صعود وانهيار وانبعاث حركة مكافحة الاحتكار الأميركية

9 دقائق

ماذا حدث لحركة مكافحة الاحتكار؟ هذا هو السؤال الذي طرحه ريتشارد هوفستاتر في منتصف الستينات. لقد كانت مكافحة الاحتكار في فترة من الفترات، بحسب أحد المؤرخين، موضوعاً لحركة تقدمية في الولايات المتحدة أشعلت الغضب العام وألهبت خيال الناس، رغم عدد المحاكمات القليلة المتعلقة بمكافحة الاحتكار، وبحلول الستينات، كانت هناك العديد من قضايا مكافحة الاحتكار (من قِبل الإدارتين الديمقراطية والجمهورية)، لكنها لم تسفر عن أي حركة مكافحة للاحتكار. وبعدها بخمسين عاماً، لم يكن لدى الولايات المتحدة حركة لمكافحة للاحتكار ولا تشديد على إنفاذ القانون، وذاك الوضع يجب أن يتغير.

ولكي نفهم اللحظة الحالية في تاريخ مكافحة الاحتكار، وما ينبغي أن يليها، علينا أن نتبنى منظوراً تاريخياً، لقد قويت شوكة سياسة مكافحة الاحتكار الأميركية وإنفاذها وضعفت على مدار أربع دورات:

  • 1900–1920: بعد إهمال إداري مبدئي وعداء قضائي، مهد هذا العصر الطريق أمام وعد بمكافحة الاحتكار، بواسطة تقسيم شركة "ستاندرد أويل" (Standard Oil)، وسن قانون كلايتون والقانون المتعلق باللجنة الاتحادية التجارية للحيلولة دون تكون الاحتكارات والامتيازات.
  • العشرينيات - الثلاثينيات من القرن العشرين: كانت الأنشطة الاحتكارية نادرة، فقد فضّلت الإدارات الأميركية عموماً التعاون بين الصناعات المختلفة والحكومة (وخلال الفترة المبكرة للاتفاق الجديد، التخطيط الاقتصادي والقوانين الصناعية المعنية بالمنافسة العادلة)، على الإنفاذ المشدد لإجراءات مكافحة الاحتكار.
  • الأربعينيات - أواخر السبعينيات: صارت مكافحة الاحتكار تمثل الوثيقة العظمى للاقتصاد الحر، فقد اعتُبرت مفتاحاً للحفاظ على الحرية الاقتصادية والسياسية.
  • أواخر السبعينيات - منتصف العقد الثاني للألفية الثالثة: تم تنفيذ سياسة مكافحة الاحتكار بموجب النظريات الاقتصادية الكلاسيكية الجديدة لمدرستي شيكاغو وما بعد شيكاغو.

العصر الذهبي لمكافحة الاحتكار

بالنظر إلى الدورة الثالثة (من الأربعينات حتى أواخر السبعينات) التي تُعتبر - من عدة أوجه - العصر الذهبي لمكافحة الاحتكار. آنذاك، كانت المنافسة تُعتبر إلى حد كبير علاجاً للفاشية، وعُدّت مكافحة الاحتكار عاملاً مساعداً لتلك المنافسة وممكناً لها. وبحسب ما ورد في كتاب جيفري فريدين  "الرأسمالية العالمية" Global Capitalism، سيطرت الحكومة على الاقتصاد إلى حد كبير، تحت مظلة النظام الاقتصادي الفاشي، بشكل مباشر أو عبر الشركات القابضة المملوكة للدولة. وبينما تفشى النظام الاقتصادي الفاشي في شتى أرجاء أوروبا والشرق الأوسط، وأجزاء شاسعة من آسيا وإفريقيا إبان تلك الدورة، اعتُبر نموذج المنافسة عرضة للهجوم. وكان نموذج المنافسة يتمثل في الإيمان - المتفِق مع المبادئ الديمقراطية - بتشتيت السلطة الاقتصادية والسياسية من أيادي الأقلية، بغية تعزيز فرص أفضل للمنافسة والتحسن والفوز. وفي مرحلة ما خلال الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة آخر دولتين عظمتين داعمتين لهذا النموذج.

ولقد ناقش أحد أبرز دعاة نموذج المنافسة، ويُدعى فريدريش فون هايك، في كتابه البارز الصادر عام 1944 تحت عنوان  "الطريق إلى العبودية" The Road to Serfdom، الدور المحوري الذي يمكن أن يلعبه الاقتصاد الحر، وتفوقه على الاقتصاد المخطط والخاضع لسيطرة الحكومة المستبدة. لكن عالِم الاقتصاد رفض "أسلوب الحياد الحاسم"، وبدلاً منه، روج هايك للحجة الليبرالية التي تقضي باستغلال العملية التنافسية على النحو الأمثل. يستند نموذج المنافسة المثالي إلى الإيمان أنه "حيثما يتاح خلق المنافسة الفعالة، فهي وسيلة أفضل لتوجيه الجهود الفردية من غيرها من الوسائل"، والاعتقاد أنه "لكي تُجدي المنافسة وتؤتي ثمارها، يقتضي الأمر وضع إطار قانوني مخطط له بعناية شديدة". وأقر هايك أيضاً أنه متى كان من المستحيل خلق الظروف الضرورية لجعل المنافسة فعالة، فلا بد أن نلجأ إلى سبل أخرى لتوجيه النشاط الاقتصادي.

وبالتالي، خلال هذه الدورة الثالثة، كانت سياسة مكافحة الاحتكار المتينة شرطاً أساسياً ضرورياً للمنافسة الفعالة. ولخلق تلك الظروف، اعتمد المشرعون على أدوات أُعطيتْ لهم خلال الحقبة الأولى لمكافحة الاحتكار، وتحديداً خلال الفترة بين عامي 1900 و1920. في تلك الحقبة، اعتبر الكونجرس الأميركي عملية التركز في قطاع الأعمال الأميركي قوةً دينامية، وبالتالي، فقد منح قانون كلايتون الصادر عام 1914، في صيغته المعدلة عام 1950، الهيئات والمحاكم "سلطة تعطيل هذه القوة في مهدها وقبل أن تكتسب زخماً". ومكَّن قانون شيرمان وزارة العدل من ملاحقة الجهات التي تُمارس قيوداً على التجارة، وترتكب تجاوزات احتكارية غير مقبولة قضائياً، على الصعيدين الجنائي والمدني. ولقد صُمم القانون الصادر عام 1890 "ليكون ميثاقاً شاملاً للحرية الاقتصادية الهادفة إلى الحفاظ على المنافسة الحرة غير المقيدة باعتبارها قاعدة مزاولة التجارة"، بحسب تصريح المحكمة العليا عام 1958. "ويقوم هذا القانون على أساس أن التفاعل غير المقيد للقوى التنافسية سوف يثمر أفضل تخصيص لمواردنا الاقتصادية، وأقل الأسعار، وأعلى جودة، وأعظم تقدم مادي ملموس، مع توفير بيئة مساعدة في الوقت عينه للحفاظ على مؤسساتنا السياسية والاجتماعية الديمقراطية". لقد كانتْ حركة مكافحة الاحتكار الأميركية، باعتبارها جزءاً من نموذج المنافسة المثالي هذا، تُعيد استكشاف القوانين الأساسية من حقبة أسبق، وتقضي على الركود الذي كان سمةً لحقبة الاتفاق الجديد الأولى. ولقد تم تصدير هذا المنهج بنجاح بعد الحرب إلى أوروبا واليابان، للمساعدة في تحقيق اللامركزية للقوة الاقتصادية، ودعم عملية تنافسية فعالة.

نشأة مدرسة شيكاغو

تراجعت سياسة مكافحة الاحتكار وإنفاذها خلال الدورة الرابعة (أواخر السبعينات ومنتصف العقد الثاني من الألفية الثالثة) بالتزامن مع صعود نجم "مدرسة شيكاغو للاقتصاد" (Chicago School of Economics) في أواخر السبعينات، والتي عززتها إدارة الرئيس ريغان بأولويات إنفاذها وتعييناتها القضائية وإحاطاتها القانونية الودية الموجهة إلى المحكمة العليا. وبحلول إدارة أوباما، لم يكن لدينا حركة مكافحة احتكار شهيرة، ولا عدد كبير من قضايا مكافحة الاحتكار الكبرى، وظل إنفاذ قوانين مكافحة التكتلات الاحتكارية قوياً، غير أن إنفاذ تشريعات مكافحة الاحتكار أصابه الضعف والوهن. وقلما تطعن الحكومة على عمليات الاندماج بين المنافسين، وحتى قضايا الطعن على عمليات الاندماج الرأسي كانت أندر، فقد رُفعت آخر دعوى قضائية بحق آخر عملية اندماج مثيلة عام 1979.

وأثناء هذه الدورة الرابعة، اعتبر بعض مسؤولي إنفاذ القانون أن الحجج السياسية والأخلاقية الداعمة لمكافحة الاحتكار غير حاسمة بما يكفي، وأنها تفت بشكل ما في عضد سياسة مكافحة الاحتكار، هذا لأن الطابع التقني المتزايد لمكافحة الاحتكار، واستخدام مفاهيم اقتصادية كلاسيكية جديدة منفرة وتجريدية أدى إلى اتساع الفجوة بين إنفاذ قوانين مكافحة الاحتكار والشأن العام. ونُبذتْ الأهداف غير الاقتصادية لمكافحة الاحتكار لصالح معيار "رفاهية مستهلك" لا ملامح له. وصُرفتْ الأنظار أيضاً عن مصدر القلق التاريخي المتعلق بعرقلة الزخم في اتجاه التركيز على صناعة ما، بهدف صد الأضرار الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الناجمة عن القوة الاقتصادية المركزَّة في مهدها.

ولقد عولتْ مكافحة الاحتكار أيضاً، خلال دورتها الرابعة، على مفهوم منقوص ومشوه نوعاً ما للمنافسة، ولمَّا تبنّت بعض المحاكم وهيئات إنفاذ القانون فرضيات مدرسة شيكاغو المتعلقة بالأسواق المصحِّحة لذاتها، والمؤلَّفة من جهات عقلانية مشاركة في السوق مهمومة بخدمة مصالحها الشخصية، فقد ضحت قيماً سياسية واجتماعية وأخلاقية من أجل تعزيز معتقدات اقتصادية محددة، لقد كانت المنافسة بالنسبة لهم فعالة بحد ذاتها. وبالتالي، لم تكن هناك حاجة إلى إنفاذ قوي لقوانين مكافحة الاحتكار من أجل خلق أو الحفاظ على الظروف الضرورية لجعل المنافسة فعالة، فقد كان بوسع قوى السوق تصحيح الحالات العارضة لقوة السوق بشكل طبيعي، وكان باستطاعتها أن تحقق إنجازات أفضل بكثير من الإخفاقات المترتبة على التدخل الحكومي، لقد قبلتْ السلطات المخاطر المتفاقمة الناجمة عن صناعة الاتصالات السلكية واللاسلكية والصناعة المالية وصناعة البث الإذاعي المركزَّة، من بين صناعات أخرى، سعياً وراء آمال مستقبل الكفاءات والابتكار.

حركة مكافحة الاحتكار الناشئة

عندما طعنت الولايات المتحدة مؤخراً على استحواذ شركة "أيه تي آند تي" (AT&T) على شركة "تايم وارنر" (Time Warner)، تقدم البعض بالشكوى، فالحكومة نادراً ما طعنت على عمليات الاندماج الرأسي خلال دورة السياسة الماضية، معتقدةً أنها من المستبعد جداً أن تخفف من حدة المنافسة أو تخلق احتكارات. واحتج النقاد أنه بالنظر إلى احتقار الرئيس دونالد ترامب الواضح لشبكة "سي إن إن" (CNN) التابعة لشركة "تايم وارنر"، فلا بد أن هذا الطعن بحجة مكافحة الاحتكار له دوافعه السياسية.

ربما. وثمة تفسير بديل مفاده أن مكافحة الاحتكار في الولايات المتحدة تشهد حالياً عملية زعزعة، ولعلنا نشهد حالياً نشأة الدورة الخامسة لمكافحة الاحتكار: ألا وهي "مدرسة برانديز الجديدة" (New Brandeis School) التقدمية المكافحة للاحتكار.

تتساءل مجموعة ناشئة من العلماء الشباب ما إذا كنا بحق نستفيد من المنافسة في ظل إنفاذ محدود لقوانين مكافحة الاحتكار. وتُثبت الأدلة المتراكمة أننا لا نجني فائدة، فقد تراجع معدل تأسيس الشركات الجديدة على نحو منتظم كحصة من الاقتصاد منذ السبعينات. "في عام 1982، بلغ عدد الشركات الحديثة [البالغ عمرها خمس سنوات أو أقل] حوالي نصف عدد الشركات كلها، وخُمس إجمالي العمالة"، هكذا ذكر جيسون فورمان، رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين. ولكن، بحلول عام 2013، تراجعت هذه الأرقام "إلى قرابة ثُلث الشركات، وعُشر إجمالي العمالة". إن المنافسة تتراجع في العديد من الأسواق، بينما تزداد تلك الأسواق تركيزاً. وأمسى القسم الأكبر من الأرباح يؤول إلى خزائن عدد أقل من الشركات. "وأكثر من 75% من الصناعات الأميركية شهدت زيادة في مستويات تركيزها على مدار العقدين الماضيين"، بحسب ما توصلت إليه واحدة من الدراسات. "وتمتعت الشركات التي تعمل تحت مظلة الصناعات ذات الزيادات الأكبر في التركز السوقي للمنتج بهوامش ربح أعلى، وعوائد أسهم موجبة غير طبيعية، وصفقات عمليات اندماج واستحواذ أكثر ربحية، مما يوحي أن القوة السوقية تتحول إلى مصدر مهم للقيمة". ومنذ السبعينات، تعاظم التفاوت في توزيع الثروات، وتدنى معدل حراك العمال. وحصة العمال من الدخل في قطاع الأعمال غير الزراعية كانت محصورة في منتصف حد النسبة الستين المئوية لعدة عقود بعد الحرب العالمية الثانية، غير أن هذا الوضع تدنى أيضاً منذ عام 2000 إلى منتصف حد النسبة الخمسين المئوية. ورغم العوائد الأعلى على رأس المال، تستثمر الشركات العاملة في أسواق ذات تركيز متصاعد ومنافسة أقل بمعدلات أقل نسبياً. وهذه الفجوة في الاستثمار، بحسب ما توصلتْ إليه إحدى الدراسات، يشجعها قادة الصناعة الذين يمتلكون هوامش ربح أعلى.

واستناداً إلى هذا الدليل، تتحدى "مدرسة برانديز الجديدة" الناشئة التقدمية التي تكافح الاحتكار الوضع الراهن. ويُحذر الليبراليون والمحافظون على نحو متزايد من أن المستهلكين لا يستفيدون من المنافسة المحدودة في العديد من الأسواق، وهم يخافون من أن الوضع الحالي لقانون المنافسة (ورأسمالية المحسوبية) يعودان بالنفع على القلة المختارة على حساب الآخرين كلهم تقريباً. لقد فقدت "مدرسة شيكاغو"، المنادية بالاقتصاد الحر، شيئاً من بريقها، ولاسيما في "جامعة شيكاغو" University of Chicago. علاوة على ذلك، ثمة تشريع مقترَح حالياً الهدف منه استعادة قانون كلايتون لغايته الأصلية، عن طريق "قواعد بسيطة وعالية المردود لصناعة القرار، تنص على أن أطراف عمليات استحواذ بعينها، قد تزيد من التكامل بقدر كبير، أو أن تتسم بالضخامة الشديدة، عليها تحمل عبء إثبات أن عملية الاندماج لن تضر بالمنافسة ضرراً ملموساً".

وقد يقر البعض أن التركيز قد زاد، وأن الصناعات ذات الزيادات الأكبر في التركيز شهدتْ تراجعات أكبر في حصة العمالة، وأن التدني في حصة العمالة يرجع إلى حد كبير إلى إعادة تخصيص المبيعات إلى الشركات المهيمنة. لكنهم يحتجون بأن هذه الشركات تحقق مكانة "متفوقة" بجودتها العالية أو تكاليفها الأقل أو ابتكارها الأكبر. لقد اكتشفت واحدة من الدراسات أن الارتفاع في تركز الصناعة "ارتبط إيجاباً وبشدة بالنمو في عدد مرات تسجيل براءات الاختراع". وقد تزعم الشركات واسعة النفوذ ومحاموها واقتصاديوها وجماعاتها للضغط، أن هذا كله رائع، فمستويات التركز الأعلى توفر كفاءة أعلى، والأسواق سوف تُصحح ذاتها بذاتها، إذا دعت الضرورة. وبالتالي، فهم يريدون الحفاظ على تفسيرهم النفعي ضيق الأفق لقوانين مكافحة الاحتكار التي تقوض إنفاذ القانون إلى أقصى حد ممكن.

وهناك آخرون يخالفونهم الرأي. وبالاستشهاد بالأعمال التجريبية والنظرية الحديثة، ذكر عالم الاقتصاد جوناثان بيكر "أن المنافسة الأكبر - لا القوة السوقية الأكبر - ترتقي عموماً بآفاق الابتكار، وتميل ممارسة القوة السوقية إلى إبطاء الابتكار وتحسينات الإنتاجية في الأسواق المتضررة". وبالمثل، نجد أن مؤلفي الورقة البحثية "المُحكَمَة" لاحظوا أن بعض الشركات ربما تبسط هيمنتها بشكل مشروع بناءً على ابتكاراتها أو كفاءتها الفائقة، غير أنها تستغل "قوتها السوقية لتقيم حواجز وعقبات للدخول إلى السوق لحماية مكانتها".

لإيضاح الأمور، لا تقترح "مدرسة برانديز الجديدة" للتدخل المطلق أو التخلي عن التحليل الاقتصادي في إنفاذ قوانين مكافحة الاحتكار، ولا تروج لهذا. الجميع يتفقون على أن التدخل يجب أن يكون محسوباً لتفادي تجميد المنافسة والابتكار والاستثمار، والمسألة تتعلق بدرجة التدخل، والأمل ينعقد على سياسة إنفاذ للقانون محكمة التصميم، على ألا تكون مائعة.

المنافسة في الاقتصاد الرقمي

إن الحاجة تتطلب وجود نموذج المنافسة المثالي، خصوصاً في الاقتصاد الرقمي، الأمر الذي تشرحه أعمالنا المنافسة الافتراضية: وعود اقتصاد الخوارزميات وأخطاره والبيانات الكبيرة وسياسة المنافسة. لقد غيرت آثار الشبكة المدفوعة بالبيانات وصعود نجم القليل من حراس البوابات، من الديناميات التنافسية: فقد يجد الوافدون الجدد على السوق مشقة، إن لم تكن استحالة، في المنافسة بفعالية أو في تحدي المنصات الفائقة السائدة. إن التواطؤ الخوارزمي، والتمييز السلوكي، وتجاوزات محتكري البيانات يمكن أن تقوض الكثير من عوامل رفاهنا. والقدرة الأسطورية للأسواق على أن تصحح نفسها بنفسها أصبحت محل شك بينما زادت مستويات التركز، وكفلت آثار الشبكة الحماية للمنتفعين، ومكّنت الاستراتيجيات التجارية المحصنين من السيطرة على الابتكار المُزعزِع وتقييده.

وبالتالي، لو كان للدورة الرابعة أن تستمر بمراجعة "طفيفة عابرة" لعمليات الاندماج، وأغمضتْ عن التجاوزات، فمن الأرجح أن يزداد التركز ويتراجع رفاهنا أكثر، وستظل السلطة والأرباح حكراً على قلة من الناس. عندما يُعترف بالاحتكارات باعتبارها جزءاً حتمياً ودائماً من النظام الاقتصادي، بحسب ما جاء في تحذير الرئيس الأميركي ودرو ويلسون، فإن ملجأنا الأخير غير المرغوب فيه هو التشريع الذي ستتورط فيه الحكومة دائماً. ولو واصلنا مسيرتنا في هذا الدرب، فقد نجد أنفسنا عالقين داخل عملية تنافسية تعود بالنفع على القلة على حساب الكثرة، وإطار تشريعي مهدد بالتداعي. وستُترك الشركات الناشئة، والشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم، وكثير من المواطنين، إما ليتلقفوا فتات قلة من الشركات القوية، ولكن المستبدة، أو ليتعاملوا مع حقدها وعداوتها.

من حسن الحظ أن هذا التوجه يمكن نقضه إذا ما استعدنا مكافحة الاحتكار كشرط أساسي للمنافسة الفعالة.

وليس من عجب أن الرئيس التنفيذي لشركة "أيه تي آند تي" (AT&T)، وفقاً لما جاء في تقارير إخبارية قد "ذُهل" من قضية مكافحة الاحتكار التي أقامتها عليه الولايات المتحدة لعرقلة استيلائه على شركة "تايم وارنر" (Time Warner). فقد كان راندال ستيفنسون أحد "أكبر أنصار السياسة العامة" للرئيس دونالد ترامب، واعتبر قضية مكافحة الاحتكار "حجر عثرة كبير". و"أثنى الرئيس التنفيذي ثناءً عظيماً على ترامب والجمهوريين في الكونجرس الأميركي، قائلاً إن البيئة التشريعية "المسوغة" تبسط صناعة القرار على الشركات، وأن التغييرات المقترحة لقانون الضرائب ستجعل الشركات أكثر قدرة على التنافس دولياً". ولذا، عندما نما إلى عمله أول طعن قضائي على عملية الاندماج الرأسي منذ عقود، علّق متعجباً: يا للعجب! ماذا كان ذلك الشيء؟

ربما كانت تلك عودة لنموذج التنافس المثالي.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي