ثمة مفارقة في مسألة التواضع عند القادة. فمن ناحية، نرى أن القادة الناجحين متواضعون ويشجعون فِرقهم على تقديم أفضل ما لديهم، ولا يجدون صعوبة في الاعتراف بعيوبهم وأخطائهم، ويقدّرون موظفيهم ويعترفون بإنجازاتهم. أثبتت الفضائح العامة التي حدثت مؤخراً في الولايات المتحدة ما يمكن أن يحدثه الافتقار إلى التواضع في المواقف العلنية. لنأخذ الرئيس التنفيذي السابق لشركة يونايتد إيرلاينز للطيران (United Airlines)، أوسكار مونوز على سبيل المثال، إذ أدى رفضه للاعتذار عن حادثة الإخراج العنيف لمسافر من إحدى طائرات الشركة إلى غضب شعبي واسع. أو فضيحة الرئيس التنفيذي السابق لشركة تورينغ فارماسيوتيكالز (Turing Pharmaceuticals)، مارتن شكريللي، الذي رفض الاعتذار عن الرفع المبالغ به في سعر أدوية مرضى السرطان التي قد تنقذ أرواح الكثيرين. وُجّهت انتقادات لاذعة لهاتين الشخصيتين لغرورهما ورفضهما الاعتراف بأخطائهما.

لكن من ناحية أخرى، ثمة أمثلة لا حصر لها على القادة الذين لم يتحّلوا بالكثير من التواضع ومع ذلك ترقوا بسرعة إلى قمة هرم السلطة في مؤسساتهم. لعل النجاح يرتبط بالاعتداد بالنفس، إذ يتحدث العديد من القادة في العادة عن الضغط الذي يتحملونه ليظهروا بمظهر القائد القادر والخالي من العيوب، بينما يُفسر التواضع على أنه ضعف أو تردد أو نقص في الثقة.

فهل القادة المتواضعون يتمتعون بفعالية أعلى؟ وهل تحقق فرقهم أفضل النتائج؟

بحثنا هذه الأسئلة في دراسة ميدانية نُشرت في مجلة علم النفس التطبيقي (Journal of Applied Psychology)، وافترضنا أن تواضع القائد سيكون مناسباً لبعض الفرق أكثر من غيرها، وأن توقعات أعضاء الفريق لكيفية تصرف القائد ستحدد إذا ما كان لتواضع القائد نتائج إيجابية على أداء الفريق. كما افترضنا أن مسافة السلطة (أي درجة التفاوت في السلطة التي يراها أفراد الفريق مقبولة وشرعية بينهم وبين القائد) ستؤثر في توقع أفراد الفريق من قائدهم أن يكون متواضعاً؛ إذ ينتظر أعضاء الفريق من قائدهم تولي المسؤولية وإعطاء توجيهات صارمة في حال كانت مسافة السلطة كبيرة، لكنهم يتوقعون تواضعاً أكبر من قائدهم عندما تكون تلك المسافة صغيرة.

اختبرنا هذه الفرضية مع 72 فريق عمل و354 عضواً فردياً من 11 شركة لتكنولوجيا المعلومات في الصين، وذلك من خلال دراسة استقصائية عبر الإنترنت امتدت 6 أشهر. طلبنا في المرحلة الأولى من دراستنا أن يقيّم المشاركون مدى تواضع قادتهم عبر سلسلة من العبارات مثل “قائد فريقي منفتح على تلقي النصيحة من الآخرين”، “يعترف قائد فريقي عندما يعجز عن التصرف”، و”يدوّن قائد فريقي ملاحظات حول مواطن القوة لدى الآخرين”. كما طلبنا من المشاركين تقييم مدى مسافة السلطة في فرقهم، باستخدام عبارات مثل “عندما لا يتناسب تقييم الأداء الذي يجريه المشرف مع توقعات الموظفين، لا يجدون صعوبة في مناقشة ذلك معه”، و”نتجاوز التراتبية الهرمية في سبيل تحقيق علاقات عمل ناجحة”.

وبعد 3 أشهر، سبرنا مدى تبادل المشاركين للمعلومات والمعرفة مع زملائهم في الفريق، ومدى شعورهم بالأمان النفسي عند التحدث علناً. ثم طلبنا من قادة الفرق بعد 3 أشهر أخرى تقييم مستوى الإبداع في فرقهم بأسئلة مثل “ما مدى نجاح فريقك في ابتكار أفكار جديدة؟” و”ما مدى جدوى هذه الأفكار؟” إذ تعتبر القدرة على الإبداع المعيار الأساسي لفعالية الفريق ونجاحه على المدى الطويل.

توصلنا إلى أن القادة الذين أظهروا نظرة متواضعة للذات وتقديراً لأفكار الآخرين كانت فعاليتهم أعلى في تسهيل تبادل المعلومات وكانت فرقهم أكثر إبداعاً نتيجة لذلك. لكن تواضع القائد كان مرتبطاً على نحو إيجابي بتبادل المعلومات في الفرق التي تكون فيها مسافة السلطة صغيرة فقط، أي أن وجود القائد المتواضع في فريق يؤمن بالمساواة يؤدي إلى زيادة تبادل المعرفة والمعلومات، وبالتالي زيادة القدرة على الإبداع في هذا الفريق.

لكننا لم نرَ النتائج نفسها في الفرق التي تؤمن بقوة سلطة قائد الفريق. كما توصلنا إلى ارتباط تواضع القائد بمستويات أقل من الأمان النفسي في الفرق التي تكون فيها مسافة السلطة كبيرة، إذ شكك أعضاء الفرق الذين توقعوا من قائدهم إبداء هيمنته وقوته بقدرات القادة الذين أبدوا تواضعاً ومنعهم الخوف من التحدث والمجازفة.

فهل على القائد أن يتسم بالتواضع؟ تعتمد الإجابة عن هذا السؤال وفقاً لبحوثنا التي أجريناها على توقعات فريق العمل. هذه بعض النصائح العملية للقادة الذين يحاولون تحقيق التوازن بين قوة السلطة والتواضع.

عليك أن تجعل مستوى تواضعك مناسباً لما يتوقعه أعضاء الفريق منك

تشير نتائجنا إلى إمكانية زيادة فعالية الفريق من خلال تواضع قائده بشرط أن يتوقع الفريق ذلك من القائد. وانتبه للقيم التي يحملها الفريق وعدّل سلوكك وفقاً لها. ففي حال أظهر فريقك الرغبة في توزيع السلطة ضمن الفريق، سيشجع تواضعك تبادل المعلومات بغزارة على نحو دائم ويعزز القدرة على الإبداع. أما في الفرق التي تؤمن بقوة سلطة القائد، فسينتظر الأعضاء منك تولي زمام المسؤولية وصناعة القرارات المهمة. قد يؤدي إظهار الضعف عبر التواضع إلى نتائج عكسية في هذه الحالة، وهذا لا يعني أنه يجب عليك ألا تظهر التواضع مطلقاً. فبوسعك الحديث عن حدود قدراتك ومكامن ضعفك، ولكن من الأفضل أن تُظهر القدرة على معرفة أوجه القصور لديك والتغلب عليها وقيادة فريقك للتحسن والنمو في الوقت نفسه. يتيح لك ذلك الاستفادة من ميزة إظهار التواضع في تشجيع الإبداع وإظهار الثقة والقوة التي تتوافق مع توقعات فريقك.

شجّع الإبداع من خلال مساعدة أعضاء فريقك على تبادل المعلومات

فقد أُثبت أن التبادل المفتوح للأفكار والمعرفة يؤدي إلى الإبداع. وفي حال كنت تدير فريقاً يتوقع منك مشاركة السلطة، فاعتمد على تواضعك لإنشاء مساحة آمنة تسمح لأعضاء الفريق بالمجازفة في تقديم الاقتراحات والاختلاف علناً. أوضِح أنك تعتبر الأخطاء فرصاً للتعلم.

طوّر قدرتك على التواضع

على الرغم من أن التواضع سمة مستقرة نسبياً، بوسع القادة تعلّم طرق لإظهار سلوكيات أكثر تواضعاً. وفي حال وجدت أن التواضع هو ما ينتظره أعضاء فريقك منك ويقدرونه، ركز على تشجيعهم على اعتبار أوجه القصور فرصاً للتعلم وتحديد مكامن قوتهم وإسهاماتهم واحترامها، ويمكن للشركات دمج تعلم هذه المهارات في التدريب على القيادة.

تشير أبحاثنا إلى عدم رغبة الجميع في قائد متواضع، لذا عليك تكييف أسلوبك بحسب توقعات فريقك. ففي حال توقع فريقك منك التواضع، سيعزز إظهاره قدرة الفريق على الإبداع والنجاح.