باتت الشركات مشغولة أكثر من أي وقت مضى في مواكبة التطورات التكنولوجية عبر تكثيف الجهود الرقمية، لكن في ظل مساعيها تلك يجب أن تُفرِّق بين الرقمنة والتحول الرقمي الحقيقي الذي تحتاج إليه. فالرقمنة تتمثل في المبادرات الرقمية المتسارعة التي تقوم بها الشركات مع بقاء سير العمل كالمعتاد؛ أما التحول الرقمي فيعني تغيير نموذج عمل الشركة تغييراً كاملاً ليُصبح قائماً على التكنولوجيا الرقمية في جميع عملياته؛ من تقديم الخدمات وتصنيع المنتجات إلى تسيير الموارد البشرية وغيرها من وظائف المؤسسة.
بدا هذا الفرق واضحاً لشركات القطاع الخاص في السعودية -خصوصاً أن المملكة تسعى من خلال رؤية 2030 لبناء ميزة تنافسية مستدامة قائمة على التكنولوجيا. وزاد وعي تلك الشركات بأهمية وضع تصور جديد للطرائق التي تتبعها من أجل خلق القيمة، وتحسين تجربة العملاء، إذ أظهر استطلاع أجرته شركة يوغوف (YouGov) لأبحاث السوق، بتكليف من شركة إس أيه بي (SAP) المختصة في برمجيات تطبيقات المؤسسات، أن 87% من المؤسسات السعودية تدرك قيمة التحول الرقمي في تحقيق أهدافها.
يأتي هذا الإدراك من تزايد اعتماد التغير الرقمي كمقياس لمعظم اختيارات الأفراد من المنتجات والخدمات، إذأصبح الشراء عبر المنصات الرقمية، على سبيل المثال لا الحصر، بديلاً عن التسوق بالطرائق التقليدية في المجمعات والأسواق التجارية. بحسب ورقة بحثية أعدَّتها بوسطن كونسلتينغ غروب (Boston Consulting Group) بالتعاون مع ميتا (Meta)، من المتوقع أن تصل قيمة سوق التجارة الإلكترونية في المملكة إلى 13.3 مليار دولار بحلول عام 2025، فيما ستبلغ 22.01 مليار دولار بحلول عام 2027، وفقاً لتقديرات موقع ريسيرتش آند ماركتس (Research and Markets).
ومن المرجح أن يتجاوز حجم قطاع تقنية المعلومات 103 مليارات ريال (27.46 مليار دولار) بحلول عام 2025، بما يتماشى مع مساعي المملكة لرفع نسبة مساهمة الاقتصاد الرقمي في الناتج المحلي الإجمالي إلى ما يزيد على 19% خلال الأعوام المقبلة. كل هذه المؤشرات دفعت القطاع الخاص إلى زيادة اعتماد الحلول الرقمية في تقديم الخدمات والمنتجات، لتصل نسبة التعاملات الإلكترونية فيه إلى نحو 75.9% من الإجمالي، بحسب تقرير "الاقتصاد الرقمي في المملكة: الواقع والتحديات" الصادر عن غرفة الرياض.
تضخ الشركات مليارات الدولارات في الرقمنة، مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية وإنترنت الأشياء، إذ تستثمر شركات عالمية مثل جوجل وعلي بابا وأوراكل ما يزيد على 2.5 مليار دولار في التكنولوجيا السحابية بالمملكة، فيما تخطط شركة أرامكو لاستثمار 1.9 مليار دولار في المجال الرقمي خلال السنوات الثلاث المقبلة.
الانتقال إلى العصر الرقمي لا يحدث بضغطة زر
إنفوجراف: العناصر الخمسة الأساسية في التحول الرقمي
لم تعد كلمة رقمي مرادفة لمفهوم "تقنية المعلومات"؛ بل أصبحت الاستراتيجية الرقمية للشركة هي المحرك الفعلي لخطط العديد من الأقسام وأهدافها، في المبيعات والتسويق وحتى في أقسام الموارد البشرية. لذا يحتاج التحول الرقمي إلى العمل المشترك بين المسؤولين التنفيذيين والمدراء وموظفي الخطوط الأمامية في الشركات لمواءمة وجهات النظر المختلفة حول إعادة النظر في كيفية سير جوانب العمل.
بيّنت شركة ماكنزي أن إقناع صناع القرار بالمشاركة في عملية التحول الرقمي من التحديات التي تواجه الشركات بدول الخليج، إذ لا يزال هذا المفهوم حديثاً بالنسبة للمنطقة ويتطلب استثمارات مالية ضخمة ونماذج عمل مختلفة، وذلك على الرغم من أن عدم تبنّي الخيار الرقمي يمثل مخاطرة أكبر، إذ وجدت شركة ماكنزي أن المستويات الحالية للتحول الرقمي أدت إلى تراجع الإيرادات السنوية في العديد من الصناعات بمعدل 6%.
لكن يوجد أمل بتسارع وتيرة تحول إدارات الشركات نحو زيادة الاستثمار في التكنولوجيا، ففي الاستبيان الأخير لانطباعات الرؤساء التنفيذيين الذي أجرته شركة برايس ووترهاوس كوبرز (PwC)، عبّر 84% من الرؤساء التنفيذيين في الشرق الأوسط عن استعدادهم للتحرك نحو التحول الرقمي بشكل أسرع في الأعوام المقبلة، وتوقع 66% منهم نشر التكنولوجيا السحابية والذكاء الاصطناعي وغيرها من التقنيات المتقدمة في عملياتهم.
ونجاح التحول الرقمي مرهون أيضاً بالقيمة الفريدة التي تخلقها الشركة للعملاء وأصحاب المصلحة. ففي دراسة حديثة لمؤسسة ماكنزي بعنوان: "المستهلكون الرقميون في الشرق الأوسط: تزايد التبني والفرص" (Digital consumers in the Middle East: Rising adoption and opportunity)، لفهم كيفية استخدام المستهلكين للخدمات الرقمية؛ وجدت أن الشركات عبر الصناعات المختلفة تتمتع بفرصة إعادة تخصيص حصة أكبر من إنفاقها الإعلاني للقنوات الرقمية لإشراك المستهلكين بشكل أكثر فعالية.
أمام هذه التحديات؛ تمكّنت شركات سعودية من اتخاذ خطوات فعّالة تجاه التحول الرقمي، ونسجت تجارب وقصصاً تستحق أن تُروى.
ناس: طيران اقتصادي بأداء متطور
قد يبدو لبعض قادة الشركات أن التحول الرقمي ينطوي برُمته على زعزعة جذرية لأعمال الشركة عبر ضخ استثمارات كبيرة في التكنولوجيا أو الانتقال إلى الأدوات الرقمية، لكن ليس بالضرورة ذلك؛ ففي أغلب الأحيان يعني التحول الرقمي خطوات متزايدة تدريجياً في القيمة الأساسية المقدَّمة للعميل.
وهذا ما قامت به طيران ناس، إذ عملت على تطوير أدائها من أجل تحسين تجربة العملاء. ففي عام 2007 قدمت التذكرة الرقمية منذ اليوم الأول لعملياتها، وأصبحت أول مشغِّل يعتمد على الأجهزة الذكية في أدلة الإجراءات داخل قمرة القيادة لرفع كفاء الطيارين، وأول شركة في السوق تتيح للعملاء خدمة السداد عبر الإنترنت.
كما تمتلك الشركات طموحات كبيرة لتوظيف التحول الرقمي في خدمة المستهلكين، ويشاطرها في ذلك الكثير من الجهات، ومن المنطقي جداً أن تتظافر جميع الجهود لإحداث الفرق، لذا تعاونت طيران ناس مع وزارة الحج والعمرة السعودية من أجل تطوير منصة إلكترونية مختصة لتسويق منتجات العمرة، وتمكينها من إصدار التأشيرات الإلكترونية (evisa).
ولم تقتصر استفادة طيران ناس من الحلول الرقمية على خدمات السفر، بل تعدتها لتمكين المسافرين من المساهمة في تنمية المجتمع عبر إتاحة فرصة التبرع رقمياً للجمعيات الخيرية، ليصل إجمالي عدد التبرعات إلى نحو 1.8 مليون ريال استفاد منها 1,140 طفلاً وطفلة من ذوي الهمم في الحصول على خدمات طبية وتعليمية متكاملة.
وبذلك ركزت طيران ناس على بناء أدوات جديدة للتفوق على المنافسين بدلاً من اللحاق بهم، وتلبية احتياجات العملاء بخدمات لا يقدمها المنافسون، ما أهلّها لتكون ضمن قائمة أفضل 10 شركات طيران اقتصادي في العالم لعام 2022 وفق سكاي تراكس، المنصة المختصة في تصنيف أفضل شركات الطيران على اختلاف فئاتها.
وتؤكد تجربة طيران ناس تزايد أهمية التحول الرقمي في قطاع النقل الجوي لما يوفره من مستويات عالية من المرونة وقابلية توسيع نطاق العمليات وتطويرها، خصوصاً أن الإنفاق على تكنولوجيا المعلومات في شركات الطيران ارتفع من 32 مليار دولار في عام 2021 إلى نحو 37 مليار دولار خلال عام 2022، أي بزيادة قدرها 4.73%. بحسب تقرير شركة سيتا (SITA) المزودة لخدمات تكنولوجيا المعلومات في قطاع النقل الجوي.
منصة سهيل: العثور على مشروع العمر بسهولة وأمان
يُعد القطاع العقاري من القطاعات الشديدة التنافسية في السعودية، وحتى لو كان الاستثمار في سوق لا تتصارع فيه الشركات على نيل الحصة الأكبر، يجب أن تبقى تلبية متطلبات العميل واحتياجاته أولوية قصوى، لا سيما أن عملاء سوق العقار يركزون على أدق التفاصيل المتعلقة بالجودة، لأن اقتناء وحدة سكنية يكون في غالب الأحيان "مشروع العمر" بالنسبة لهم.
وعليه، أطلقت شركة كوانت (Quant) السعودية المختصة في تحليل البيانات وتقديم الخدمات الاستشارية، منصة سهيل لتوظيف الذكاء الاصطناعي والأدوات المبتكرة في تقديم خدمات عقارية تفاعلية تعتمد على البيانات والخرائط الرقمية بما يضفي المزيد من الدقة والمصداقية على التعاملات العقارية.
كما تساعد المنصة أصحاب العقارات على تحديد قيمة عقار معين بدقة أكبر والتنبؤ بمساره على مدار فترة معينة، عبر خدمة مسبار سهيل، التي تقدم لوحة بيانات تفاعلية لمراقبة المتغيرات والمستجدات في أنظمة البناء واستخدام الأراضي ومعرفة اتجاهات السوق وإتاحة المعلومات عن الصفقات العقارية، ما يمكّنها من مواكبة تطور السوق العقارية في المملكة التي من المتوقع أن تسجل نمواً سنوياً مركباً نسبته 7.89%، لتقفز من 64.43 مليار دولار في عام 2023 إلى 94.19 مليار دولار بحلول عام 2028.
أثبت الدراسات أن التحول الرقمي يؤتي ثماره إذا أتقنت الشركات البنية التقنية الرقمية السليمة، وفي تجربة منصة سهيل؛ تبنّت شركة كوانت النطاق الكامل للتقنيات الرقمية واعتمدت تقنيات الذكاء الاصطناعي باعتبارها وسيلة للتمتع بميزة فارقة.
وللاستمرار في التجارب الناجحة يجب الوصول إلى آخر مراحل النضج الرقمي، وهي التوطين؛ التي تتسم بالعمل على تهيئة البنية التشغيلية لنشر الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع، والاعتماد على مجموعة من الخبراء المختصين، بالإضافة إلى الاستثمار في تدريب فريق العمل وبناء قدراته.
جيديا: الغوص في المحيط الأزرق لابتكار قيمة جديدة
ليس القطاع العقاري وحده مَن يشهد تغيراً بفعل التحول الرقمي، بل باتت الخدمات المصرفية تأخذ منحى قائماً "بشكل كامل" على التطور التقني لضمان تلبية احتياجات المستهلكين وحتى تخطي توقعاتهم. إذ كشفت دراسة بوسطن كونسلتينغ غروب (Boston Consulting Group) حول توقعات المستخدمين في السعودية ومتطلباتهم فيما يتعلق بالقطاع المصرفي، أن 88% من العملاء السعوديين مهتمون بفتح حسابات رقمية حصراً، ووافق 79% منهم على نشر بياناتهم إن كان ذلك يعزز تجاربهم المصرفية.
وفي الوقت الذي يبحث فيه 63% من العملاء للحصول على خدمات ومنتجات جديدة، أبدى 52% منهم استعداداً لتغيير البنك الذي يتعاملون معه والتوجه إلى بنك جديد؛ بهدف الحصول على الخدمات والتجارب التي يرغبون فيها.
تعزيز تعاملات التجارة الإلكترونية جعل وسائل الدفع الرقمية الخيار البديل لدى 77% من السعوديين عن وسائل الدفع التقليدية، وفقاً لتقرير "استجابة منظومة التحول الرقمي في المملكة العربية السعودية خلال جائحة كورونا" الصادر عن وحدة التحول الرقمي، ومع رفع البنك المركزي الحد الأقصى للمحفظة الإلكترونية الشهرية لما يصل إلى 20 ألف ريال سعودي، باتت تلك المحافظ الرقمية وسيلة الدفع المفضلة لـ 26% من المستهلكين في المملكة في التجارة الإلكترونية.
هذا التوجه الجديد للمستهلكين السعوديين أدركته شركة جيديا منذ دخولها قبل نحو 20 عاماً في قطاع المدفوعات الرقمية، إذ اعتمدت استراتيجية المحيط الأزرق التي تعني الدخول في أسواق غير مُكتشفة بعد أو المنافسة فيها معدومة، لخلق قيمة مضافة تميزها عن الشركات العاملة في المجال نفسه.
وعملت جيديا على المواءمة بين الركائز الثلاث للتحول الرقمي والمتمثلة في الاهتمام بالعميل، والقوى العاملة، وإدماج تكنولوجيا المعلومات مع التكنولوجيا التشغيلية، واعتمدت ممارسة شمولية تتضمن تغيير ما اعتاده الأشخاص وطرق سير العمل، بالإضافة إلى استخدام التقنيات والبيانات. على سبيل المثال، طورت جيديا تطبيق (POS) لمساعدة الشركات الصغيرة والمتوسطة على بدء أنشطتها التجارية وإدارتها وتنميتها باستخدام تطبيق مجاني واحد.
يقول مؤسس الإدارة الحديثة، بيتر دراكر: "الإدارة هي العمل بطريقة صحيحة، لكن القيادة هي القيام بالأمور الصحيحة"، وتؤكد تجارب كل من طيران ناس وجيديا ومنصة سهيل أن الخوف من التخلف عن الركب وضمان الاستمرار في المستقبل، يتطلبان من قيادات القطاع الخاص خلق ميزة تنافسية حقيقية طويلة الأجل من أجل النجاح في العصر الرقمي.