمجة) الموازنة للحكومة كنهج عملي و"أفضل طريقة". وأدى الهوس بالقياس إلى فضيحة إحصاء الجثث في حرب فيتنام. لاحقاً في الثمانينيات جاء مفهوم الإدارة العمومية الجديدة، كتعبير ملطّف للدلالة على الإدارة القديمة للشركات والقائمة على فصل الأنشطة، ووضِع مدير للإشراف على كل موظف، وتحميل الموظفين المسؤولية عن النتائج البائسة. قد ينجح ذلك في اليانصيب لكن ماذا عن العلاقات الخارجية أو التعليم أو الرعاية الصحية إذا جاز لي القول؟ ذكر لي بعض الأشخاص في الحكومة أن مفهوم الإدارة العمومية الجديدة لا يزال يروج له على الرغم من أنه قد يكون من الأفضل تسميته اليوم "الإدارة الحكومية القديمة".

ثم، إن هناك مسألة الزبائن. لقد قال كوشنر لـ "واشنطن بوست": "إن أملنا هو أن نحقق النجاحات والفعالية لزبائننا، المواطنين"، مردداً استعارة مضللة ومستهلكة. (عندما كان آل غور نائباً للرئيس وصف هو أيضاً الشعب الأميركي بالزبائن). وكما ناقشت في مقالي بمجلة "هارفارد للأعمال" والمعنون بـ "إدارة الحكومة وحكومة الإدارة"، فإنني لست مجرد "زبون" لدى حكومتي، أشتري خدمة ما وانتهى الأمر. أنا مواطن فخور ومعنيّ ببلدي.

إن أعمال التجارة مهمة في مكانها. والحكومة أيضاً مهمة في مكانها. مكان أعمال التجارة هو السوق التنافسي، لتزويدنا بالبضائع والخدمات. أما دور الحكومة، بالإضافة إلى حمايتنا من التهديدات، هو المساعدة في الحفاظ على ذلك السوق تنافسياً ومسؤولاً. يحق لنا أن نتساءل إذاً، ما هي الحكومة التي كانت تكافح في السنوات الأخيرة بقوة في واشنطن من أجل المنافسة والمسؤولية؟

يوازن المجتمع السليم بين سلطة الحكومات المحترمة في القطاع العام وبين كل من الأعمال التجارية المسؤولة في القطاع الخاص والمجموعات القوية فيما أسميه القطاع المتعدد الذي يضم الأندية والمستشفيات والمؤسسات والمنظمات غير الحكومية والتعاونيات التي ينضم إليها العديد منا. وعلى الرغم من أن القطاع المتعدد هو الأقل سلطةً بين القطاعات الثلاثة، فإنه واسع ومتنوع. يمكن أن يعمل الكثير منا في مجالات التجارة وأغلبنا يصوّت للحكومات، لكن الأكيد أننا كلنا نعيش جل حياتنا في إطار الروابط المجتمعية للقطاع المتعدد. (لدى الولايات المتحدة اتحادات تعاونية أكثر من عدد السكان). هذا هو القطاع الذي يستطيع تعويض الآثار المدمرة لـ "سياسات الرقاص" التي تجعل كثيراً من البلدان تتأرجح جيئة وذهاباً بين تحكم القطاع الحكومي وقوى السوق الخاصة. وقد يتعين علينا اليوم على الخصوص أن نعتمد على هذا القطاع لاستعادة التوازن الذي ضاع وسط سياسات الاستقطاب المتقادمة بين اليمين واليسار.

وتقترب أغلب الأمم الديمقراطية في العالم من تحقيق توازنها من خلال هذه القطاعات الثلاثة، على سبيل المثال، كندا وألمانيا والبلدان الإسكندنافية. وكانت الولايات المتحدة خلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية قريبة من هذا التوازن. ويمكن أن نستحضر في هذا السياق عصر الرخاء والتنمية، سواء الاجتماعية منها أو الاقتصادية، التي عاشتها البلاد على الرغم من الضرائب المرتفعة وبرامج الرعاية السخية.

وبعد هذه الحقبة جاء حدث سقوط جدار برلين. يمكن القول إنه سقط على الديمقراطيات الغربية وذلك لأننا أسأنا فهم ما أسقطه. وادعى الخبراء الغربيون أن الرأسمالية انتصرت، بشكل يعكس تحيزاً أصبح واضحاً جداً اليوم. فالرأسمالية لم تنتصر وإنما انتصر التوازن. وبينما كانت الدول الشيوعية في أوروبا الشرقية خارج التوازن تماماً ومتحيزة لقطاعاتها العمومية، استرجعت البلدان الغربية الناجحة نوعاً من التوازن عبر كل القطاعات الثلاثة.

وبسبب سوء الفهم هذا انتصر شكل ضيق من الرأسمالية منذ ذلك الحين، ليخرج أميركا مع بلدان أخرى بعيداً عن التوازن وذلك لفائدة مصالح القطاع الخاص.

إن ترامب من هذا المنظور ليس مشكلة في حد ذاته بقدر ما هو تعبير متشدد عن المشكلة الأوسع المتمثلة في اختلال التوازن لفائدة المصالح الخاصة مع تدخل أكثر للحكومة في الأعمال التجارية.

لقد تطورت هذه المشكلة في الولايات المتحدة لزمن طويل. لم تكن الجمهورية الأميركية قد تجاوزت ربع قرن من وجودها عندما عبّر توماس جيفرسون عن أمله قائلاً: "يجب علينا سحق أرستقراطية الشركات الموحدة في مهدها بعد أن تحدّت حكومتنا في اختبار القوة". وفي القرن الماضي، تحدث مناهض الاحتكار ثيودور روزفيلت عن "الشرور الحقيقية والخطيرة" للشركات القوية جداً، مشدداً على أنه "ينبغي على أولئك الراغبين في تحسين الوضع الاجتماعي أن يسعوا إلى تخليص عالم الأعمال والتجارة من جرائم المكر بنفس القدر الذي يسعون فيه إلى تخليص الجسم السياسي من جرائم العنف". وبعد بضعة عقود، نبّه دوايت أيزنهاور إلى أننا "يجب أن نتوخى الحذر في الإدارات الحكومية من اكتساب التكتل الصناعي العسكري لنفوذ لا مبرر له سواء طلبه أم لم يطلبه". 

قد يقول المشككون "إذا كنا دائماً قلقين من أمر ما ولم يحدث، فربما حان الوقت للتوقف عن القلق". لكن في الواقع، تصاعدت المخاطر باطراد لبعض الوقت وتزايدت بحدة منذ انتصار الرأسمالية في سنوات التسعينيات.

لقد ضمنت المحكمة العليا للشركات الحق في الكرامة الإنسانية في عام 1886، ومؤخراً وسّعت هذا الحق ليشمل تمويل الحملات السياسية وهو ما يعتبر بلا شك نقطة انعطاف في قرنين من التحول نحو سلطة القطاع الخاص بالمجتمع الأميركي. لننظر حولنا إلى فضيحة الفوارق في الدخل، وإلى التغيرات المناخية المتفاقمة بسبب الاستهلاك المفرط، وإلى قوى العولمة غير المنظمة التي تقوض السيادة الوطنية، وبالتالي المؤسسات الديمقراطية لكثير من الدول. وبالنظر إلى كل هذا، فلا عجب أن يطالب الناخبون عبر العالم بالتغيير حتى وإن كانت نتائج ذلك غير مدروسة. فالجانب المشروع من انشغالاتهم يجب أن يعالج.

إن العلاقة بين الأعمال التجارية والحكومة أصبحت مرتبكة إلى درجة تهدد الديمقراطية الأميركية نفسها، وأضحت تحتاج إلى "فصل للسلطات" لا يقل أهمية عن ذلك الذي يحدث داخل الحكومة نفسها. فعندما تصبح المبادرة الحرة في اقتصاد ما مرادفاً لمؤسسات تتمتع بحرية كالتي يتمتع بها الأفراد في مجتمع ما، فيجوز لنا إذاً أن نحوّر مقولة أبراهام لينكولن في خطاب جيتيسبرغ الشهير ونقول: "إن حكم الشعب الحقيقي بيد الشعب الحقيقي ولأجل الشعب الحقيقي، أمر أضحى مهدداً بالزوال".

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي