جرّب أن تكون عادياً ليوم واحد

3 دقائق

هل تفاخر بأنك شخص ينشد الكمال؟

على عكس الإدمان والهواجس الأخرى، فإن الكمالية هو أمر يحتفي به الكثيرون معتقدين أنها ميزة تستحق التفاخر. لكنها ربما تكون عائقاً أمام الإنتاجية والسعادة.

أُجريت مؤخراً مقابلة مع ديفيد بيرنز، مؤلف كتاب "الشعور الجيد" (Feeling Good)، الذي توصل إلى هذه النتيجة. لقد خلص بناء على أكثر من 35 ألف جلسة علاجية إلى أن طلب الكمال هو الطريقة الأكثر ضماناً لتقويض السعادة والإنتاجية. هناك فارق بين السعي الصحي وراء التميز وبين الكمالية العصابية، لكن هل وقعت يوماً في براثن الثانية أثناء محاولتك القيام بالأول؟

في المستويات المتطرفة من الكمال، يصبح السعي للكمال اضطراباً مرضياً. يعطي برنز مثالاً جامحاً عن محامٍ يصبح مهووساً بجعل شعره "مضبوطاً تماماً". تراه يقضي ساعات أمام المرأة ممسكاً بمشط ومقص ويقوم بتعديلات إلى أن أصبح طول شعره بالكاد بطول إنش واحد. أصبح بعدها مهووساً بضبط مقدمة شعره فأخذ يقص منها أكثر قليلاً كل يوم حتى انحسر شعره كثيراً، وأصبح أصلعاً. كان بعدها ينتظر أن ينمو شعره لتبدأ القصة نفسها من جديد. في نهاية المطاف قادته رغبته في الحصول على شعر مثالي إلى التوقف عن ممارسة القانون من أجل تكريس نفسه لهوسه.

هذا مثال متطرف، بكل تأكيد، لكن هناك سبلاً أقل خطراً يقودنا بها حب الكمال للانخراط في نشاطات ثانوية، هل أصبحت يوماً مهووساً بإعداد تقرير على الرغم من أن مديرك يقول إنه جيد بما فيه الكفاية؟ هل فقدت يوماً غرضاً غير كثير الأهمية واستمريت مع ذلك بالبحث عنه؟ هل يطالبك زملاؤك كثيراً "أن تنسى الأمر"؟

يعود السعي "للكمال" بدل السعي لتحقيق "درجة كافية منه" بعواقب سلبية. حصل هذا لي مرة عندما طُلب مني تدريس ورشة عمل لقادة شركة تقنية شهيرة. استغرقت وقتاً لفهم احتياجاتهم وتخصيص المواد الدراسية لهم. ومع أنه كان لدي مسبقاً الكثير جداً من المواد التي درسّتها مرات عديدة وعادت بنتائج رائعة، إلا أن هوسي بجعلها مثالية دفعني للاستغناء عنها جميعها في الليلة السابقة، فكنت بالنتيجة منهكاً وغير مستعد. أحسست أنني مشوش وأن ما أقدمه يشوش على رسالتي الرئيسية. لو أنني سعيت لتحقيق شيء متوسط بدل شيء مثالي، لتمكنّت من التركيز أكثر على العميل في تلك اللحظة وكانت الأمور اختلفت كثيراً بالنسبة لي.

تركني هذا أتساءل: ماذا لو كانت محاولة أن تكون عادياً طريقة أفضل لتسريع نجاحك؟

لدى المبالغين في الإنجاز توقعات كبيرة من أنفسهم بحيث أن كلمة "عادي" تعني لهم أن شخصاً آخر هو "الجيد" حقاً. لهذا بدل دفع نفسك لتحقيق 100% ( أو 110%، أيا كان ما يعنيه ذلك) يمكنك التحول لإعطاء 75% أو 50% مما يمكنك فعلاً تقديمه. وهي بالضبط الفكرة التي يوجزها شعار "المنجز أفضل من الكامل" وهو ما تلصقه شركة "فيسبوك" على جميع الجدران في مقرها ضمن مدينة مينلو بارك. لكن هذا ليس عذراً لتبرير العمل الرديء. الفكرة هي إعطاء المهندسين الإذن لإتمام دورات العمل والتعلم سريعاً بدل البقاء رهينة لإحساس الكمال غير القابل للتحقيق.

لكلمة "كمال" (perfect) أصل لاتيني، يعني حرفياً "جيد الصنع" أو "منجز بدقة". هناك ترجمة أخرى بمعنى "منجز"، ومع ذلك فنحن نستخدمها اليوم بمعنى الخالي من العيوب. إذا كان لابد لك إلا والسعي للكمال، فاستخدم على الأقل التعريف الأول بدل التعريف الأخير (غير القابل للتحقيق).

إذا كنت من الكماليين أو شخصاً مبالغاً بالإنجاز أو مدمناً على العمل، فأنت في الغالب معتاد على مواجهة التحديات الكبيرة، لدرجة أن طبيعة هوسك تجعلك تستسهل فعل ما هو صعب. وللمفارقة، ستجد صعوبة في البداية خلال محاولة أن تكون عادياً.

لفهم السبب، نحن بحاجة إلى فهم دور الخوف في السعي وراء الكمال: "إذا لم أقم بملء ما تراه مناسب هنا على أكمل وجه سيحدث أمر سيئ". ناشدو الكمال معتادون على هذا القلق لدرجة أن هذا الشعور لم يعد شعوراً واعياً فيهم، إنه فقط الوقود الذي يجعلهم يعملون ويتدربون.

ويكون الكمال مع المنطق خاطئاً تماماً، إلا أن الشعور نفسه حقيقي بالتأكيد. بالنتيجة، تتطلب محاولة الكماليين أن يصبحوا عاديين شجاعة أكبر مما يتطلبه الاضطلاع بأي تحدٍ آخر. كما أنه يصيبهم بالخوف، لأنهم لم يختبروا يوماً ميزات الأداء العادي.

هكذا يصف برنز الأمر: "هناك بابان للمعرفة. أحدهما عليه علامة كمال والآخر عليه علامة عادي. باب الكمال مزخرف ومبهرج ومغرٍ. تحاول الدخول من باب الكمال وتجد دوماً حائطاً قرميدي على الجانب الآخر. بالمقابل، هناك في الجانب الآخر من باب العادي حديقة سحرية لعله لم يخطر يوماً على بالك أن تفتح الباب وتنظر خلفه". وكما يكتب برنز في دراسة حالية ضمن مدونته "الكثير من المعاناة في حياتنا مصدرها حبنا للكمال واعتقادنا بأنّه علينا التميز. لكن الحياة تصبح مميزة خاصة عندما تكون غير ملزم بأن تكون مميزاً. ولعل هذا ما أشار إليه بوذا عندما تحدث عن "الموت العظيم"، أو موت الأنا".

إذا كنت ترى في نفسك شخصاً يستسهل الإقدام على المهام الصعبة، فأنت تصّعب الأمور على نفسك: جرّب أن تكون عادياً ليوم واحد. ربما يفاجئك ما تكتشفه.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي