ما الذي يشكل حياة مهنية مُرضية؟ بصفتنا أساتذة جامعيين، علّمنا العديد من الشباب الذين يستعدون لبدء حياتهم المهنية وأجرينا أيضاً دراسات شملت موظفين من مختلف مستويات الخبرة وعبر مجموعة متنوعة من المجالات، مثل الصحفيين والمعلمين والمهندسين المعماريين والاستشاريين والعاملين في مجال الرعاية الصحية. لاحظنا مراراً وتكراراً من خلال تفاعلاتنا مع الطلاب والمقابلات مع الموظفين أن تطلع الأشخاص إلى الالتزام بمسار مهني يتوافق مع قيمهم الأخلاقية غالباً ما يكون أساس قراراتهم المتعلقة باختيار الوظيفة التي يقبلونها أو يتخلون عنها.

يعني الالتزام بمسار مهني أخلاقي أداء عمل يسمح للفرد بممارسة قيمه الأخلاقية، وبعبارة أخرى؛ العمل في وظيفة تتوافق مع الفهم المشترك لما هو أخلاقي وفاضل. ومع ذلك، قد يمثّل رسم مسار مهني أخلاقي في الواقع تحدياً. قد تؤثر التغييرات المؤسسية الداخلية وكذلك الهزات الاجتماعية والاقتصادية التي لا يمكن السيطرة عليها في قدرة الأفراد على إنشاء مسار مهني أخلاقي. على سبيل المثال، يتعين على الأفراد في أوقات عدم اليقين الاقتصادي التعامل مع المشكلات المباشرة مثل ارتفاع تكاليف المعيشة والتهديدات بتسريح العاملين، ما قد يتطلب منهم إجراء مقايضات مؤلمة فيما يتعلق بخياراتهم المهنية. كانت هذه هي الحال بالنسبة للصحفيين الذين أجرينا دراستنا عليهم، إذ هددت هشاشة قطاعهم فرصهم في البحث عن وظائف تسمح لهم بتجسيد قيمهم الأخلاقية المتمثلة في نقل الحقائق إلى المجتمع.

استخلصنا من خلال عملنا في التدريس والبحث بعض الدروس الأساسية حول كيفية انخراط الأفراد في مهن تسمح لهم بتجسيد قيمهم الأخلاقية. تركز هذه الدروس على الوعي بلحظات الصحوة الأخلاقية والتحقق من المعايير التي تحدد العمل “النقي” أخلاقياً والبحث عن مجتمعات تشاركك قيمك الأخلاقية. إليك كيفية وضع هذه الاستراتيجيات موضع التنفيذ في رحلتك نحو مسار مهني أخلاقي.

1. انتبه إلى الجوانب الأخلاقية لعملك

غالباً ما يواجه الموظفون لحظات صحوة أخلاقية؛ لحظات فاصلة تنبهنا إلى عدم التوافق بين أفعالنا ومن نريد أن نكون. يمكن أن نواجه هذه اللحظات في أعقاب الأحداث الشخصية أو الاجتماعية المهمة. على سبيل المثال، ذكر أحد الأشخاص أن تجربة إعصار كاترينا التي واجهها في أثناء دراسته الهندسة المعمارية مثّلت تنبيهاً شكّل مساره المهني، يقول:

كنت أدرس الهندسة المعمارية وأجري الأعمال النظرية في مبنى ريتشاردسون الروماني الجميل الذي يعود تاريخه إلى قرن من الزمان والموجود في الحرم الجامعي على أطراف المدينة. في الوقت نفسه، كانت المدينة خارجه في حالة من الفوضى دون بنية تحتية، وتراكمت أكوام القمامة وجثث الضحايا ما زالت تُكتشف في المنازل. بدأت بالفعل أشعر بانفصال شديد بين ما كنا ندرسه حول إنشاء بيئات مثالية للبشر والحقائق القاسية التي حدثت وما زالت تتكشف في مدينة نيوأورلينز.

يمكن للموظفين أيضاً أن يدركوا التناقضات الأخلاقية في أثناء أداء واجباتهم داخل مؤسساتهم. على سبيل المثال، ذكرت إحدى الممرضات التي تحدثنا إليها أن بعض ممارسات المستشفى الضرورية لتوفير الموارد، مثل تقديم عناية خاصة لمتبرعيها، تعزز أيضاً عدم المساواة في الرعاية الصحية المقدمة للمرضى. مع مرور الوقت، يمكن لهذا الوعي الأخلاقي أن يتراكم ويدفع الموظفين إلى النظر إلى أنشطتهم المهنية على أنها تتعارض مع طموحهم في تأسيس مسار مهني يرتكز على الأخلاق.

سواء كانت ناجمة عن حدث خطير أو وعي متزايد تدريجياً، يمكن أن تكون لحظات الصحوة الأخلاقية هذه غامضة وبالتالي مصدراً للاضطراب والتشتت. غالباً ما يكون رد فعلنا الأولي عند مواجهة الاضطراب تجاهله، وأحد أسباب ذلك هو أن التعامل مع لحظات الصحوة الأخلاقية هذه قد يتطلب التحقق من المعايير أو الممارسات المتعارف عليها، ولكن تأسيس مسار مهني أخلاقي يتطلب الانتباه إلى هذا الاضطراب والاعتراف به ومعالجته كي تكتشف كيفية تحويل حياتك المهنية نحو مسار يتوافق مع قيمك الأخلاقية. وبالفعل، كان العديد من الموظفين الذين درسناهم قادرين على مواجهة هذا الاضطراب.

2. تحدي معايير “النقاء الأخلاقي”

يتطلب التعامل مع الاضطراب الناجم عن لحظات الصحوة الأخلاقية غالباً تحديد معايير النقاء الأخلاقي والتحقق منها، وهي معتقدات مشتركة حول نوع العمل أو الوظيفة المناسب من الناحية الأخلاقية. لكل مجموعة مهنية مجموعتها الخاصة من معايير “النقاء” الأخلاقي. على سبيل المثال، ينظر الصحفيون إلى الوظائف في المؤسسات الإخبارية التقليدية على أنها “نقية” من الناحية الأخلاقية لأن هذه المؤسسات تلتزم بالقيمة الأخلاقية المتمثلة في نقل الأخبار غير المتحيزة حول الأحداث الجارية، والواقع أن شعار صحيفة واشنطن بوست “الديموقراطية تموت في الظلام”، يضفي معنى أخلاقياً واضحاً على العمل الذي يؤديه موظفوها.

الفرضية الأساسية لمعايير النقاء هي أننا يجب أن نكون مستعدين للتضحية بجوانب من حياتنا الشخصية ووضع احتياجاتنا في المرتبة الثانية لتولي وظائف “نقية” من الناحية الأخلاقية. على سبيل المثال، يضطر الصحفيون في كثير من الأحيان إلى التنازل عن دخلهم للالتزام بمعايير النقاء هذه؛ أوضح أحد المراسلين المخضرمين الذين قابلناهم عملية المقايضة بين السعي وراء مسار مهني أخلاقي والاستقرار المالي قائلاً: “جوهر وظيفتي قول الحقيقة دون تحيز أو خداع، ومحاولة أن تكون منصفاً في عملك. لم يكن اختيار مساري المهني مدفوعاً بالمكاسب المالية، لذلك قبلت راتباً أقل عند الانتقال إلى مؤسسة إخبارية”. مع ذلك، ليست كل التضحيات الشخصية ذات طبيعة مالية. على سبيل المثال، ضحّى معلمو المدارس العامة المستقلة الذين أجرينا عليهم دراستنا بوقتهم الشخصي لتكريس أنفسهم لنجاح طلابهم. وبالمثل في إحدى الدراسات، أبلغ موظفو الإغاثة الدوليون أنهم ضحوا بعلاقاتهم الشخصية المستقرة في سبيل خدمة عملهم.

في الواقع، من الصعب الاستمرار في تقديم هذه التضحيات بمرور الوقت. وفقاً لبحثنا، يبدأ العديد من الموظفين على المدى الطويل التحقق من معايير النقاء المقبولة عموماً في مجالاتهم والوضع الأخلاقي الراهن ويجدون طرقاً إبداعية أخرى للعمل وفقاً لقيمهم الأخلاقية. على سبيل المثال، رأى العديد من الصحفيين الذين أجرينا عليهم دراستنا أن وسائل الإعلام الإخبارية التقليدية تستغلهم، وعثروا على وظائف غير تقليدية شعروا بأن بمقدورهم العمل فيها بما يتوافق مع قيمهم الأخلاقية، وفي الوقت نفسه، تتطلب تضحيات شخصية أقل. انضم بعضهم إلى الجامعات والمؤسسات البحثية، وأنشأ آخرون منافذهم الإخبارية الخاصة. مع ذلك، عند الخروج عن الوضع الأخلاقي الراهن، غالباً ما يجد الموظفون أن عليهم تغيير المجتمع الذي يتطلعون إليه لطلب التوجيه الأخلاقي والمصادقة.

3. ابحث عن مجتمعات تشاركك قيمك الأخلاقية

توضح الأمثلة أعلاه أن قيمنا الأخلاقية والمقايضات المصاحبة للالتزام بها يمكن أن تكون غير متوافقة مع أهدافنا وتطلعاتنا المهنية، لكن غالباً ما يتردد الموظفون في التغيير لأنهم يشعرون بالقلق من أن زملاءهم والشركات التي يعملون لها سيرفضون رغبتهم في الخروج عن الوضع الراهن. وفقاً لأبحاثنا، يتعين علينا في كثير من الأحيان تقبّل ضرورة إعادة النظر فيمن نلتمس منهم التوجيه والمصادقة لتأسيس مسار مهني يتوافق حقاً مع قيمنا الأخلاقية. على وجه الخصوص، يجب أن نبحث عن أشخاص يدعمون مسارنا المهني وقيمنا الأخلاقية على حد سواء.

اكتشفنا أن الموظفين الذين يبقون في وظائفهم ولكنهم يشككون في الوضع الأخلاقي الراهن غالباً ما يحتاجون إلى المصادقة والتأكيد من مصادر خارج مكان عملهم. على سبيل المثال، ذكرت ممرضة في وحدة العناية المركزة للأطفال الحديثي الولادة اختارت عدم تغيير وظيفتها بعد مواجهتها صحوة أخلاقية، أنها غالباً ما تلجأ إلى زوجها أو صديقتها المقربة بدلاً من زملائها في المستشفى لتحصل على الطمأنينة والدعم العاطفي عند التعامل مع المعضلات الأخلاقية المتعلقة برعاية المرضى.

بالإضافة إلى ذلك، غالباً ما يجد الموظفون الذين يختارون ترك المسارات المهنية التقليدية، في سبيل الالتزام بقيمهم الأخلاقية، أنفسهم يبحثون عن الدعم المعنوي خارج أماكن عملهم. على سبيل المثال، تحدث الصحفيون الذين تركوا عملهم التقليدي وانتقلوا إلى العمل لحسابهم الخاص عن أن تأسيس مسار مهني يتوافق مع قيمهم الأخلاقية غالباً ما تطلب منهم اللجوء إلى الجمهور والقراء، بدلاً من الاستعانة بأفراد من قطاعهم، للتحقق من أن عملهم أخلاقي.

يتغير مشهد العمل باستمرار، لكن طموح الأفراد لتأسيس مسار مهني يتوافق مع قيمهم الأخلاقية يظل ثابتاً. ربما كان تحقيق ذلك صعباً، لكن السعي إليه يستحق العناء أيضاً؛ فوظائفنا تستهلك قدراً هائلاً من وقتنا وطاقتنا، ومن الضروري أن نشعر بأننا نؤسس مساراً مهنياً يتوافق مع قيمنا الأخلاقية. وفقاً لعملنا، يمكن للموظف الحفاظ على قيمه الأخلاقية في أثناء تأسيس حياته المهنية من خلال الوعي بلحظات الصحوة الأخلاقية والتحقق من قواعد النقاء المقبولة على نطاق واسع، بالإضافة إلى تقبّل ضرورة تغيير من يلتمس دعمهم ومصادقتهم.