ما هي “حالة التدفق” التي تجعلك مبدعاً في أداء مهامك وكيف تصل لها؟

6 دقيقة
حالة التدفق
shutterstock.com/Andrii Yalanskyi

أصبحت الجداول الزمنية التي كانت تقاس بالأيام تُقاس بالدقائق في كل مكان في عالم الأعمال. فكيف يمكننا مجاراة ذلك التطور المتسارع؟ باختصار، ووفقاً لمجموعات متزايدة من الأدلة يمكننا ذلك عبر "التدفق الذهني".

يُعرف الباحثون هذا المصطلح تقنياً على أنه "حالة الوعي المثلى التي نشعر فيها بأننا في أفضل حالاتنا ونقدم أفضل ما لدينا"، واسمه مشتق من الإحساس الذي يمنحنا إياه. تتتالى الأفعال والقرارات بسلاسة في حالة التدفق الذهني. إذ ينصب تركيزنا على المهمة التي بين أيدينا لدرجة أننا لا نركز على أي شيء آخر. ويندمج العمل والوعي، ويختفي شعورنا بالذات، ويختلف إحساسنا بالزمن، ويرتفع الأداء إلى أعلى مستوياته.

أتناول في كتابي "نهوض الإنسان الخارق" (The Rise of Superman) كيف استخدم لاعبو الرياضات الخطرة مثل متزلجي الأمواج والجليد والمظليين وغيرهم التدفق الذهني لرفع الأداء الرياضي إلى مستويات لم يشهدوها من قبل، والأهم أن أي شخص يمكنه توظيف هذه الحالة. انتشارها واسع، وتوظف في كل المجالات بما فيها عالم الأعمال شريطة استيفاء بعض الشروط الأساسية.

في دراسة أجرتها شركة ماكنزي (McKinsey) على مدار 10 سنوات، أفاد كبار المسؤولين التنفيذيين بأنهم أكثر إنتاجية بخمس مرات في حالة التدفق الذهني. ماذا يعني ذلك؟ هذا يعني أنك إذا تمكّنت من قضاء يوم الاثنين في حالة التدفق الذهني، فسوف تنجز ما ينجزه أقرانك في حالة الاستقرار في أسبوع. ووفقاً لباحثي ماكنزي أنفسهم، إذا تمكنا من زيادة الوقت الذي نقضيه في التدفق الذهني بنسبة 15-20%، فإن الإنتاجية الإجمالية في مكان العمل ستتضاعف تقريباً.

يرجع أساس هذه المضاعفة إلى سلسلة معقدة من 5 مواد كيميائية عصبية معقدة تنجز ما تخفق غالبية المؤسسات في تحقيقه بسهولة. يفرز الدماغ في أثناء التدفق الذهني النورإبينفرين والدوبامين والإندورفينات والأنانداميد والسيروتونين، وجميعها يؤثر في الأداء. يعمل النورإبينفرين والدوبامين على زيادة التركيز، ما يساعدنا على إبعاد المشتتات المستمرة في حياتنا المتعددة المهام. تحجب الإندورفينات الألم، ما يسمح لنا ببذل جهد مضاعف دون أن نشعر بالإرهاق. يحفز الأنانداميد الروابط بين الأفكار والمفاهيم المتنوعة في الدماغ ويولد أفكاراً جديدة أكثر بكثير من معظم جلسات العصف الذهني.  أما السيروتونين، تلك المادة الكيميائية التي تبعث على الشعور بالسعادة والتي تعتمد عليها علاجات الاضطرابات النفسية والمزاجية، فتساعد في تعزيز الترابط بين أعضاء فريق العمل بطريقة أقوى مما تعززه أفضل اجتماعات فرق العمل.

ولكن الفهم الحقيقي لما يجعل هذه المواد الكيميائية بهذه القوة يتطلب التعمق أكثر في تأثيرها على التحفيز والتعلم والإبداع، لنتناول الحديث عنها واحدة تلو الأخرى.

من الناحية التحفيزية، هذه المواد الكيميائية الخمس هي أكبر المكافآت التي يمكن أن ينتجها الدماغ، وحالة التدفق الذهني هي إحدى الحالات القليلة التي ينتج فيها الدماغ هذه المواد الكيميائية الخمس في وقت واحد، وذلك يجعل من هذه الحالة إحدى أكثر التجارب المتاحة متعة وأهمية، بل أكثرها إدماناً بالمعنى الحرفي للكلمة.

وقد رأينا جميعاً أمثلة واقعية عنها، عندما يسهر المبرمجون 3 أيام متتالية لإطلاق تطبيق جديد، فإن حالة التدفق الذهني هي التي توصلهم إلى تحقيق هدفهم وليس الكافيين أو البيتزا الباردة. يقول المدير التنفيذي لمشروع جينوم فلو (Flow Genome Project) الذي كنت أشغل فيه منصب مدير الأبحاث، جيمي ويل: "يصف الباحثون حالة التدفق الذهني بأنها مصدر التحفيز الأساسي، بمجرد أن تنتج إحدى التجارب حالة التدفق الذهني، نبذل جهداً غير عادي للحصول على المزيد منها".

وما لا يقل أهمية هو قدرتنا على التعلم بوتيرة أسرع في بيئة تتسم بالتغير السريع. وهنا أيضاً يمكن أن تساعدنا حالة التدفق الذهني، وكلما زاد عدد المواد الكيميائية العصبية التي تظهر في أثناء التجربة، زادت فرصة انتقال التجربة من الاحتفاظ بها على المدى القصير إلى التخزين الطويل الأجل. وبما أن حالة التدفق الذهني تنتج إحدى أقوى الخلطات الكيميائية العصبية، تؤثر هذه الحالة تأثيراً هائلاً على قدرتنا على اكتساب مهارات ومعارف جديدة، فقد توصلت وكالة داربا (DARPA) إلى أن القناصين العسكريين الذين يتدربون في حالة التدفق الذهني يتعلمون بسرعة أكبر بنسبة 230% من المعتاد. أجرى العلماء في مركز المراقبة الدماغية المتقدمة (Advanced Brain Monitoring) في مدينة كارلسباد بولاية كاليفورنيا دراسة مدنية موازية وتوصلوا إلى أن حالة التدفق الذهني تخفض الوقت الذي يستغرقه تدريب الرماة المبتدئين ليصلوا إلى مستوى الخبراء إلى النصف.

يقول المؤسس المشارك لمركز ديلويت سنتر فور ذي إيدج (Deloitte's Center for the Edge) التابع لشركة ديلويت (Deloitte)، جون هيغل: "في جميع دراساتنا حول التحسين الشديد للأداء، وجدنا أن الأشخاص والمؤسسات الذين كانوا يوظفون شغفهم ويحققون حالة التدفق الذهني ينجزون أقصى تقدم في أقصر وقت".

قد يكون تأثير التدفق الذهني على الإبداع هو أهم ما يميزها في بيئة العمل المتسارعة هذه الأيام. ويتابع هيغل قائلاً: "الشكوى الرئيسية التي تسمعها من الناس اليوم هي أنهم غارقون في الكم الهائل من المعلومات التي تصلهم. يسمح لك التدفق الذهني باستيعاب تلك المعلومات وتجميعها ودمجها، وهذا ما يحفز العملية الإبداعية، لذا في حين ينجرف الآخرون إلى التشتت، يتكيف الذين يعيشون حالة التدفق الذهني، فهم يستخدمونها للارتقاء بالأداء إلى مستوى أعلى".

يحدث ذلك لأن الإبداع عملية إعادة تركيب؛ أي أفكار جديدة تصطدم بأفكار قديمة وتولد أفكاراً جديدة كلياً. في حالة التدفق الذهني، يساعدنا النورإبينفرين والدوبامين على إبعاد التشتت وجمع المزيد من المعلومات (أي الأفكار الجديدة). بالإضافة إلى ذلك، تعزّز هذه المواد الكيميائية القدرة على التعرف على الأنماط، ما يسمح لنا بالربط بين الأفكار على نحو أسرع، وفي الوقت نفسه، يعمل الأنانداميد على تحسين ربط الأفكار والمفاهيم منتجاً روابط بين الأفكار المتباعدة جداً.

تضاعف حالة التدفق الذهني التعلّم والتحفيز والإبداع، وهي الكفاءات الأساسية الثلاث الضرورية لمواكبة التغييرات الجذرية. ولكن هذه المكاسب لن تأتي دون استثمار جاد، إن إعادة هيكلة الشركات بناءً على التدفق الذهني يعني تغييرها تغييراً جذرياً، وتحويل التركيز من الكفاءة الآلية إلى المشاركة الإنسانية العميقة. لا يمكن للكثير من الشركات مواجهة هذا التحدي. ولكن في عصر التقدم المتسارع، قد يكون الالتزام بالتدفق الذهني في الوقت الحاضر هو السبيل الوحيد للبقاء في صدارة المستقبل الجارف.

إذاً كيف يمكننا تحقيق المزيد من التدفق الذهني في حياتنا ومؤسساتنا؟ لحالات التدفق الذهني عوامل محفزة؛ أي شروط مسبّقة تؤدي إلى مزيد من التدفق. بعضها نفسي وبعضها الآخر بيئي واجتماعي وإبداعي. وبما أن التدفق الذهني حالة من الاستيعاب التام، فجميعها طرق لتعزيز الانتباه وتشديده، ما يدفع تشديد التركيز على المهمة الحالية في اللحظة الحاضرة.

خذ التبعات الخطيرة للمهام على سبيل المثال، وهي أحد المحفزات البيئية. الفكرة هنا واضحة ومباشرة، إذ تأتي حالة التدفق الذهني نتيجة التركيز الشديد لتجنب التبعات الخطيرة.

بالنسبة إلى رياضيي الألعاب الخطرة الذين درستهم، كانت المخاطر في الغالب بدنية، لكن العلم يُظهر أن المخاطر الأخرى العاطفية والفكرية والإبداعية والاجتماعية لها التأثير نفسه. أضِف إلى ذلك أن المخاطر كلها نسبية. ففي حال كنت خجولاً وهادئاً، يحتاج مجرد التحدث خلال اجتماع مهم إلى جهد يعادل الجهد الذي يحتاج إليه راكب الأمواج المحترف في مواجهة موجة يصل ارتفاعها إلى 15 متراً.

توضح لنا هذه الحقائق أيضاً أن شركات وادي السيليكون التي تتخذ من "التقدّم عبر الإخفاق" شعاراً لها تتمتع بميزة مذهلة. إذا لم يكن لدى الموظفين هامشاً للإخفاق، فلن تكون لديهم القدرة على المخاطرة. وإن لم تكن تشجع على المخاطرة، فأنت تمنعهم من الوصول إلى حالة التدفق الذهني.

أحد المحفزات النفسية هو توازن التحدي مع المهارات، إذ يزداد تركيزنا عندما تكون هناك علاقة معيّنة بين صعوبة المهمة وقدرتنا على أدائها. فإذا كان التحدي أكبر من اللازم، فسوف يسيطر الخوف علينا، وإذا كان التحدي سهلاً للغاية، فإننا نتوقف عن التركيز. تحدث حالة التدفق الذهني بالقرب من نقطة التوسط الانفعالي بين الملل والقلق، في نقطة يسميها العلماء "قناة التدفق الذهني"، وهي النقطة التي تكون فيها المهمة صعبة لدرجة تحفز تركيزنا ولا تجعلنا نيأس من قدرتنا على تنفيذها.

هذه النقطة المثالية تحافظ على إبقاء الانتباه محصوراً في المهمة التي نعمل لإنجازها. عندما يكون التحدي في حدود المهارات المعروفة، بمعنى أنني نجحت فيه من قبل وأنا متأكد من قدرتي على النجاح مرة أخرى، تكون النتيجة معروفة مسبّقاً، فنصبح مهتمين لكن دون حماسة. ولكن عندما نكون غير متيقنين من النتيجة، فإننا نولي اهتماماً أكبر لمعرفتها. وبعبارة أخرى، عندما تكون تبعات إخفاقنا شديدة الخطورة، يدفعنا عدم اليقين بالنجاح إلى التركيز الفائق الشدة على العمل الذي ننفذه.

فما هو مدى الجهد الإضافي الذي يجب أن نبذله بالضبط؟ تختلف الإجابة من شخص لآخر، ولكن يبدو أن نسبة 4% تمثل قاعدة عامة لكنها غير دقيقة تماماً. يجب أن يكون التحدي أكبر بنسبة 4% من مهارات الفرد، وهنا يخطئ الكثير. إذ يتخطى أصحاب الأداء العالي نسبة الـ 4% دون أن يلاحظوا ذلك، ويخوضون تحديات أصعب بكثير ويفوتون النقطة المثالية، ويفوتون المكافأة التحفيزية للتدفق الذهني وتعزيز الأداء، وبالتالي يصلون إلى مرحلة الإنهاك. في المقابل، يخطئ أصحاب الأداء الضعيف لأن نسبة 4% هي النقطة التي يشعرون فيها بعدم الارتياح الشديد. على أصحاب الأداء العالي أن يدركوا أن البطء والثبات يحققان الفوز في هذا السباق، في المقابل يجب أن يدرك أصحاب الأداء المنخفض أن عدم الارتياح علامة على التقدم وليس سبباً للهروب.

هذان المحفزان هما البداية فقط، ولكنّ هناك نقطتين أخريين تستحقان الذكر. أولاً، عندما يفكر الناس في رياضات الحركة والمغامرة، يغطي الخطر الذي تنطوي عليه هذه الرياضات على عدة أمور بديهية بالنسبة للكثير منهم. من المؤكد أن كثرة المخاطر الجسدية في تلك البيئات تدفع إلى التدفق الذهني، لكن الرياضيين يعتمدون أيضاً على 15 محفزاً آخر لا يتضمن أي منها أي مخاطر جسدية. وهي تتراوح بين التركيز المتواصل (الذي لا تدعمه تصاميم المكاتب المفتوح بعضها على بعض)، والأهداف الواضحة، وردود الفعل الفورية.

ثانياً، يجري تطبيق علم التدفق الذهني بالفعل في الأعمال التجارية، إذ يركز بعض الشركات مثل فيسبوك وجوجل على المحفزات الفردية، في حين جعلت شركات أخرى مثل تويوتا وباتاغونيا (Patagonia) التدفق الذهني جزءاً أساسياً من فلسفة عملها الرئيسية. وبالتالي، فإن الأمر لا يقتصر فقط على أن الاستفادة من حالة التدفق الذهني يمكن أن تساعد المؤسسة على مواكبة عالم متسارع، بل إن هناك احتمالية كبيرة بأن منافسيك يطبّقون هذه المبادئ بالفعل، وقريباً قد لا يكون هناك طريقة أخرى غيرها لمواكبة التطور السريع للأداء والإنتاجية التي تشهده الدول المتقدمة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .