6 أسباب تجعل التعليم العالي بحاجة إلى زعزعة

7 دقائق
تطوير التعليم العالي

إليك هذا المقال الذي يتحدث عن تطوير التعليم العالي تحديداً. تبدو الجامعات فكرة جميلة. تدخل الجامعة، وتختار المادة التي تحبها، وتتعلم من خبراء، وتغادر وأنت جاهز للعمل في وظيفة ما أو اللحاق بمستقبل ما. وهذا هو السبب الذي يدفع الكثير من الناس (نحو 40% في الدول الغنية) إلى الالتحاق بالكليات، حتى إذا ترتب على ذلك تضحيات مالية وشخصية كبيرة. لكن لأنّ الكثير من الناس يفعلون ذلك، فهذا لا يعني أنه بالضرورة شيء جيد. ففي الحقيقة، بينما يكون عدم امتلاك شهادة جامعية مكلفاً بصفة عامة، من ناحية فرص الحصول على وظيفة، لا توجد دائماً ميزات تنافسية واضحة لامتلاك شهادة ما، وخصوصاً إذا كان قرابة نصف السكان حاصلين على واحدة. إنّ الواقع في عالمنا الذي يضع الرقمنة أولاً هو أننا بحاجة إلى تدريس كل جيل كيف يتعلم وكيف لا يتعلم وكيف يكرر عملية التعلم، بسرعة، حتى يكون بمقدور هذه الأجيال تحويل مستقبل العمل، بدلاً من التحوّل تبعاً له.

إذا كنت تقرأ هذه الكلمات، فنحن نعتقد أنك على الأرجح تمتلك شهادة جامعية، ونحن واثقون أنك تمتلك ذكريات عزيزة للغاية من السنوات التي قضيتها في الكلية. كما أننا نظن أنك تمتلك تجربة مباشرة مع بعض التحديات التي يواجهها الخريجون عند الدخول إلى سوق العمل، والإحباط الذي تعبّر عنه جهات التوظيف عند التعامل معهم (مثل إيجاد الأشخاص المناسبين، وإدارتهم وإدارة توقعاتهم، وتطوير مهاراتهم). فمثلاً، يتحسر الكثير من عملاء مجموعة "مان باور غروب" (ManpowerGroup) على الوقت والمال الذي يجب أن يستثمروه في تحسين مهارات الخريجين وصقلها حتى يستطيعوا "تعلم المهارات المطلوبة حقاً للنجاح في العمل في مقابل المهارات التي جعلتهم ناجحين في قاعة الفصل". وقد أمضى معظم الطلاب الذين درّسهم أحدنا في جامعة كولومبيا وكلية لندن الجامعية قدراً كبيراً من الوقت في محاولة إيجاد وظيفة جذابة على الرغم من تخرجهم من برامج بارزة، ودائماً ما يضطرون في نهاية الأمر إلى المساومة على خياراتهم.

كيفية تطوير التعليم العالي

لم يظهر بديل واضح للجامعات حتى الآن، ومع عدم وجود سبيل واضح لزعزعة التعليم العالي، فإنّ ثمة مشاكل محددة يمكن أن يواجهها من تربطهم منا علاقة بقطاع التعليم ومن هم خارجه. ومن المحتمل أن يظهر بديل عملي في مرحلة معينة، ونحن نرى ستة أسباب تجعل قضية طلب شيء ما مختلفة:

  • تحتاج جهات التوظيف إلى مهارات، وليس مجرد معارف أو ألقاب

يشهد العالم الصناعي ازدهاراً غير مسبوق في الوظائف. ولم تسنح من قبل فرصة أفضل من هذه لإيجاد عمل، ولا شك أنّ هذا الأمر مدعاة للاحتفال. وعلى أي حال، ما زال هناك تفاوت كبير بين الوظائف التي يريدها الناس والوظائف المتاحة بالفعل. فعلى سبيل المثال، بلغ معدل البطالة الحالي في الولايات المتحدة 3.6% فقط، لكن توجد 7.4 ملايين وظيفة شاغرة. فما هو السبب؟ أولاً، بعض هذه الوظائف غير جذابة للخريجين "الذين يمتلكون مؤهلات أعلى من المطلوب"، وهذا ما دفع شركة "وول مارت" إلى تقديم ما يصل إلى 108 آلاف دولار لسائقي الشاحنات، وما زال يتوفر لديها شواغر. ثانياً، تتطلب بعض الوظائف مجموعة مختلفة من المهارات عمّا يعرضه الباحثون عن وظائف، وهذا هو السبب في عدم قدرة 60% من المؤسسات على إيجاد محللين مؤهلين في مجال الأمن السيبراني مثلاً. ثالثاً، بينما يزيد عدد خريجي الكليات، هناك تساؤل عام عن تطبيق ما يتعلمه هؤلاء الخريجون في الجامعة في مجال العمل، في وقت تتزايد فيه أعداد جهات التوظيف التي تعبر عن تحفظات إزاء جاهزية الخريجين للوظائف وقدرتهم على إضافة قيمة فورية إلى مكان العمل. على سبيل المثال، تشتكي جهات التوظيف غالباً من احتمال عدم تعلم الخريجين الذين يأتون بشهادات جامعية مرموقة لما يحتاجون تعلمه ليكونوا قادرين على أداء وظيفتهم.

من الواضح أنّ أعداداً كبيرة من الأشخاص ينتهي بهم الأمر في وظائف لا تنسجم مع تعليمهم، حيث يشير تقرير أصدرته شركة "بيرننغ غلاس" (Burning Glass) إلى أنّ 20% من الخريجين ما زالوا لا يعملون في وظائف تتطلب درجة جامعية حتى بعد عشر سنوات من تخرجهم. وتصبح الأمور أكثر تعقيداً عندما نأخذ بعين الاعتبار حقيقة أنّ جزءاً أساسياً من الوظائف المستقبلية سيكون من الصعب التنبؤ به، عدا حقيقة أنها ستتطلب مجموعة مختلفة جداً من المهارات مقارنة بتلك التي يتمتع بها معظم الخريجين. وهذا هو السبب الكامن خلف اعتماد الإمكانات المستقبلية للقوة العاملة على قدرتها في صقل قابلية للتعلم، والعمل على تطوير التعليم العالي بدلاً من عرض الكثير من الشهادات الجامعية.

  • يريد الطلاب وظائف، وليس معارف أو ألقاب

السبب الأول الذي يدفع الطلاب إلى استثمار الكثير من الوقت والمال في التعليم الجامعي هو الحصول على وظيفة جيدة، حيث يرى ثلثا الطلاب "الاستقرار المالي" بمثابة الهدف الرئيس لهم. لكن على الرغم من تدني مستويات البطالة إلى مستويات قياسية، تعتبر البطالة المقنعة شائعة، حيث يعمل 40% من خريجي الكليات في وظائف لا تتطلب مؤهلاتهم فعلياً. كما أنّ من المستبعد أنّ يقدّر الطلاب العملية الفعلية للتعلم، أو اكتساب المعرفة، بنفس القدر الذي يقدّرون به الشهادة الحقيقية التي يتلقونها في النهاية. فمثلاً، هل يفضّل معظم الطلاب الحصول على تعليم في إحدى جامعات رابطة اللبلاب المرموقة دون شهادة، أم شهادة منها دون تعليم فيها؟

  • يدفع الطلاب أكثر للحصول على أقل

عند الحديث عن تطوير التعليم العالي يمكن التأكيد أنه عدا عن الرعاية الصحية، لم ترتفع تكلفة أي شيء كارتفاع تكلفة التعليم العالي، التي زادت في الولايات المتحدة بنحو 200% في السنوات العشرين الماضية (145% فوق معدل التضخم). وفي الحقيقة، ثمة شيء واحد ارتفع أكثر من ذلك بكثير، وهي ديون الطلاب، حيث ارتفعت بنسبة 600%، لتصل ارتفاعاً غير مسبوق في أميركا عند 1.4 مليار دولار (أعلى من ديون بطاقات الائتمان وأعلى من ديون تمويل السيارات). صدّق أو لا تصدّق، تراكمت على بعض الطلاب ديون بقيمة مليون دولار. لا شكّ أنه ما زال هناك عائد على الاستثمار لمعظم الدرجات الجامعية، وستكون أنت أوفر حظاً عند امتلاك عائد على الاستثمار مقارنة بعدم امتلاك شيء. وعلى أي حال، في مقابل كل درجة من جامعة مرموقة تحقق سنوياً نحو 12% من العائد على الاستثمار، يوجد عدد أكثر من الكليات والوظائف الأدنى مرتبة يكون فيها الرصيد بالسالب. ويصح القول أيضاً إنه كلما زاد عدد الخريجين من دولة ما، تقل القيمة المضافة من التخرج، ما يفسّر جزئياً التوقعات بأنّ الالتحاق بالكليات يتعين أن يستقر في السنتين أو الثلاث سنوات القادمة.

  • يمتلك الطلاب توقعات غير واقعية (مبرّرة) حول الكلية

تسوّق جميع الجامعات نفسها كمحرّك للنمو والقابلية للعمل والنجاح بصرف النظر عن تصنيفها العالمي، وما زال التعليم الجامعي يتعهد بتطوير مواهب الأشخاص. ومن المفهوم أنّ هذا ينتج توقعات عالية، لكن من غير الممكن الوفاء بها على نطاق واسع. لا يستطيع الجميع أن يكونوا قادة أو رؤساء تنفيذيين أو مدراء أو موظفي معرفة عليهم طلب كبير. وبأي آلية قياس موضوعية، فقد قطعنا مشواراً طويلاً في السنوات المائة الماضية بالتحول من خطوط تجميع رتيبة ووظائف روتينية إلى وظائف مرنة وذات معنى و"أن تكون شركة بنفسك". لكن دعنا لا ننسى أنّ من غير الممكن إعطاء الجميع وظائف أحلامهم. إذا تجاوزت طموحاتنا الوظيفية الفرص المتاحة، وتفوقت مواهبنا المتصوّرة عن أنفسنا مواهبنا الحقيقية، فما من شك أننا سنكون بائسين في العمل، وربما يفسِّر ذلك تفشي تقييمات تدني مشاركة الموظفين على الرغم من تكريس المزيد من المال لإعطاء الموظفين تجربة مماثلة لتجربة الزبائن. ولعلّ المعادل في عالم الحب سيكون إذا سعى الجميع إلى الارتباط بنجوم السينما مثل "براد بت" أو "أنجلينا جولي"، وستكون النتيجة وباء من العزّاب.

  • تضع الكثير من الجامعات المرموقة البحث على رأس أولوياتها، حتى على حساب التدريس

سيعلم أي شخص يقضي وقتاً في الأوساط الأكاديمية أنّ جودة الجامعات تعتمد بشكل أساسي على البحوث بدلاً من التدريس، على الأقل كما تحكم عليها جداول التميز البحثي. ويمكن أن يُنظر إلى التدريس في الكثير من المؤسسات البارزة على أنه صرف انتباه عن النشر والحصول على المنح البحثية. لا يستهوى أفضل أعضاء هيئات التدريس الرواتب العالية فحسب، بل المزيد من الحرية وقلة العبء التدريسي. وفي المقابل، فسينشر هؤلاء بحوثاً كثيرة ويُدخلوا إيرادات من المنح بالتزامن مع استغلال الخريجين للقيام بالتدريس بدلاً منهم. وتعتمد المجلات التي ينشرون فيها تلك البحوث على نموذج عمل مشكوك فيه، حيث تمتلكها امبراطوريات نشر ربحية تصل عائداتها إلى المليارات.

وفي رأينا، سيكون من الصعب أن تتغير هذه الديناميكية إلى حين أن يقوم نظام التعليم العالي بأكمله بتفضيل الفصل الدراسي على مختبر البحوث. وتعتبر عملية التدقيق التي تستخدمها المجلات الأكاديمية الرئيسة، وهي عملية مراجعة عمياء يقوم بها خبراء مستقلون، طريقة فعالة للنهوض بالعلم، لكن في عصر المعرفة الموزّعة والمعلومات مفتوحة المصدر، توجد فائدة جليّة من إضفاء صبغة ديمقراطية على الرؤى القائمة على العلم بالنسبة من يمولونها. وبينما تمثل البحوث محرِّك النمو والابتكار، ما يفسر التركيز الشديد للجامعات الأكاديمية البارزة عليها، يتعين ألا يبرر ذلك تجاهل التعليم الفعلي المقدّم للطلاب، بما فيه المسألة المهمة المتعلقة بإعداد الطلاب للعالم الحقيقي. وفي هذه الأثناء، سيكون على عاتق الأقسام المنفردة في الجامعات تحقيق التوازن السليم بين تأكيدها على التدريس وإجراء البحوث، والحوافز التي تقدمها لها.

  • تعزز الجامعات التفاوت بدلاً من الجدارة

تتناسب القيمة المضافة للدرجة الجامعية عكسياً مع الوضع الاجتماعي الاقتصادي للطالب، حيث أنّ معظم خريجي الجامعات الكبرى كانوا سيتمتعون بمستويات عالية من النجاح المهني على أي حال نظراً لثروتهم المبدئية وامتيازاتهم ومعارفهم. وهذا ما يجعل فضيحة القبول الجامعي الأخيرة في الولايات المتحدة مثيرة للسخرية: الأشخاص الذين كانوا قادرين على دفع مثل هذه الرشاوى الكبيرة كانوا هم الأشخاص الذين لم يكونوا مضطرين إليها كثيراً، حيث أنّ ثروتهم وامتيازاتهم ومعارفهم كفيلة تماماً بإيصالهم إلى وضع جيد في الحياة بغض النظر عن التحاقهم بكلية جامعية أو طبيعة المكان الذي يدرسون فيه.

وفي الوقت ذاته، تميل الجامعات إلى زيادة نسب التفاوت بدلاً من تقليصها. وقد أشارت تقارير بحثية إلى إنّ الأثرياء لا يميلون إلى الحصول على تعليم باهظ الثمن فحسب، بل إنهم يتزوجون أيضاً من أشخاص بنفس الدرجة من الثراء والتعليم، ما يؤدي في المقابل إلى إنتاج ذرية تتمتع بالثراء والامتيازات. وكما قال أنثوني جاك في كتاب نشره مؤخراً، فهي تميل الجامعات المرموقة إلى تفضيل من يُسموّن بـ "الفقراء المتميزين"، كأشخاص سود أو لاتينيين يتمتعون بمكانة اجتماعية واقتصادية رفيعة، حتى عندما تركز هذه الجامعات على التحاق الأقليات. والسؤال الجوهري الذي نراه هو: إذا ادّعت جامعة أنها مؤسسة تعليمية مرموقة، ألا يتعين عليها قبول أشخاص حاصلين على نتائج اختبارات متدنية، وأن تحوّلهم إلى قادة المستقبل (على العكس من قبول أشخاص يمتلكون دخلاً ونتائج اختبارات عالية، وسيكونون على الأرجح من سيحكمون العالم مستقبلاً بغض النظر عن السنوات الثلاث أو الأربع في الجامعة)؟

باختصار، يوجد الكثير من الأمور التي يجب أن نعيد التفكير بشأنها فيما يتعلق بالنموذج الحالي والعمل على تطوير التعليم العالي الحالي. والمستقبل حليف الشركات والأفراد الذين يهتمون بالتعليم بالتوازي مع العمل، مع وجود دورات مستمرة من التعلم. النجاح في المستقبل لن تحدِّده درجة علمية، بل الإمكانات والقدرة على التعلم والتطبيق والتكيف.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي