بيئة العمل المتكاملة في الشركات الناشئة هي أهم مقوّم لتنمية اقتصاد محلي نشط. ومرة تلو أخرى، يُثبت تضافر جهود الموهبة والعلم قدرته على خلق فرص عمل، وإنشاء شركات جديدة، وجذب رؤوس أموال استثمارية، وأيضاً جذب الشركات إلى المدن، ولكنها في النهاية هي تلك المقومات الصعبة التي من شأنها أن تُفضي إلى المزيد من الازدهار والعدالة في مجتمعاتنا.
لقد كانت فرصة شركة "أمازون إتش كيو 2" (Amazon HQ2) بمثابة نداء صحوة بالنسبة إلى العديد من قادة الشركات وقادة المجتمع المدني، فرغم الطلبات المقدمة إليها من المدن الصغيرة والمتوسطة، اختارت شركة أمازون الاستثمار في اثنتين من كبرى المدن، وهما ولايتي نيويورك وواشنطن العاصمة (وقد انتهى المطاف بالشركة أن انسحبت بخططها في جعل مقرها الرئيسي في نيويورك). وكانت تلك النتيجة بمثابة مؤشر على أنّ استراتيجية التنمية الاقتصادية التقليدية لتوزيع أموال دافعي الضرائب على شكل دعم مالي وحوافز في مقابل عمليات انتقال الشركات لا طائل منها، وتحتاج تلك الاستراتيجية لأن يحل محلها تركيز مكثف على الاستثمار العام في البنية التحتية لبيئة العمل المتكاملة للشركات الناشئة.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن للشركات الناشئة النجاح في عالم يسيطر عليه فيسبوك وجوجل؟
وقد طلب قادة المجتمع المدني، وعلى نحو متزايد، من قادة الشركات الحاليين المساهمة في التنمية الاقتصادية للمدن وبذل جهود مكافئة، بدلاً من مجرد السعي نحو الإعفاءات الضريبية في مقابل إتاحة فرص عمل أو تقديم تبرعات لمبادرات مفضلة لسياسي قوي. وعوضاً عن ذلك، ينبغي على قادة الشركات المهتمين بإحداث أثر مدني أن يعملوا بجد وأن يتعاونوا مع القادة السياسيين للاستثمار في البنية التحتية الأساسية، ولتسخير المواهب المتنوعة للمساعدة في تعزيز بيئات عمل متكاملة نابضة بالحياة.
وتُعتبر مجتمعات الشركات الناشئة وبيئات العمل المتكاملة هي الحل، إذ هي أكثر نشاطاً وانتشاراً من أي وقت مضى، وكذلك مساهمتها في النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل مُثبتة. ما يُعتبر أقل موثوقية هي الإجراءات التي يمكِن للقطاع العام البدء بها لتعزيز نمو هذه المجتمعات، وما يمكن لقادة الشركات العمل عليه لتشجيع تلك الإجراءات.
نقترح هنا ثلاثة مجالات للتركيز عليها، إذ يُمكن لقادة المجتمع المدني وقادة الشركات أن يستفيدوا من الموارد غير المستغلة في المجتمع، بغرض دفع عجلة النمو الاقتصادي. وهي:
- الاستثمار في مؤسسات التعليم العالي كمحركات للابتكار ولخلق فرص العمل، لا سيما الاستفادة من قدرتها على جذب المواهب على المستوى الدولي.
- تعزيز المجتمعات المتنوعة، من خلال الاستعانة بالمواهب غير المستغلة، لرفع العوائد الاقتصادية، فضلاً عن تحقيق قدر أكبر من العدالة.
- وضع بنية تحتية أساسية لضمان النمو في المستقبل، والإبقاء على القوة العاملة المحلية المدَّربة تدريباً عالي المستوى.
التعليم العالي والمواهب على المستوى الدولي
التعليم هو مجال واضح المعالم، إلا أنه غالباً ما يُساء فهم في قدرته في إحداث التعاون بين القطاعين العام والخاص. إذ تلعب مؤسسات التعليم العالي دوراً حاسماً في تنمية اقتصاد الابتكار المحلي من خلال تسويق البحوث والعمل كمركز للتدريب الريادي وإنشاء شركات جديدة، وهو ما ينطبق بشكل خاص على المؤسسات الواقعة في المناطق الحضرية. وكما أصبحتْ المبادرات الريادية واسعة الانتشار في مجال التعليم العالي، برزت أولويتان لامعتان، هما: تسويق الملكية الفكرية التي أنتجها الباحثون. وتشجيع الطلاب والخريجين لمتابعة المشاريع الريادية. هذه المساعي جديرة بالاهتمام، إلا أن هناك مجالات أخرى تستحق الاهتمام نفسه أيضاً.
اقرأ أيضاً: 3 أمور تحفز نمو ريادة الأعمال في أفريقيا
إحدى الفرص المتاحة أمام الكليات هي الاستفادة من الطلاب والباحثين الدوليين، والذين يُحصلّون تعليمهم في الولايات المتحدة، ولكن غالباً ما تُوصد الأبواب بوجه أولئك الخريجين، ويُرفضون بموجب نظام الهجرة الذي تشوبه الكثير من الثغرات. إلا أن الاحتفاظ بهؤلاء الخرجين، يسمح للمدن أن تستفيد من مساهماتهم الاقتصادية، ويدعم وجودهم تعزيز إنشاء شركات جديدة، وجذب رؤوس الأموال إلى المنطقة، والدفع من أجل خلق فرص عمل.
يتم عادة وضع سياسة الهجرة على المستوى الفيدرالي، إلا أنّ المبادرات المحلية المبتكرة تُظهر كيف يمكن للمدن والمجتمعات اتخاذ إجراءات من تلقاء نفسها. أحد برامج الريادة لرواد الأعمال الدوليين هؤلاء هو البرنامج الدولي لرواد الأعمال المقيمين، المموّل من ولاية كومنولث ماساتشوستس، والذي انطلق من جامعة "ماساتشوستس"، (حيث يعمل زميلنا). يتم توظيف رواد الأعمال المهاجرين بدوام جزئي من قبل الجامعة وشراء خبراتهم للمساهمة في المجتمع الريادي، ويحصلون في الوقت نفسه على تأشيرة "إتش 1 بي" (H1B) (المعفاة من الحصة السنوية الراجعة إلى إعفاء خاص صادر للمؤسسات غير الربحية)، وذلك للسماح لهم بالبقاء في المجتمع لتأسيس شركاتهم الناشئة. وكانت النتائج منذ انطلاق البرنامج، وخلال السنوات الأربع الماضية استثنائية، وهي: مشاركة 60 رائد أعمال في البرنامج، استثمروا رأسمال تجاوز 400 مليون دولار، ووظفوا حوالي 1,000 شخص، معظمهم في مناصب ذات رواتب مرتفعة. الاستحواذ على شركتين كانتا قد انضمتا إلى البرنامج، هما: شركة "كينشو" (Kensho) بقيمة 600 مليون دولار، وشركة "بيلباك" (PillPack) بمبلغ مليار دولار. المجتمعات الأخرى التي أطلقت البرنامج من خلال تعاون مماثل بين القطاعين العام والخاص هي بولدر وكولورادو وديترويت وميشيغان.
المواهب المتنوعة
الاستثمار في التنوع والاندماج هو وسيلة مُثبتة لتحسين العوائد الاقتصادية في بيئة العمل المتكاملة في مجال الابتكار، وتعمل هذه المبادرات على أفضل وجه من خلال بذل جهد إقليمي، على مستوى قطاعات عدة، بغرض تطوير إجراءات التوظيف ومعالجة التحيزات المنهجية في عمليتي التوظيف والاحتفاظ بالموظفين. ومن الجدير بالذكر أنّ الحجة الاقتصادية للتنوع والاندماج جلية، وذلك بالاستناد إلى مجموعة كبيرة من البحوث. ورغم قدرة أي شركة أو مؤسسة غير ربحية على تطوير إجراءات التوظيف لديها، إلا أنه لا يمكن لأي منها تغيير مستوى تقدير التنوع بالنسبة إلى بيئة العمل المتكاملة بمفردها. ويعتمد النجاح في هذا على خلق تعاون واسع النطاق عبر تلك البيئة بأكملها.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن للشركات الكبرى العمل بشكل أفضل مع الشركات الناشئة؟
وهناك العديد من البرامج الواعدة في هذا المجال، بما فيها برنامج "يير أب" (YearUp)، وبرنامج "كود2040" (Code2040) وبرنامج "ريزيليانت كودرز" (Resilient Coders). وإليكم أحد الأمثلة على هذا: توفر مؤسسة "هاك ديفرسيتي" (Hack.Diversity)، ومقرها بوسطن، خدمات التدريب والتوجيه للمهندسين من أصحاب البشرة السمراء واللاتينيين، وذلك لمساعدتهم على تأمين وظائف لهم مع بداية حياتهم المهنية في شركات الابتكار الأسرع نمواً في المنطقة. وتساهم الشركات في ثلثي الميزانية مقابل خدمات التوظيف والتدريب، في حين توفر المؤسسات المدنية والخيرية المحلية المال المتبقي. وقد نجح البرنامج في خلق ثلاث مجموعات من 100 مهندس من أصحاب البشرة السمراء، بمعدل توظيف مثالي وصل إلى 100% تقريباً. ما أدى إلى الحصول على دعم من مبادرة تشان زوكربيرغ كجزء من استراتيجية التوسع الطموحة.
البنية التحتية الأساسية
لا تقتصر الشراكات بين القطاعين العام والخاص على ظاهرة حصلت في القرن الواحد والعشرين، ففي سبعينات القرن الماضي، دعا ديفيد باكارد قيادات الشركات التي تعمل في صناعة التكنولوجيا والشرائح الإلكترونية الصغيرة عبر منطقة الخليج الأميركي لإطلاق مجموعة "سيليكون فالي ليدرشب غروب" (Silicon Valley Leadership Group). ركزت المجموعة على البنية التحتية المحلية ومبادرات التعليم ودعم الاستثمار العام في سكك النقل الخفيفة والإسكان وغيرها من البنى التحتية الأساسية، والتي ساهمت في التنمية الاقتصادية الهائلة والمفاجئة في وادي السيليكون. بالنسبة إلى الأوساط الأخرى التي تتطلع إلى إنشاء "وادي السيليكون التالي"، فإنها ستكون قد قدمت عملاً جيداً إذا ما أخذت بعين الاعتبار الاستثمار في البنية التحتية الأساسية باعتبارها وصفة مجربة للنجاح. فإذا كان نظام النقل الخاص بشركتك ينهار، فإنك ستواجه وقتاً أصعب كثيراً من أجل خلق وظائف تعتمد على اقتصاد الابتكار. ولكن إذا كان بمقدور قادة الشركات أن يتعاونوا مع قادة المجتمع المدني، لإعادة صياغة آلية انتقال العمال بكفاءة من مستوى إلى آخر، فإنّ الفرص كثيرة.
اقرأ أيضاً: كيف نبدأ ثورة في مجال ريادة الأعمال؟
عن طريق الابتكارات في مجال النقل والإسكان المتعاقبة عبر مدننا، ستكون الشراكات بين القطاعين العام والخاص أساساً هاماً لخلق بيئة تسمح للجيل القادم من رواد الأعمال بالعمل والعيش والمرح. يتمتع قادة الأعمال بلحظة فريدة من نوعها، تسمح لهم بالاستثمار في إرث مدني يدور حول الانتقال الناجح إلى اقتصاد الابتكار، إذ تقود مسيرة النمو الشركات الناشئة والشركات متسارعة النمو. وهي فرصة لا تقتصر على منطقة السواحل فقط، ولكنها تعتمد على توزيع منصف بشكل كبير بين مراكز تمتد عبر جميع أنحاء البلاد. إلا أن هذه الشراكة تستلزم أن يتمتع قادة الشركات بنظرة مستقبلية بعيدة المدى، وأن يطالبوا بأكثر من مجرد تخفيضات ضريبية وحوافز. يتطلب عكس مسار عقود طويلة من تردي ريادة الأعمال الأميركية أن تحشد المجتمعات جهودها لأجل بناء بيئة عمل متكاملة تدعم الشركات الناشئة بعدما تم جذب الشركات إلى المدن.
اقرأ أيضاً: كيف لرائد الأعمال أن يدير مقاومة فريق عمله للتغيير؟