على غرار كثير من مؤسسات الرعاية الصحية، يرعى مستشفى "جايزنجر" بمدينة "دانفيل" في "بنسلفانيا" عدداً هائلاً من المرضى من كبار السن ذوي الاحتياجات المعقدة. العديد من هؤلاء المرضى العاجزين غير قادرين على الخروج من منازلهم، ويعانون من انعدام الأمن الغذائي والعزلة الاجتماعية و صعوبة التنقل وغيرها من الصعوبات. ما يحد من وصولهم إلى خدمات الرعاية الأولية، ويؤدي إلى زيادة مخيفة في إجمالي تكاليف رعايتهم. فما هو برنامج "جايزنجر" للرعاية الصحية؟
نموذج "جايزنجر آت هوم" للرعاية الصحية المنزلية
لمواجهة هذه التحديات، دشن مستشفى "جايزنجر" منذ أكثر من 18 شهراً نموذجاً جديداً لتقديم الرعاية تحت مسمى "جايزنجر آت هوم" للرعاية الصحية المنزلية، الذي ينقل الرعاية الشاملة إلى مستوى أعلى ويصل بها إلى منازل هذه الفئة العاجزة. بفضل التعاون الوثيق مع أطباء الرعاية الأولية للمرضى، يستطيع فريق من الأطباء والممرضين وأخصائيي التغذية ومدراء الحالات المرضية والصيدليين والمسعفين المتنقلين وغيرهم من الطواقم الطبية المساندة، أن يقدموا الرعاية الصحية للمرضى الهرِمين ذوي الحالات الطبية المعقدة إلى حيث يقيمون. علاوة على تقديم خدمات مثل التقييم المنزلي المنتظم، وإجراء الاختبارات الصحية اللازمة، ورعاية الحالات الحادة، ومعالجة الجروح، يوفر البرنامج أيضاً الرعاية المتخصصة عند الحاجة. بعكس نماذج الرعاية المنزلية التقليدية التي عادةً ما تقدم الرعاية بشكل عرضي لمدة تتراوح بين ثلاثة وخمسة أيام، فإن نموذجنا طولي، ويبدأ بتقييم صحي شامل في منزل المريض، مع خطة للرعاية والتنسيق مع أطباء الرعاية الأولية، وتقديم الخدمات الطبية المستمرة كلما استدعت الحاجة إلى ذلك.
اقرأ أيضاً: ما هي العراقيل الخمس للرعاية الصحية المنزلية وكيف يمكن التغلب عليها؟
كانت النتائج مذهلة: فمع أكثر من خمسة آلاف مريض مسجل بالبرنامج، رأينا انخفاضاً بنسبة 35% في زيارات قسم الطوارئ، وتراجعاً بنسبة 40% في تسجيل الدخول بالمستشفى، وانخفاضاً في متوسط الإنفاق السنوي لكل مريض بنحو ثمانية آلاف دولار. والنتيجة الأهم بالنسبة للمرضى هي تحسُّن جودة حياتهم.
نتائج ذات أهمية
تأمل حالة مريض سنسميه آدم، يبلغ من العمر 79 عاماً، ويعاني من قصور في القلب وانسداد رئوي مزمن، ولم يعد يحضر لزيارات الرعاية الطبية المتخصصة. في البداية، اعتقد فريق الرعاية الأولية الذي يتابع حالته أنه ببساطة مريض غير ملتزم، وطلبوا من فريق برنامج "جايزنجر" للرعاية الصحية المنزلية تقييم حالته لإلحاقه بالبرنامج. كشفت الزيارة المنزلية عن المشكلة، فقد اشتد المرض على آدم حتى أن زوجته نقلت فراشه إلى غرفة المعيشة حيث أصبح يأكل وينام ويستحم ويشاهد التلفاز. أصبح يتنفس بصعوبة على الرغم من استخدامه وحدة أكسجين متنقلة، وتراجعت شهيته للطعام، ونظراً لأنه لم يعد قادراً على السير أو حتى الوقوف، اضطر لارتداء حفاض.
اقرأ أيضاً: نموذج مبتكر للرعاية الصحية المنزلية من مستشفى ماونت سيناي
اجتمع الفريق وباشروا بتنفيذ خطة الرعاية: فمن فورهم قاموا بتعليق الأمصال الوريدية، وزيادة ضخ الأكسجين، وتغيير المستنشق لاستخدام كل من عقاري الإبتاتروبيوم بروميد وألبوتيرول. ثم باستخدام رابط اتصال آمن، اتصل الفريق من غرفة معيشة آدم بطبيبه المتخصص في أمراض الرئة لمراجعة حالته، ثم أضافوا إلى الخطة العلاجية المضادات الحيوية التي تؤخذ عن طريق الفم والكورتيكوستيرويدات. قام الفريق بترتيب جلسات إضافية للعلاج الفيزيائي (الطبيعي) في المنزل، بالإضافة إلى جلسات للإرشاد الغذائي، كما حصلوا على موافقة آدم على تلقي لقاح الإنفلونزا (وهو اللقاح الذي لطالما رفضه). وبفضل الزيارات المنزلية المنتظمة، والتواصل اليومي والأسبوعي الآمن بين أعضاء الفريق، حقق آدم تقدماً مذهلاً. وسرعان ما أصبح قادراً على السير إلى المطبخ وإطعام نفسه، والوصول إلى الحمام بأقل قدر من المساعدة، وزاد وزنه نحو خمسة كيلوجرامات بفضل نظامه الغذائي الغني بالبروتينات. وأخيراً، أصبح قادراً على الذهاب بنفسه لزيارة طبيبه المتخصص في الأمراض الرئوية وكذلك أطباء الرعاية الأولية.
كيف يعمل البرنامج؟
من بين أهم عناصر البرنامج اختيار المرضى بعناية، أي تحديد أكثرهم احتياجاً للتدخل. باستخدام بيانات فواتير العلاج، قام فريق الرعاية الطبية بتقييم الحالات المستفيدة من التأمين الصحي ضمن خطة "جايزنجر" العلاجية نفسها احتكاماً إلى حجم الاستفادة والحالات الطبية المزمنة، بهدف العثور على هؤلاء المرضى الأكثر عرضة للخطر. كان نصف المرضى المؤهلين مصابين بقصور في القلب، و40% منهم يعانون مرضاً رئوياً مزمناً، وثلثهم يعاني من السكري، والعديد منهم مصابون بمضاعفات ذات صلة مثل أمراض الكلى. كان متوسط أعمارهم 84، أي أكبر سناً مما كان يتوقع الفريق، بمتوسط تكاليف سنوية يتجاوز 30 ألف دولار، والعديد منهم تخطت تكاليفه السنوية 100 ألف دولار. على مدار الشهور الستة الماضية، كنا نتلقى الإحالات مباشرةً من مقدمي الرعاية الأولية والمتخصصة، وهي تمثل حالياً نحو 50% من عمليات التسجيل.
البرنامج الذي بدأ في ربيع عام 2018 بطبيب واحد وممرضة واحدة وأخصائي صحي في منطقة ريفية صغيرة، توسع حالياً ليضم أكثر من 100 طبيب يغطون ما يربو على 15 مقاطعة. أحد أسباب نجاح التوسع وتعميم التجربة هو الاستعانة بالمهارات المناسبة و"توزيع الأدوار"، حيث يتولى الأطباء والممارسون المتخصصون إجراء فحص طبي شامل على المريض بينما تتولى الممرضة أو الأخصائي الصحي تقييم منزله، مثل: الطعام المتوفر لديه، والأدوية التي يستخدمها (أو يعجز عن استخدامها)، والمسائل المتعلقة بالسلامة. أحياناً يكون للإجراءات التدخلية البسيطة أثر كبير. فمثلاً: يركز الأخصائيون الصحيون لدينا على إجراءات غير مكلفة، كتركيب مسند استحمام، أو توفير مشاية بعجلات يمكنها أن تمنع الإصابة بكسر حاد في الحوض.
كما طورنا تقنياتنا لجمع البيانات الطبية عن بُعد. على سبيل المثال: نستخدم ميزاناً متصلاً بالبلوتوث ليتيح للمرضى إرسال أوزانهم يومياً، مما يساعدنا في مراقبة احتمالات إصابتهم بتراكم السوائل. كما تتيح صور الجروح المرسلة رقمياً في اتخاذ قرار مشترك مع الخبراء الجراحين بالمستشفى، مما يجنب المرضى مشقة التنقل وأوقات الانتظار. ومؤخراً أضفنا زيارات الرعاية الصحية عن بُعد عقب خروج المريض من المستشفى، حيث يقوم أخصائي صحي بزيارة المريض في منزله ويصله افتراضياً من خلال جهاز آيباد يرتبط بأجهزة خارجية مثل جهاز قياس معدل ضربات القلب، والسماعة الطبية، وجهاز قياس ضغط الدم.
اقرأ أيضاً: الرعاية الصحية الافتراضية يمكن أن توفر على أميركا المليارات سنوياً
كما ركزنا أيضاً على أكثر الطرق فاعلية وأقلها تكلفة في توزيع الطواقم الطبية. هل يستطيع الصيدلي إجراء مراجعة دوائية من مكتبه مع الأخصائي الصحي في منزل المريض بدلاً من الذهاب بنفسه؟ هل يستطيع المسعفون المتنقلون تقديم خدمات الرعاية للحالات الحادة من أجل توفير الوقت للممرضات لخدمة مرضى آخرين يحتاجون تقييماً أكثر شمولية؟ الإجابة عن كلا السؤالين هي نعم.
خلال مراحل التخطيط، أسأنا تقدير كم العمل المطلوب لعمليات التسجيل الجديدة وإدارة المكالمات الواردة وغيرها من المهمات الإدارية. ومع توسعنا، أدركنا حاجتنا إلى فريق متمركز مساعد، أو طاقم تنظيمي، يعمل من داخل المكتب للتعامل مع أعداد المكالمات المتزايدة (يصلنا حالياً نحو 1,200 اتصال أسبوعياً من المرضى)، وتنسيق الاختبارات والزيارات، وإدارة طلبات الأدوية والإمدادات الطبية، واستيعاب الكم المتنامي من المهمات الإدارية. وحالياً يتيح هذا الطاقم للفريق المتنقل قضاء مزيد من الوقت مع المرضى بأقل قدر من المقاطعات. (لقد اكتشفنا أن أطباءنا المتخصصين يفضلون التواصل المباشر عن بُعد باستخدام خدمة تراسل آمنة. بينما يفضل أطباء الرعاية الأولية التقليل من مقاطعات الرسائل النصية ما دام بوسعهم مراجعة ملاحظات الزيارة في السجل الصحي الإلكتروني ليبقوا على دراية بخطة الرعاية المقدمة).
مرحلة الاحتضار
أدى التعامل مع مرضى "جايزنجر" الأكثر احتياجاً إلى تقديم الرعاية بشكل مباشر لعدد هائل من المرضى المحتضرين. فالمناقشات حول الوفاة والرعاية المُنسَّقة لا تقل أهمية عن أي عنصر آخر في عملنا. بالنسبة لهؤلاء المرضى ذوي الحالات الحرجة، ينخرط الطاقم الطبي في مناقشات متكررة مع المريض وأسرته حول تطورات حالته وأولوياته ورغباته. وقد تطلب هذا تحلي جميع أفراد الطاقم الطبي بالكفاءة والقدرة على استخدام المهارات اللازمة لمساعدة المرضى وأسرهم في اتخاذ القرارات المتعلقة بنهاية الحياة. وينطوي التدريب المتخصص على جلسات تفاعلية قائمة على تمثيل الأدوار ودراسة الحالات التي تشمل ممثلين مدرَّبين على تأدية دور المرضى (أو ما يسمى بـ "المرضى المعياريين"). وقد عمل فريق "جايزنجر" للرعاية الصحية المنزلية مع فريق السجل الصحي الإلكتروني لتنظيم عملية التوثيق وتخصيص مكان واحد للمعلومات المتعلقة برغبات المريض، وأهداف الرعاية، ووكيل المريض في اتخاذ القرارات الصحية.
إحدى مرضى "جايزنجر" صُرِّح لها بالخروج عقب إجرائها جراحة لاستئصال سرطان الأمعاء، لكنها أصيبت مع مرور الوقت بورم ثانوي. كما أصيبت مؤخراً بتقرحات جلدية نظراً لتدهور صحتها، وأصبحت تواجه صعوبة بالغة في الخروج من منزلها. قام مدير حالات الرعاية الأولية بالاتصال بفريق "جايزنجر" للرعاية الصحية المنزلية طلباً لإجراء زيارة للمريضة، فقام الفريق متضمناً أخصائياً صحياً بزيارة فورية لمنزلها. تعامل الفريق مع المشكلات الصحية الجديدة، بينما فتح الأخصائي الصحي اتصالاً للرعاية عن بُعد مع أحد مدراء الخدمات الطبية المحليين. ونظراً لتدهور الحالة الصحية للمريضة مؤخراً، تحولت المحادثات الافتراضية التي أعقبت ذلك، والتي ضمت العديد من أفراد الأسرة، إلى أهداف للرعاية ورغبات أخيرة للمريضة، واقترح مدير الخدمات الطبية إرسال فريق متخصص في رعاية المحتضرين وعدَّد مزايا ذلك الأمر، وقد وافقت المريضة وأسرتها على أن ذلك سيكون مفيداً. رتب الفريق كل شيء على أن تبدأ رعاية مرحلة الاحتضار في اليوم التالي. تمكنت المريضة من قضاء آخر أيامها في منزلها، محاطة بأسرتها، وتحت رعاية فريق رعاية المحتضرين وفريق الرعاية الصحية المنزلية.
خطوتنا التالية
نحن ندرس حالياً تقنيات من شأنها أن تساعدنا في الحفاظ على استمرارية البرنامج وتوسيع نطاقه. على سبيل المثال: نعمل جاهدين على تحسين عملية دمج البيانات الخاصة بالتصاريح والمطالبات من دافعي التأمين مع البيانات الطبية في السجلات الصحية الإلكترونية، بالإضافة إلى تقييم البرمجيات اللازمة لتحسين تنظيم المواعيد والقرارات المتعلقة بتوفر الفرق الميدانية، وذلك لضمان الاستجابة السريعة للمرضى ذوي احتياجات الرعاية الحادة. كما أننا نسعى إلى وضع مخططات للرعاية طويلة الأمد وكذلك تحديد إجراءات للتعامل مع الأزمات لتحسين سير عملنا وتواتر تدخلاتنا. وأخيراً، نحاول جاهدين تحسين مستوى الخدمات التي يحتاجها المرضى لضمان تحقيق أفضل النتائج. وهذا يشمل تحديد عدد مرات الزيارة اللازمة، وأفراد فريق الرعاية الذين يُشترط وجودهم في كل زيارة، والتوقيت المناسب لتقليل الزيارات المنزلية و"تخريج" المرضى، مما يتيح لهم العودة إلى فرق الرعاية الأولية العادية المختصة بحالتهم.
ينبغي أن يتقن أطباء برنامج "جايزنجر" للرعاية الصحية المنزلية أداء عدة أدوار في هذا النموذج بحرفية فائقة. قوتنا الحقيقية تكمن في المرونة التي أبداها أعضاء الفرق في التأقلم مع طرق العمل الجديدة كلما تطور النموذج. وقد اكتشفنا أن أهم مفتاح لتحسين رعاية المرضى ذوي الاحتياجات المعقدة والعاجزين عن الخروج من منازلهم، هو المفتاح الذي يفتح أبواب بيوتهم.
اقرأ أيضاً: كيف يحسّن نظام الرعاية الصحية عن بعد الرعاية في المناطق الريفية؟